القصة الحادية والأربعون
صور من التربية
صور من التربية
أراد الشيخ أن يختبر تلميذه بعد أن قضى فترة بصحبته يعلمه ويرشده ، ويعرض عليه طرق التربية وفنون التعامل مع الناس ، فقال :
يابني ؛ ما تقول في إنسان أخطأ حين أساء إلى غيره ، أيُعاقب وحده أم يُجمَل معه في العقوبة غيرُه لقرابته منه ، أو لانتسابه إلى أهله وعشيرته ، أو لجنسه ووطنه ؟ .
قال التلميذ : بل يُعاقب المسيء وحده ، ومن الظلم معاقبة غيره بسببه ، فالله تعالى يقول :
" ولا تزر وازرة وزر أخرى " .
قال الشيخ :
أحسنت ، فما تقول لرجل أراد أن يشكرك لجميلٍ صنعتـَه له ، فأخطأ دون أن يشعر ، أتعود لمعاقبته أم تنبهه؟ .
قال التلميذ :
قد أنبهه إن لزم الأمر ، وأتركه متجاوزاً عنه ، إذ ْ جانبه الصواب حين أراد شكري ، وقد يكون خطؤه قولاً ، وقد يكون عملاً ، فعليّ تصحيح عمله ، والتجاوز عن قوله .
قال الشيخ :
أحسنت أيضاً – يا ولدي – فما تقول في إنسان أخطأ عن عمد في الإساءة إليك ؟
قال التلميذ :
أعاقبه إن قدِرت ، وأكيل له الصاع صاعين ، ولا أبالي ، فهو يستحق ذلك .
قال الشيخ :
أيدك الله ، يا بني ، فما تقول أخيراً في رجل كان ظاهره غيرَ باطنه . نفع الناس بقوله ، وضرّ نفسَه ، إذ ْ كان فعلُه غيرَ قوله .
قال التلميذ :
على نفسها جنت براقش ، فهو كنافح المسك على غيره ونافخ الكير على نفسه .
قال الشيخ :
حفظك الله - يا بني – وزادك علماً وحُسْنَ عمل ، إني بك لفخور ، ولك داعٍ ، وبك مؤملٌ الخير الكثير .
قال التلميذ :
أفلا تذكر لي – يا سيدي – أمثلة على ما امتحنْتني فيه ؟. كي أستفيد أمثلة تضيء لي دربي ؟
قال الشيخ :
بلى .. فلكل سؤال حادثة رواها النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه ، فكانت الضياءَ الذي سلكوا على هداه طريقهم . والمنهج الذي اتخذوه ، فأوصلهم إلى الهدف الصحيح .
أما مثال السؤال الأول :
فقد قص علينا الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم أن نبياً من الأنبياء صلوات الله عليهم جميعاً نزل تحت شجرة ، فما استقر جالساً حتى قرصته نملة ، فاستشاط غضباً ، وقام من فوره ، فأمر أتباعه أن يرفعوا مجلسه ، ففعلوا ، فنظر إلى أسفل الشجرة ، فرأى النمل يسير بانتظام ، يحمل قوته إلى بيته أسفل الشجرة ، ويعمل بدأَب ونشاط ، صاعداً نازلاً ، مغرّباً ومشرّقاً ، ولعل نملة تأذ ّت حين جلس فوقها النبي ، فقرصته خوف أن يطحنها ، فلم يتمالك نفسه أن أمر أتباعه أن يُضرموا النار في بيت النمل ، ففعلوا ، فأحرق النمل ، وقضى على آلاف منه .
فأوحى الله تعالى إليه معاتباً ومعلماً : " فهلاّ نملةً واحدة " رأيتَها تحتك ، فقتلتَها قصاصاً ؟! ما ذنب ما قتلته حرقاً ، إنه ظلم بيّن ، وتصرّف لا ينبغي أن يكون .
صحيح البخاري ، كتاب بدء الخلق
باب إذا وقع الذباب في إناء أحدكم
قال التلميذ :
هلاّ أوضحت أكثر يا سيدي وبيّنتَ من العبَر والعظات ما يفيد ؟.
قال الشيخ :
هذا واجب العلماء نحو تلاميذهم وعامّة المسلمين يا ولدي .
فقد علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه القصة :
1- أن العقوبة لمن اعتدى وأثم ، أما البريء فلا يُؤخذ بجريرة غيره .
2- وأن النمل – كغيره من المخلوقات – أمم أمثالُنا ، تسبّح الله وتحمده . فيجب الحفاظ – ما أمكن – عليه .
3- أنه لا يعذِّب بالنار إلا رب النار ، هذا في شريعتنا – معشر المسلمين – ويعاقَب المسيء فقط .
قال التلميذ :
جزاك الله – يا شيخي – خيراً ونفعنا بعلمك ,....
قال الشيخ : إن مدحتَني بما ليس فيّ قصمت ظهري ... ثم قال الشيخ :
أما مثال السؤال الثاني :
فقد روى النبي صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى يفرح بعودة المسيء إلى رحاب عفوه ، وتوبته عن المعاصي كثيراً ، ومثـّل له بفرح الرجل الذي أضاع راحلته في الصحراء ،وعليها ماؤه وزاده ، فلما أيس من الحياة أعاد الله إليه راحلته ، فأخطأ الرجل حين أراد شكرالله تعالى .
قال التلميذ :
وكيف ذاك يا سيدي ؟
قال الشيخ :
سافر رجل وحده في صحراء مترامية الأطراف – والسفر الفذ ّ( الفرد) ليس حميداً ، وقد وصف الرسول صلى الله عليه وسلم المسافر وحده ، فقال : هو شيطان – سافر حاملاً على بعيره ما يحتاجه من ماء وزاد ، اخترقها يريد الوصول إلى مبتغاه في الطرف الآخر منها ، جدّ السير فيها ، حتى إذا أدركتـْه القالة ( القيلولة ) ربط راحلته إلى ظل شجرة ونام ، وكان نومه طويلاً عميقاً ، لم يصحُ منه إلا وقد انفلتت الراحلة ، وغابت عنه ، فقام مشدوها فزعاً ، يبحث عنها هنا وهناك ، فلم يجدها .. انطلق إلى أعلى كثيب شرقاً ونظر إلى البعيد ، فلم يجدها ، وانطلق إلى كثيب في الغرب يرجو أن يعثر عليها ، فخاب ظنه . هرول في كل الاتجاهات عله يعثر عليها أو على أثرها ، فعاد بخفي حنين .
عاد إلى الشجرة كليلاً مرهقاً ، خسر راحلته ، وخسر معها زاده وماءه ، ، وأيقن بالهلاك ، فارتمى مكدوداً حزيناً ينتظر الموت ، ويندب حظه ... وأخذه النوم مرة أخرى .
لما أفاق ، وجد راحلته ، فوق رأسه ، فلم يصدّق حتى أخذ بلجامها ، وتحسسه مرات ومرات ، فلما تيقن أنه نجا من الموت عطشاً وجوعاً وعادتْ إليه روحه ، وأخذه الفرح كل مأخذ قال من شدة فرحه يشكر ربه سبحانه : " اللهم أنت عبدي ، وأنا ربك ؛ أخطأ من شدة الفرح " .
إن الله تعالى أشد سروراً ، وأكثر فرحاً بتوبة عبده وعودته إليه - إلى التقوى والرشاد - من هذا الرجل بعودة راحلته إليه ...
رياض الصالحين ، باب التوبة
قال التلميذ :
سبحان الله ، لا إله إلا الله ؛ ما أكرم خالقنا ، وما أعظم عفوه ...
تبت إليك يارب ، فاقبلني في عبادك الصالحين
ثم التفت إلى شيخه ، فرأى عينيه تدمعان وشفتيه تلهجان بذكر الله رب العالمين ... فانتظر قليلاً حتى هدأ الشيخ ... ثم نظر الشيخ إليه ، فقال :
أما السؤال الثالث :
فمثاله ما رواه النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال :
إن امرأة تحجّر قلبُها ، فكأنه قـُدّ من صخر ، وغادرتـْه الرحمة ، فأمسى كهفاً مظلماً ، لا يعرف للخير سبيلاً ولا للمعاني النبيلة طعماً ، طرقتْ بابَه الشفقةُ ، فصُدّتْ عنه ، ، وعشعشت فيه الكراهية ونمَتْ .. لعل هرة أكثرَتْ الدخول عليها ، فطردَتـْها ! ثم طردَتها ، والحيوان أعجم لا تدفعه سوى غريزته ، تستقطبه الرحمة فيُقدِم ، ويمنعه الأذى فيهرب . والهرة أَلوفٌ – من الطوّافات – تدخل البيوت دون استئذان ، فإن رأتْ ترحيباً من أهل الدار أقامت ، وإن رأت إعراضاً ولّتْ . أمّا أنْ تمسكها هذه المرأة القاسية ، فتربطها وتمنع عنها الماء والطعام ، وتسمع مواءها ، فلا تكترث ، وأنينها فلا تهتم ، حتى تذبل وتذوي ، فتموت صبراً ، فهذه غاية القسوة ، ونهاية في الظلم .
كان أولى بها أنْ تتركها في أرض الله تأكل من هوامها وحشراتها ، تتصيّدها هنا وهناك ، ، ولن تعدم في أرض الله الواسعة ما يقيم أَوَدَها ، ويكفيها مؤونتها .
إن الإسلام العظيم نبّه - فضلاً عن حقوق الإنسان في العيش الكريم والحرية – إلى الرفق بالحيوان ، فلا يحمـّله ما لايُطيق ، ولا يشتدّ عليه بالضرب ، ومن لم يكن كذلك فليس له من الإنسانية نصيب .
وقد رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة في النار تخدشها هرة ، فقال : ما شأن هذه ؟
قالوا : حبسَتها حتى ماتت جوعاً ، لا أطعمتـْها ، ولا أرسلَتـْها تأكل من خَشاش الأرض حتى ماتت ..والبون واسع بين مَن نزل في البئر ، فسقى الكلبَ ، فغفر الله تعالى له ، وبين هذه المرأة ، نعوذ بالله من مصير كمصيرها .
1- صحيح البخاري
كتاب بدء الخلق ،
باب إذا وقع الذباب في إناء أحدكم
2- صحيح مسلم
كتاب الكسوف
باب ما عرض على الرسول في صلاة الكسوف
وقال الشيخ :
أما السؤال الرابع :
فمثاله ما رواه النبي صلى الله عليه وسلم مصوراً الذي يأكل الدنيا بعلمه ، ولا يعرف لله وقاراً ، ولا للآخرة سبيلاً .
قال التلميذ :
فما عاقبة هذا العالم – يا سيدي - ؟
قال الشيخ :
قال النبي صلى الله عليه وسلم :
يُجاء بالرجل يوم القيامة ، فيُلقى في نار جهنم ، ويَلقى من العذاب ما يَلقى ، فتندلق أمعاء بطنه في النار ، ويحترق أديمُه وأحشاؤه ، إنه ملأها في الدنيا ما لذّ وطاب من الحرام ، حين أظهر للناس التقوى ، فغشّهم ، وأبطن الهوى ، وتمادى في الضلالة ، ففضحه الله على هذه الصورة ، يراه الناس يدور بأقتابه ( أمعائه) في النار ، كما يدور الحمار برحاه ، فيدنون منه ، ويتعجبون .
من يراه على هذه الصورة – وكانوا يعرفون فيه الصلاح والتقوى في الدنيا ، فقد كان سَمْتُه سمتَ العلماء ، ومظهره مظهر الأتقياء ، وكان منظره في الدنيا يدل على الاتزان والوقار ، فما باله الآن هكذا؟!! - يجتمعون عليه ويسألونه متعجبين : لئن صرنا في النار الآن لقد كنا في الدنيا نعمل بعمل أهلها فاسقين فاسدين ، فما بالك اليوم بيننا في النار ؟! كنت تأمرنا بالمعروف ، وتنهانا عن المنكر ! تحضنا على الصدق والأمانة ، ونبذ الفساد والخيانة ، وكنت تأمرنا بصون اللسان ، وغض البصر ، وحفظ الفرج ، وحُسن الطويّة !! كنت تنهانا عن الغيبة والنميمة والفواحش ، وتنهانا عن أكل حقوق الناس وتنفـّرنا من ذلك !! فما شأنك ؟ وما الذي قذفك بيننا؟!
وهناك – والعياذ بالله من هذا المصير الأسود والفضيحة الكبيرة – حيث لا يستطيع الإنسان أن يُخفي حقيقته ، أو يُدلّس على الناس ، هناك في النار حيث المستور مكشوف ، والباطن معروف ، ولا مجال للإنكار ، والتزيي بزي الأبرار ، يقول واصفاً حقيقة حاله في الدنيا بكلمات مختصرة اللفظ ، واضحة المعنى " كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه ، وأنهاكم عن المنكر ، وآتيه " ...
إن النار مصير مَن يُدعى إلى مكارم الأخلاق ، فيرفضها ، ويغرق في المفاسد .. وهي – النار - أَولى بمن يدّعي الصلاح ظاهراً ، ويأكل الدنيا بالدين باطناً .. لقد أساء إلى نفسه ، وخسر ذاته .
وإن حسرته على ما فرّط أشد من حسرة أولئك ، ولا سيّما حين يعلم أنّ مَنْ أخذ بنصيحته نجا ، وفاز بالجنة ونعيمها ، وفاز برضا الله ورحمته ... وهو .. هو في نارٍ تلظّى ، لا يصلاها إلا الأشقى ..
ويرفع الشيخ وتلميذه أيديَهما ، يدعُوانِ:
اللهم اجعل سرّنا كعلانيتنا ، وارزقنا التقوى ، والصدق في القول والعمل ، ونجّنا برحمتك من النار ... يا عزيز ياغفار .
صحيح البخاري
باب بدء الخلق ،
باب صفة النار وأنها مخلوقة
قصص رواها النبي صلى الله عليه وسلم
القصة الثانية والأربعون
الخمر أم الخبائث
دكتور عثمان قدري مكانسي
كان العرب يشربون الخمر ويتغنون بها ، ويفخرون بشربها ، إلى أن جاء الإسلام فحرّمها تدريجياً إذ ْكانت نفوسهم عالقة بها ، راغبة فيها .
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُحذر منها – فآثارها في المجتمع مدمرة – وضرب على ذلك مثلاً من الأمم السابقة ، وسماها " أم الخبائث ، فأعلن :
أن الصالحين الأتقياء يحبون أن يكون الناس كلهم كذلك ، لِما يرون من جمال التقوى وآثاره الوضيئة على أصحابها ومن شايعهم ، وأن الفاسدين ليودّون أن يكون الناس كلهم فسفة كذلك ، لأنهم لا يستطيعون الفكاك من الموبقات ، فيغوصون في مستنقعاتها الآسنة ، ويتلطخون بها ، ولا يريدون أن يكونوا نشازاً في مجتمع نظيف ، يُشار فيه إليهم بأصابع الاتهام والتقزز والاستنكار ، فيجتهدون في نشر الرذائل في المجتمعات كي لا يشعروا بالدونيّة أمام أفراده .
وهذا ما كان في بني إسرائيل .. حيث عمّ الفساد في الطبقة الحاكمة التي يسمونها – هذه الأيام – " الطبقة الراقية " ، وعزّ عليهم أن يروا بينهم رجلاً متعبداً طاهراً يلسعهم بنظراته الناقدة ، " ويؤذي " فجورهم بعفافه ، وفسادهم بصلاحه !! فعملوا على أن يزلّ ، فيكونوا سواءً، ولكنْ كيف؟ كيف السبيل إلى الإيقاع به وجرّه إلى فتنة تقـْلب عاليه سافله ؟؟ واهتدَوا إلى النساء ، فإن فتنة بني إسرائيل كانت في النساء ، وهنّ كثير ، والغواية فنّ هنّ رباته ! ، فأعطِ القوسَ باريها ! .. وهكذا كان .
علقته امرأة تتقن فنّ الغواية ، فتقرّبت إليه مدّعية التقوى والهدى ، مظهرة العفة والطهر ، فلما صدّها أرسلت جاريتها تدعوه للشهادة ، فانطلق إليها غافلاً عمّا يُحاك ويُرسم ... فطفقت الجارية كلما أدخلتْه باباً أغلقـَتـْه دونهما .. لقد كان قصر المرأة فخماً على ما يبدو ، كبيراً حتى كثرت فيه الأبواب ! .. ودخل الصيد القفص وهو لا يدري أنه سعى إلى الفخ بقدميه ، ولو كان واعياً ما سعى إليها وحده .. وأي شهادة تكون وراء المغاليق ؟!! إن الشهادة تكون في أوضح الأماكن وأكثرها حركةً .. حتى وصل إلى تلك المرأة ، فوجدها في أجمل زينة وأبهى منظر .. فعلامَ كل هذا ، أهي عالقة به مستهامة؟
قد يكون إناء الخمر من مستلزمات الفجور ، فلِمَ يجد عندها غلاماً صغيراً ؟!.. إنها الدسيسة إذن؛ والاستدراج القسري .. وصدق حدسه .. ولكنْ بعد فوات الأوان .
قالت له بتحد واضح – فقد وقع بين يديها - : بين يديك ثلاث خيارات ، أيها التقيّ الورع!! لا بد من ذلك ، وإلا طار رأسك ، أو فضحناك بين الناس وكشفنا المستور .
نظر إليها يستفهم خياراتها دون أن ينبس ببنت شفة . .. قالت : إما أن تقع عليّ ( فيزني بها )، أو تشرب من هذه الخمرة كأساً ، أو تقتل هذا الغلام .. إنها خطة جهنمية ، لا مفر منها . .. خيّرته بين أمور ثلاثة ، أحلاها مرّ ، فماذا يفعل ؟.
أيزني المؤمن ؟ ! كلاّ ، كلاّ . أوَ يشرب الخمر ؟! لا، لا يشربها ، أيقتل النفس التي حرّمها الله ؟ ألف لا .. أيأبى أن يجيبها إلى ما خيّرَته ؟ إنّ قفل الأبواب ، الواحد تلْوَ الآخر ليدل على أن وراء هذه المرأة مَنْ خطّط ودبّر ، ولم تكن هذه المومس الفاجرة سوى أداة التنفيذ ... ماذا يفعل ؟.
وهو إذ لم يكن عاقلاً حين صدّق الجارية ، فدخل بسذاجة إلى القصر خانه عقله كذلك إذ ْ رضي الخيار بين هذه الأمور الثلاثة ، وكان عليه أن يرفض ذلك بقوة ، فخسارة الدنيا أهون من خسارة الآخرة . ولو اتقى الله حق تقاه لأنجاه الله تعالى كما أنجى الرجل الصالح جُرَيجاً في محنته ... لكن شيطانه زيّن له شرب الخمر ، فهو – على ظنّه – فساد لا يتعدّاه ، أما الزنا فجريمة مشتركة ، يربأ بنفسه عنها !! وقتل الغلام منكر ، لا يفكر فيه فضلاً عن اقترافه .. فليشربْ كأساً من الخمر ... إنها طلبت إليه أن يشرب كأساً واحدة .. فقط .. فليشربها ، ولْيستغفر الله بعد ذلك .. على هذا عزم ، وهذا ما قرره .
قال : فاسقيني من هذه الخمر كأساً .. فسقتـْه واحدة .. إن مسيرة ألف الميل تبدأ بخطوة واحدة ، لعبت الخمرة برأسه ، فقال : زيدوني فزادوه – حين لعبت الخمرة برأسه ما عاد يراها وحدها ، فخاطبها بصيغة الجمع – وما زال يطلب ، وما زالت تسقيه حتى ذهب عقله ، فزنى بها ، .. حين يضيع العقل تنتشي الشهوة ، وحين يضعف التفكير تتحرك النزوات .. والتفت ، فرأى الغلام ينظر إليه يرقبه ، وقد رآه يزني ، فمال عليه ، فقتله .
شرِبَ الخمرَ ، وزنى ، وقتل النفسَ البريئة ، فهل بقي له من الطهارة شيء ؟!! هل بقي له من الإيمان شيء؟!!
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا أن نتجنّب الخمر ، فإنها أم الكبائر ، ويقسم بالله : أن الإيمان لا يجتمع وإدمانَ الخمر في قلب إنسان ، فإذا كان الإيمانُ فلا خمر ... وإذا كان الخمرُ فلا إيمان ... إنها مفاصلة بين الحق والباطل .
ويؤكد صلى الله عليه وسلم ذلك ، فيُعلن :أنه ما من أحد يشربها ، فتقبل له صلاة أربعين ليلة ، ولا يموت وفي مثانته منها شيء إلا حُرّمتْ عليه الجنة ، وإن مات في الأربعين مات ميتة جاهلية . أرأيتم أسوأ من الخمر إذاً ؟!
ومع وضوح ضررها فإن الفاسدين يزيّنون للجاهلين شرب الخمر ، ويسمونها بغير اسمها ، فهي عندهم " الرّاح " وهي عندهم " المشروبات الروحية " .. يسمون الأشياء بغير اسمها .. وهذا دأب الفاسقين الفاسدين ....
صحيح النسائي ج3 ص46
من حديث عثمان رضي الله عنه
قصص رواها النبي صلى الله عليه وسلم
القصة الثالثة والأربعون
اغتنمام الفرص
دكتور عثمان قدري مكانسي
قال الولد لابيه : يا أبتِ ح سمعت صديقي حسان يقول :
أبي تاجر ناجح ، يغتنم الفرص ، ولا يضيّعها ، فماذ يقصد بقوله هذا؟
قال الوالد :
يمتاز المسلم الذكي – يا بني – بصفتين متلازمتين ،
الأولى : العمل الدؤوب ، والسعي الحثيث في عمله ، فيفكر ، ويخطط ويرتب أموره .
الثانية : مع صفته الأولى فإنه لا يقصر في المغامرة المحمودة ..
فهناك مفاجآت تعرض له دون ترتيب مسبق وتخطيط متعمّد فقد لا تتكرر تلك المفاجآت ،، فيُقدم ، ويستعين بالله عليها ،
فيحقق ربحاً وافراً يرفعه في عالم التجارة خطوات بإذن الله .
قال الولد :
هذا ليس في عالم التجارة فقط ، بل في ميادين الحياة كافة .
قال الوالد :
صدقت يا بني ، إن حياة المسلمين النابهين حافلة بكثير من هذه الأمور ، يقتنصها المسلم ، فلا يدعها تذهب دون ان يُفيد منها .
قال الولد : أفلا ذكرتَ لي مثالاً على ذلك يا أبتِ.
قال الوالد :
لقد ذكرت لك - يا بني - سابقاً قصة الصحابي البطل عُكـّاشة بن مِحصَن حين كان مع إخوانه المسلمين يستمعون إلى حديث النبي صلى الله عليه وسلم في دخول سبعين ألفاً من المسلمين الجنة بغير حساب ولا عقاب ، على مقدمتهم الصدّيق أبو بكر رضي الله عنه ، فقال عكاشة قبل غيره : يا رسول الله ادع الله أن أكون واحداً منهم . فقال عليه الصلاة والسلام : أنت واحد منهم . فقام رجل آخر يقول : يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم . قال صلى الله عليه وسلم : سبقك بها عكاشة .
كافأه رسول الله صلى الله عليه وسلم على نباهته وسرعة مبادهته ، وبشره أنه واحد منهم ، ونبه الثاني أنه ضيع الفرصة حين قصر عن أخيه عكاشة ، وكان عليه ان يسبقه ، فالنجاح حليف المتنبّهين اليقظين ، الذين يغتنمون الفرص ، فلا يضيّعونها .
قال الولد :
جزاك الله خيراً – يا والدي – على هذا التوضيح ، وأجزل لك المثوبة ، إلا أنني أردت أن تقص عليّ حديثاً رواه النبي صلى الله عليه وسلم يوضح الفكرة ويدعمها ، فأتخذها نبراساً في حياتي .
قال الوالد :
حباً وكرامة – يا حَبّة عيني – أسأل الله تعالى أن يجعلك من النابهين العاملين .
ففي إحدى أسفار رسول الله صلى الله عليه وسلم أو غزواته مرّ بأعرابي ، فأكرمه . فأراد الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام أن يكرم الأعرابي المضياف ، فقال له :
يا أعرابي ؛ سل حاجتك ؟
أتدري – يا ولدي – ما الذي طلبه الأعرابي من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!
قال الولد :
لعله طلب أن يشفع له يوم القيامة ، ويسقيه من حوضه بيده الشريفة أو أن يدعو له – على الأقل – بالحياة الرغيدة في الدنيا وسعة الرزق ، وكثرة البنين .. أليس كذلك يا أبتِ؟.
قال الوالد :
ليته فعل ، وطلب شيئاً من هذا .. إنه سأله أتفه ما يسأله رجلٌ بسيط من رجل مثله ، لا من نبي كريم .. لم يغتنم فرصة كهذه يسمو بها في الدنيا والآخرة ، إنما قال : هبني – يا رسول الله – ناقة برحلها يركبها ، وقليلاً من العنز يحلبه لأهله . قالها مرتين ! .
قال الولد :
سبحان الله ما أضعف همته ، وأقلّ حيلته .. أفلا طلب مثل ربيعة بن كعب الأسلمي خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان يبيت على باب رسول الله يخدمه ، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مرة ، فرآه نائماً أمام اباب البيت ، فأخذته الشفقة به ، وأكبر فيه حبه إياه ، حين رآه يسرع فيأتيه بوَضوئه وثيابه ، فقال : ياربيعة ؛ سلني . .. وكان سؤال النبي صلى الله عليه وسلم حاضراً في ذهن ربيعة وقلبه ، فقال : أسألك مرافقتك في الجنة .. وهل أسمى مطلباً وأعلى همة ، وأرفعُ مرتبة أن نكون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجنة ، في الفردوس الأعلى ؟! .. فأجاب النبي الكريم صلى الله عليه وسلم الذي يحب مصاحبة من يحبه ، ويقدّر للناس مشاعرهم ، ويبادلهم تقديراً بتقدير ، وتكريماً بتكريم : أوَ غير ذلك يا ربيعة ؟ قال هو ذاك ، يا رسول الله . فيقول النبي صلى الله عليه وسلم : لك ما سألت يا ربيعة .. وأمره أن يكثر من الصلاة التي ترفع صاحبها في عليين ، فالصلاة قرة عين رسول الله صلى الله عليه وسلم .
قال الوالد :
هذا عين ما ذكره الرسول صلى الله عليه وسلم مستهجناً هذه الدونية في الهمة ، والأرضية في الرغبة ،قائلاً " أعَجَزْتَ أن تكون كعجوز بني إسرائيل "؟!.
قال الولد :
وما عجوز بني إسرائيل ؛ يا أبتِ؟.
قال الوالد :
كان الصحابة رضوان الله تعالى عنهم يسمعون ما قاله النبي الكريم صلى الله عليه وسلم ، فابتدروه يسألونه ما سألـْتَ – يا بني - ، فقال :
إن موسى عليه السلام أراد أن يسير ببني إسرائيل – حين أذن الله له أن يخرج من مصر بقومه – فضلّ الطريق ... إن الطريق يعرفه ، وهاديه فيه جبريل الذي أمره بالمسير ، ومعه علماء بني إسرائيل وعامّتهم . فمن العجيب أن يخطئ الجميع الطريق . لا بد أن في الأمر سراً ... سأل عنه العلماء ، فقالوا له : أما وقد سألْتنا ، فإن السر في ذلك – والله أعلم – أن نبي الله يوسف عليه السلام – حين لقي ربه – أخذ على آبائنا مواثيق الله أن لا نخرج من مصر حتى ننقل عظامه معنا .
قال موسى عليه السلام : وأيكم يدري قبر يوسف ؟
قالوا : ما يدري أين قبر يوسف إلا عجوزُ بني إسرائيل .
فأرسل إليها النبي موسى أن تأتيه ، فحملوها إليه ،
فقال لها : أتدرين أين قبر النبي يوسف ؟ دليني عليه ..
أدركت العجوز حاجته إليها ، فقالت : لا والله لا أفعل حتى أكون معك في الجنة !
عرفـَتْ متى تطلب حاجتها .. وإنه لطلب جليل ، جنة عرضها السماوات والأرض ، وتصحب نبياً ذا عزم .. تصحب كليم الله الذي أجرى الله تعالى على يديه الشريفتين عجائب عظيمة ، وجعله في قمة الأنبياء مع الأربعة الآخرين أولى العزم من إخوانه، على رأسهم سيد البشر محمد عليه الصلاة والسلام .
وكره النبي موسى أن يجيبها ، ولا ندري لماذا .. إلا أن الله تعالى أوحى إليه : أنْ أعطها ما سألتْ . ففعل ، ووعدها بذلك ، فالله سبحانه رضي لها تلك المكانة . إنها طلبَتْ ، فوهبها الجليل سبحانه ما طلبتْ ، إنها ذات همة عالية ، فلـْتتبَوّأها ، إنها تستحقها .
ودلّتـْهم على بركة ماء ، وأمرتهم أن ينضحوا ماءها ، ففعلوا ، وعيّنتْ مكاناً ، فحفروا فيه . فإذا هو قبر يوسف عليه السلام ... جسده الشريف على هيئته يوم دُفن ، فالأرض لا تأكل أجساد الأنبياء والشهداء .. ولكن يا ويحهم لمَ أهملوا قبر نبيهم هكذا ؟ إن فعلهم لعجيب ، فقد عُرف عنهم أنهم اتخذوا قبور انبيائهم مساجد ، ونعى عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلهم هذا .
وحمل بنو إسرائيل جثمان نبيهم يوسف عليه السلام ، وانطلقوا به إلى بلاد الشام ، إلى الأرض التي بارك الله فيها ... كان الطريق واضحاً ، وجسد يوسف الصديق عليه السلام من خلال كفنه ينير لهم الدرب وسط الظلام في ذلك الليل البهيم .. كأنه ضوء النهار .
أخرجه الحاكم في مستدركه
ج2 ص624
قصص رواها النبي صلى الله عليه وسلم
القصة الرابعة والأربعون
كن مع الله ترَ الله معك
دكتور عثمان قدري مكانسي
كن مع الله ترَ الله معك
دكتور عثمان قدري مكانسي
عبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنه أحد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم المواقف التالية .
ولكن نتعرف - قبل الدخول في القصة – هذا الصحابي الذي أسلم يوم فتح مكة وكان اسمه " عبد الكعبة " فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم " عبد الرحمن " ، سكن البصرة وفتح سجستان مرتين ، مرة على عهد عثمان ، والثانية على عهد معاوية ، وصحبه في الفتح الثاني الحسن البصري والمهلب بن أبي صفرة وقطريّ بن الفجاءة ، ومات في البصرة سنة إحدى وخمسين للهجرة .
يقول الصحابي عبد الرحمن بن سمرة : إن النبي صلى الله عليه وسلم خرج على أصحابه بعد صلاة فجر أحد الأيام من بيته ، فوقف على الصفة – بمسجد المدينة – يقول لهم :
" إني رأيت البارحة عجباً " وهذا أسلوب رائع من أساليب التربية ، حيث يطلق المعلم جملة تستقطب الانتباه ، وتجلب الاهتمام قبل الشروع في الحديث كي لا يضيع منه شيء ، ولتكون حواس الجميع متوثبة لتلقي الحرف الأول تلقياً واعياً ..
فتوجهت الأنظار إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ينتظرون حديثه الشائق ، وتوجيهاته السامقة ، فقال :
1- " رأيت رجلا من أمتي أتاه ملك الموت ليقبض روحه ، فجاءه بره بوالديه فرد ملك الموت عنه " ويقول العلماء :هذا لا يعني أن الأجل انتهى ، ولم يستطع ملك الموت أن يقبض روح الإنسان لأن بر الوالدين منعه من ذلك ، فالأجل محتوم ، ولا يظل الإنسان حياً إلى ما شاء أن يحيا ، فالله تعالى يقول : " فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون " إن المقصود من ذلك أن البر بالوالدين يجعل حياة الإنسان سعيدة رغيدة ، فيها خير وبركة مصداقاً لقول الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم " من أحب أن يُبسط له له في رزقه ، ويُنسأ له في أثَره فليَصِلْ رَحِمه " ، ويقول بعضهم الآخر : قد يطول العمر بسبب بر الوالدين ، فالله تعالى هو المتحكم بكل شيء ، ألم يقل سبحانه وتعالى " يمحو الله ما يشاء ويُثبت ، وعنده أم الكتاب " ويبقى الأجل المكتوب بأمر الله تعالى ، لا يقدره إلا هو سبحانه يفعل ما يشاء ويقدر .
2- " ورأيت رجلا من أمتي قد احتوشته ( أحاطت به )الشياطين،فجاء ذكر الله فطيّر الشياطين عنه " ،وذكر الله تعالى يطرد الشياطين عن الإنسان كما يطرد الدواءُ الناجعُ الداءَ ، فيبرأ صاحبه ، وراحة القلوب بذكر الله تعالى " ألا بذكر الله تطمئن القلوب " وقد علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قراءة المعوذتين ، وآية الكرسي لطرد الوسواس الخناس ، كما أن قراءة الزهراوين تبعد الشياطين على الدار ثلاثة أيام كما ورد في الأثر .
3- " ورأيت رجلا من أمتي قد احتوشته ملائكة العذاب ،) تريد أخذه إلى النار بسبب كثرة ذنوبه وسوء عمله) فجاءته صلاته فاستنقذته من أيديهم " ،فمن وقف متذللاً بين يدي الله خاشعاً ، يرجو رحمته ، ويخاف عذابه آمنه الله تعالى ، وأمر ملائكة الرحمة أن تحمله إلى الجنة ، وقصة الرجل التائب الذي قتل مئة، ثم تاب توبة نصوحاً خير دليل على ذلك . فلا ييأسنّ المسلم من رحمة الله تعالى . إن صلاة المسلم الخالصة لوجه الله – مهما قلـّتْ- ثقيلة في ميزان الله تعالى والله تعالى لا يضيّع مثقال ذرة " إن الله لا يظلم مثقال ذرة ، وإن تكُ حسنة يضاعفها ، ويؤتِ من لدنه أجراً عظيماً ".
4- " ورأيت رجلا من أمتي يلهث عطشا ، كلما دنا من حوض منع وطرد ، فجاءه صيام شهر رمضان فأسقاه وأرواه "، وهذا دليل على شدة الموقف يوم القيامة ، وقد تكون أعمال ذلك الرجل ضعيفة ، يضيّع كثيراً من الحقوق ، فلم يؤهله رصيده الأخروي للدنوّ من الحياض إلا بشفاعة أو إذن ، فلما وصله الدعم الإلهي والرحمة الربّانيّة - وقلْ : وصلته بطاقة السماح ، وهي الصيام ،كما قال تعالى : في الحديث القدسي : " كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به " لما للصيام من ثواب كبير وأجر عظيم – جاءه الفرج فروى ظمأه ، نسأل الله تعالى أن يروينا بيد الحبيب المصطفى شربة لا نظمأ بعدها أبداً.
5- " ورأيت رجلا من أمتي ورأيت النبيين جلوسا حلقا حلقا ، كلما دنا إلى حلقة طرد ومنع ، فجاءه غسله من الجنابة فأخذ بيده فأقعده إلى جنبي " وهذا موقف يدل على مكانة الطهارة المادية والمعنوية في الإسلام ، والنبيون الكرام رمز تلك الطهارة ، فهم أنبياء الله تعالى والمخلـَصون من خلقه لا يجلس معهم ولا يدنو منهم – في ذلك الموقف - إلا الطهور قلباً وبدناً ، وهذه لفتة كريمة إلى الطهارة ألا ترى معي كيف علمنا النبي صلى الله عليه وسلم أن ندعو للميت " اللهم اغسله بالماء والثلج والبرَد ، ونقـّه من الخطايا كما يُنّقـّى الثوب الأبيض من الدنس "؟ فإذا بالطاهر من أمة النبي صلى الله عليه وسلم يكرمه الله تعالى أن ينال حظوة ما بعدها حظوة وهي الجلوس قرب الحبيب صلى الله عليه وسلم ونيل شرف التقرب إليه . اللهم ارزقنا تلك الحظوة واحشرنا في زمرته صلى الله عليه وسلم .
6- " ورأيت رجلا من أمتي من بين يديه ظلمة ، ومن خلفه ظلمة ، وعن يمينه ظلمة ، وعن يساره ظلمة ، ومن فوقه ظلمة ، وهو متحير فيه ، فجاءه حجه وعمرته فاستخرجاه من الظلمة وأدخلاه في النور ، " تصوير مخيف ، مخيف لرجل يحيط به من كل مكان ظلام دامس ، لا يستطيع عنه فكاكاً ، ولا منه خلاصاً ، إنه موقف رهيب ، فقد يتحرك خطوة تودي به في حفرة من حفر النار – والعياذ بالله - ، فما المخرج ، وإلى أين الملجأ ؟ يدعو الله تعالى أن يبصّره ليمضي إلى حيث الأمان والنجاة .. وإذا بالحج والعمرة ينقذانه مما هو فيه . إنه تحمّل مشاق الحج وصعوبة العمرة من بذل للمال ، وتحمل لمشاق السفر ، يرجو بذلك رضوان الله تعالى والنجاة من النار والفوز بالجنة ، والله تعالى "لا يظلم مثقال ذرة ، وإن تكُ حسنة يضاعفها ، ويؤت من لدنه أجراً عظيماً " فإذا بركن الإسلام الخامس ينقل العبد إلى حيث النور ، ومن كان في النور فقد وصل بر الأمان ولندعُ كما كان الحبيب صلى الله عليه وسلم يدعو ( اللهم اجعل في قلبي نورا ، وفي بصري نورا ، وفي سمعي نورا ، وعن يميني نورا ، وعن يساري نورا ، وفوقي نورا ، وتحتي نورا ، وأمامي نورا ، وخلفي نورا ، واجعل لي نورا( .
7- " ورأيت رجلا من أمتي يتقي وهج النار وشررها ، فجاءته صدقته فصارت سترا بينه وبين النار وظلا على رأسه " ، في ذلك اليوم يشتد غضب الله تعالى على الكافرين والفاسقين الظالمين ، وتدنو الشمس من الخلائق جداً . وتظهر النار بمنظرها المخيف الرهيب ترمي شواظها على المجرمين ، أما من تقرب إلى الله عز وجل يرجو رحمته ويخشى عذابه ، فإن الله تعالى يبعده عن الشرر ، ويقيه المخاطر بفضله وكرمه ، فقد كان المسلم محسناً متصدّقاً ، والله تعالى لا يضيع أجر من أحسن عملاً . ألم يقل النبي صلى الله عليه وسلم " صدقة السر تطفئ غضب الرب " ألم يدلنا على المكان الذي يسترنا عن شدة الحر والظمأ يوم القيامة ؟ ألم يقل في حديث السبعة " سبعة يظلهم الله تحت ظله يوم لا ظل إلا ظله ؟ " ومن هؤلاء السبعة قوله صلى الله عليه وسلم " ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه " ؟ ألم يقل الحبيب المصطفى منبهاً ومعلماً " فاتقوا النار، ولو بشق تمرة " ؟ فمن كثرت صدقاته فقد عمل لآخرته، واتخذ عن النار ستاراً .
8- " ورأيت رجلا من أمتي يكلم المؤمنين ولا يكلمونه ، فجاءته صلته لرحمه فقالت : يا معشر المؤمنين إنه كان وصولا لرحمه فكلموه ، فكلمه المؤمنون وصافحوه وصافحهم ،"
يا سبحان الله .. الجزاء ذلك اليوم من جنس العمل فمن وصل رحمه في الدنيا وأحسن إليهم وجد جزاءه يوم القيامة احتفاء وتكريماً ، ومن قطع في الدنيا رحمه ، وجد في هذا اليوم ما لا يسر ، " فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ، ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره " وصلة الرحم تتمسك بساق العرش تستعيذ من قاطع الرحم ، فتجد الله سبحانه ينتصف لها حين يقول : " ألا ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك ؟ " فتقول راضية : بلى . ولْنتصور الرجل ينتقل من قوم إلى قوم يكلمهم ، فيعرضون عنه ، ويرى نفسه وحيداً قد قاطعه الناس ، فتنقذه صلة الرحم حين تبرئ ساحته من القطيعة والعقوق ، وتشهد له أنه كان وصولاً لرحمه ، ويستحق هنا الصلة والتكريم . فيلتفتون إليه ، يبتسمون له ، ثم يصافحونه ، ويكلمونه ، فهو يستحق الصلة إذاً .
9- " ورأيت رجلا من أمتي قد احتوشته الزبانية ، فجاءه أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر فاستنقذه من أيديهم وأدخله في ملائكة الرحمة ، " .
إنه منظر مخيف يقطع نياط القلوب ، وموقف رهيب حاسم .. فمن أحاطت به زبانية العذاب انتهى أمره ، وكان إلى النار مصيره ، وتصور هؤلاء الزبانية ذوي المناظر المرعبة والنظرات القاسية المتوعدة تدنو منك أو مني أو من أحدنا تحيط به إحاطة السوار بالمعصم وتضيّق الخناق عليه ، تهم به إلى حيث العذاب والهوان ، ولعلهم كانوا مأمورين أن يدفعوه إلى مصيره بعد أن طاشت حسناته وثقلت سيئاته ، نسأل الله العافية وحسن الختام ، فينادي يا رب إني كنت من الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويصدح بالأية الكريمة من سورة التوبة- 71- " والمؤمنون والمؤمنات ، بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ، ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ، أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم ." فجاءه أمره بالمعروف ونهيه عن المنكريحوش عنه زبانية العذاب ، ويسلمه إلى ملائكة الرحمة ، فيا سعادته إذ خلص من ذلك الموقف الذي يقصم الظهور ويذيب الأفئدة . ولا شك أن من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر يبدأ بنفسه أولاً فيطهرها ويكون وأسوة للآخرين ، فيقتدون به .
10- " ورأيت رجلا من أمتي جاثيا على ركبتيه وبينه وبين الله حجاب ، فجاءه حسن خلقه فأخذ بيده فأدخله على الله عز وجل ،" كل المخلوقات تجثو بحضرة الله سبحانه وتعالى في ذلك الموقف الرهيب ، والدليل على ذلك قوله تعالى في سورة الجاثية الآية – 28- " وترى كل أمة جاثية ، كل أمة تُدعى إلى كتابها ، اليوم تُجزَون ما كنتم تعملون " هذا حين تُحشر الخلائق أمام الله تعالى ، أما أصحاب النار - فيُحشرون - والعياذ بالله حول جهنم " جاثين " قبل أن يُلقـَوا فيها ،وتصور الهلع والخوف اللذين لا يمكن وصفهما في أفئدة من يعلمون أنهم سيلقون في أية لحظة في أتون النار – اللهم الطف بنا – كما أن الجثوّ من صفة أصحاب النار وهم فيها يتعذبون " ثم ننجي الذين اتقَوا ، ونذر الظالمين فيها جثيّا " . وهذا الرجل المسلم يقف أمام ربه سبحانه بينه وبينه حجاب ، لماذا ؟ ما سبب الحجاب ؟ لعل أخطاءه الكثيرة منعته أن يرى ربه ، ورؤية الله تعالى علامة الخير والنهاية السعيدة بإذن الله ، لعله في الدنيا لم يكن ذلك الرجل الصالح المصلي القائم !! لكنه كان ذا خلق حسن ، يبتسم بوجه الناس ، ولا يؤذيهم ، ويتحمل إساءاتهم ، ولا بياديهم بمثلها !! ولم يكن ينم ، ولا يغتاب ، ولا يلمز ، ولعله كان يصلح بين الناس . خلقه الصالح هذا يأتيه بهيئة رجل جميل ، يأخذ بيده ويدخله حضرة ربه سبحانه ، يروي أبو ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ رضي الله عنه :" اتق الله حيث كنت ، وأتبع السيئة الحسنة تمحها ، وخالق الناس بخلق حسن " وروت أم الدرداء عن زوجها عن النبي صلى الله عليه وسلم " أثقل ما يوضع في الميزان الخلق الحسن " وأعظم بهذا الوزن الثقيل الذي يُدخل صاحبه الجنة . ، وفي الحديث الحسن الذي رواه الصحابي أسامة بن شريك بشارة لصاحب الخلق الحسن " قالوا : يا رسول الله ما خير ما أعطي الإنسان ، أو المسلم ؟ قال : الخلق الحسن " اللهم جمّلنا بحسن الخلق .
11- " ورأيت رجلا من أمتي قد ذهبت صحيفته من قبل شماله ، فجاءه خوفه من الله عز وجل فأخذ صحيفته فوضعها في يمينه ،" وهذا تنبيه إلى أننا نعيش في رعاية الله سبحانه في كل لحظات حياتنا الدنيوية والبرزخية واليوم الآخر وما بعده إلى أبد الآبدين . وما نقرؤه في سورة الواقعة من تصوير لأخذ الكتاب باليمين – اللهم آتنا كتبنا بأيماننا – أو بالشمال – والعياذ بالله من هذا المصير البائس – دليل واضح على ذلك ، وخاصة حين نقرأ الفعل " آتى " بصيغة المبني للمجهول " فمن آوتي كتابه .. " إنه الدليل على أننا نعيش برحمة الله سبحانه ، لا ندري حتى اللحظة الأخيرة عندما تنتشر الكتب ، وتـُلقى إلى أصحابها أنحن من السعداء أم من الأشقياء ، لكن أملنا بالله الرحيم كبير، والمسلم يعيش دائماً بين رجاء وخوف ، ولن يجمع الله تعالى على عبده المسلم أمنين ولا خوفين ، والدليل على ذلك ما رواه شداد بن أوس وصححه الألباني " قال الله عز وجل ، و عزتي لا أجمع لعبدي أمنين و لا خوفين ، إن هو أمنني في الدنيا أخفته يوم أجمع فيه عبادي ، و إن هو خافني في الدنيا أمّنـْتـُه يوم أجمع فيه عبادي " فيا رب ؛ أعطني كتابي بيميني ، وحاسبني حساباً يسيراً ، ولا تعطني كتابي بشمالي ولا من وراء ظهري ، ولا تحاسبني حساباً عسيراً .
12- " ورأيت رجلا من أمتي خف ميزانه ، فجاءه رجاؤه من الله عز وجل فاستنقذه من ذلك ومضى ،" إن المسلم دائم الرجاء بالله وفضله ، وقد روى أبو هريرة رضي الله عنه بإسناد صحيح " إن حسن الظن من حسن العبادة " وكلنا ذلك الرجل - إن شاء الله – وقد علمنا أنه ما أحد يدخل الجنة بعمله إلا أن رحمة الله أوسع ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في هذا المعنى " لن يدخل الجنة أحد إلا برحمة الله ، قالوا : ولا أنت يا رسول الله ؟ قال : ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته ، وقال بيده فوق رأسه " .. اللهم ارحمنا برحمتك ، ونجنا من النار وأدخلنا الجنة .
13 - " ورأيت رجلا من أمتي قد هوى في النار ، فجاءته دمعته التي قد بكى من خشية الله عز وجل فاستنقذته من ذلك ،" .. مسلم مذنب يهوي في النار .. منظر رهيب ، رهيب ، إنه يسرع إلى الهاوية وإلى نار تلظى ، ذنوبه كثيرة ، وأعماله دفعته إلى ذلك ، لكنه خلا بنفسه يوماً حين كان في الدنيا وحدثته نفسه بشفافية أنه مقصر بحق الله تعالى ، فبكى من خشية الله ، هذه الدمعة كانت سبب إنقاذه مما هو فيه ، وها هي ملائكة الرحمة تتلقفه قبل أن يسقط في الجحيم ، تتلقفه بفضل الله تعالى لينال سعادة الآخرة " وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم : " عينان لا تمسهما النار ، عين بكت من خشية الله ، وعين باتت تحرس في سبيل الله . "
14- " ورأيت رجلا من أمتي قائما على الصراط يرعد كما ترعد السعفة في ريح عاصف ، فجاءه حسن ظنه بالله عز وجل فسكن روعه ومضى ، " أهو على الصراط يحبو أم تراه لم يجرؤ على السير فوقه ؟! تحته النار بلهيبها المدوّي وحرارتها الملتهبة كالبحور الهائجة ذات الأمواج الدفـّاقة . والناس يمرون على الصراط بعضهم بلمح البرق ، وآخرون كالريح المرسلة ، وبعضهم بسرعة الجياد المضمرة .. وهو يرعد خائفاً ويرتجف مرعوباً كما ترتجف سعفة النخيل في يوم شديد الرياح ... ولا بد من اجتياز الصراط ، والرجل خائف ، خائف ، وهنا يهبه المولى تعالى الأمن والأمان ، فقد كان في الدنيا يعمل ما وسعه العمل الخيّر وحسن ظنه بالله كبير .. ما إن يأتيه حسن ظنه بالله حتى يبدأ سيره ، وتتسع خطاه ، ويمر على الصراط ساكن النفس هادئ البال ، فحسن ظنه بالله رائده
لا تعـاملـني بنـقصي *** يا إلهي ... بـَل بمـَنِّ
حسن ظنّي فيك ربي *** لا تخيّبْ حسنَ ظنّي
15- " ورأيت رجلا من أمتي يزحف على الصراط ، يحبو أحيانا ويتعلق أحيانا ، فجاءته صلاته عليّ فأقامته على قدميه وأنقذته ،" وهذا مسلم آخر مقصر يحبو على الصراط ، فذنوبه أثقلتـْه ، يزحف قليلاً ، ويكاد يسقط في نار جهنم ، فيتعلق بالصراط ، لا يستطيع السير ، والناس يمرون ، ساكتين وجلين ، والأنبياء صلوات الله عليهم يدعون بصوت خفيض " اللهم سلّمْ ، اللهم سلّمْ " والحبيب المصطفى يدعو الله تعالى أن يرحم أمته ، وينجيهم . مواقف لا يسعها إلا الدعاء ، والخوف والرجاء ، وهنا تأتي المرءَ صلاتُه على سيد المخلوقات وشفيعنا محمد عليه الصلاة والسلام ، فتحمله برفق وتوقفه على الصراط بثبات ، وتنقذه من السقوط في الهاوية ، ألم يقل الله تعالى – وقوله الحق – " إن الله وملائكته يصلون على النبي ؛ يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما " أليس الحبيب محمد شفيعنا ، وهادينا إلى النور ، وإلى طريق مستقيم ؟ ألم يتحمل صلى الله عليه وسلم ما تحمّل ليوصل إلينا ضياء الإيمان ، وكان حريصاً علينا يريد لنا الهداية ، وكان بنا أرحم من آبائنا ؟ " لقد جاءكم رسول من أنفسكم ، عزيز عليه ما عنتّم ، حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم " أن من يصلي على رسول الله يفلح في الدنيا والآخرة ، فقد روى أبو طلحة رضي الله عنه قال " جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم ، والسرور يُرى في وجهه ، فقالوا : يا رسول الله ؛ إنا لنرى السرور في وجهك . فقال : إنه أتاني الملك فقال : يا محمد ؛ أما يُرضيك أن ربك عز وجل يقول : : إنه لا يصلي عليك أحد من أمتك إلا صليت عليه عشراً ، ولا يسلم عليك أحد من أمتك إلا سلمت عليه عشراً؟ قال : بلى . وقال صلى الله عليه وسلم من حديث أنس الذي أخرجه الديلمي مرفوعاً " ومن أكثر الصلاة عليّ كان في ظل العرش " اللهم إنا نحب نبيك العظيم فشفعه فينا يا رب .. اللهم صل على محمد كما صليت على إبراهيم .
16- " ورأيت رجلا من أمتي انتهى إلى أبواب الجنة فغلقت الأبواب دونه ، فجاءته شهادة أن لا
إله إلا الله ففتحت له الأبواب وأدخلته الجنة " لا إله إلا الله أحيا بها عمري ...
لا إله إلا الله يحلو بها دهري
لا إله إلا الله نور حوى قبري
لا إله إلا الله أجلو بها همّي
لاإله إلا الله أمضي بها دربي
لا إله إلا الله ألقى بها ربي ...
لا إله إلا الله : هويّة المسلم ، وشفاء قلبه ، ونور بصره .
لا إله إلا الله ، محمد رسول الله .
الراوي: عبدالرحمن بن سمرة - خلاصة الدرجة: أصول السنة تشهد له وهو من أحسن الأحاديث - المحدث: ابن تيمية - المصدر: المستدرك على المجموع - الصفحة أو الرقم: 1/9
إرسال تعليق