أستاذ اللغة العربية كتاب وداعية إسلامي
قال الله عز وجل:﴿
َيا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ
تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا
لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ
ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ *مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ
إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴾(الحج: 73- 74).
أولاً-
هذا مثل ضربه الله تعالى لضعف الناس وعجزهم, يبيِّن لهم فيه أنه لا
يُقَاسُ المخلوق الضعيف العاجز عن كل شيء بالخالق القوي القادر على كل شيء,
ويُجْعَلُ له سبحانه وتعالى نِدًّا ومِثْلاً. ومناسبته لما قبله أن الله
تعالى, لما بين من قبلُ أن المشركين يعبدون من دون الله ما لا حجة لهم به,
ولا علم ؛ وذلك قوله تعالى:﴿ وَيَعْبُدُونَ
مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ
لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ ﴾(الحج: 71),
ضرب لهم هذا المثل, يدلُّهم فيه على قُبْح دعائهم للذين من دونه جل وعلا
وبطْلانه, منبِّهًا على سخافة عقول من يدعونهم, مقرِّرًا ضعف الجميع
وعَجْزَهم, محتجًّا عليهم بالعقل الصحيح, ومقتضى الفطرة السليمة. والآية,
وإن كانت نازلة في الأصنام- فقد كان العرب- كما روي عن ابن عباس رضي الله
عنهما- يطلونها بالزعفران, ورؤوسها بالعسل, ويغلقون عليها الأبواب, فيدخل
الذباب من الكُوَى, فيأكله. وقيل: كانوا يضمخِّونها بالطيب, فكان الذباب
يذهب بذلك, وكانوا يتألمون, فجعل ذلك مثلاً – إلا أن الحكم عام لسائر
المعبودات من دون الله عز وجل.
وقوله تعالى:﴿ َيا أَيُّهَا النَّاسُ ﴾ نداء عام للناس كلهم ونفير بعيد الصدى, الغرض منه إخبارهم بضرب هذا المثل:﴿ ضُرِبَ مَثَلٌ ﴾, وأمرهم بالاستماع له:﴿فَاسْتَمِعُوا لَهُ ﴾ وهو مثل عام يضرب, لا حالة خاصة, ولا مناسبة حاضرة. وقوله تعالى:﴿ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ ﴾إلى آخر الآية بيان لهذا لمثل, وتفسير له ؛ ونظيره قوله تعالى:﴿ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ ﴾(الأعراف: 194). وقيل: المراد بـ﴿ النَّاس ﴾
هنا المشركون الذين عبدوا البشر والحجر من دون الله تعالى, ويدل عليه
قراءة الحسن ويعقوب والسلمي وأبي العالية وهارون ومحبوب عن أبي عمرو:﴿ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ﴾,بياء
الغائبين مبنيًّا للفاعل, فيكون الخطاب خاصًّا بهم. والظاهر أن الخطاب
شامل لجميع الناس ( مؤمنين ومشركين ) ؛ لأنهم هم المأمورون بالاستماع لهذا
لمثل. أما المؤمنون فيزدادون بضرب المثل علمًا وبصيرة, وأما المشركون فتقوم
به عليهم الحجة ؛ لأن حجج الله تعالى عليهم بضرب الأمثال أقرب إلى
أفهامهم.
وقد
ورد في الحديث الذي رواه ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه طاف
يوم فتح مكة, فحمد الله وأثنى عليه, ثم قال:«يا أيها الناس ! إنما الناس
رجلان: مؤمن تقي كريم على الله, وفاجر شقيٌّ هَيِّن على الله ».ثم تلا:﴿
يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى
وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا… ﴾(الحجرات: 13), حتى قرأ الآية. وقد كَثُرَ النداء في القرآن بـ﴿ يَا أَيُّهَا ﴾ دون غيره ؛ لأن فيه- كما قال الزمخشري- أوجهًا من التأكيد, وأسبابًا من المبالغة ؛ فمنها: ما في ﴿ يَا ﴾ من التأكيد والتنبيه. وما في ﴿ هَا ﴾ من التنبيه. وما في التدرج من الإبهام في ﴿ أَيّ ﴾ إلى
التوضيح. والمقام يناسب المبالغة والتأكيد ؛ لأن كل ما نادى الله تعالى له
عباده من أوامره ونواهيه, وعظاته وزواجره, ووعده ووعيده, واقتصاص أخبار
الأمم الماضية, وغير ذلك ممَّا أنطق به الله تعالى كتابه أمور عظام, وخطوب
جِسام, ومعانٍ واجب عليهم أن يتيقَّظوا لها, ويميلوا بقلوبهم وبصائرهم
إليها, وهم عنها غافلون, فاقتضت الحال أن ينادوا بالآكد الأبلغ. والنداء
هو طلب إقبال المدعو على الداعي بأداة من أدوات النداء, وأشهرها ﴿ يَا
﴾,وهي صوت موضوع في أصله لنداء البعيد, يهتف به الرجل بمن يناديه, ثم
استُعمِل في مناداة مَنْ سَها وغفِل, وإن كان فريبًا, تنزيلاً له منزلة
البعيد.
فإذا نودي به القريب المفاطِن, فذلك للتأكيد المؤذن بأن الخطاب الذي يتلوه مَعْنِيٌّ به جدًّا. أما ﴿ أَيُّ ﴾ فهي
وصلة إلى نداء ما فيه الألف واللام, وهي اسم مُبْهَم, لوقوعه على كل شيء,
مفتقر إلى ما يوضِّحه ويزيل إبهامه, فلا بد أن يردفه اسم جنس, أو ما يجري
مجراه, يتصف به حتى يصح المقصود بالنداء. وأما ﴿ هَا ﴾فهي للتنبيه, جِيءَ
بها بين الصفة وموصوفها لفائدتين: الأولى: معاضدة حرف النداء ومكاتفته
بتأكيد معناه ؛ فكأنك كرَّرت ﴿ يَا ﴾ مرتين, وصار الاسم تنبيهًا.
والفائدة الثانية: وقوعها عوضًا مما تستحقه ﴿ أَيُّ ﴾ من الإضافة. و﴿ النَّاسُ ﴾ وصف لـ﴿ أَيّ ﴾,لا
بدَّ منه ؛ لأنه المنادى في المعنى, ومن هاهنا رفع. وعن علي بن أبي طالب-
رضي الله عنه- أنه قال:«يا: نداء النفس. وأيُّ: نداء القلب. وها: نداء
الروح ». ويصحب النداء في الأكثر الأمرُ والنهيُ, والغالب تقدُّمُه ؛ نحو
قوله تعالى:﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ﴾(البقرة: 21), وقوله تعالى:﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ﴾(الحجرات: 1), وقد يتأخر لأغراض بلاغية ؛ كقوله تعالى:﴿ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ ﴾(النور: 31), وقد يصحبه الخبر والاستفهام ؛ كقوله تعالى:﴿ يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ ﴾(الزخرف: 68), وقوله تعالى:﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ ﴾(الصف: 2). وقد يصحبه الجملة الخبرية, فتعقبها جملة الأمر ؛ كقوله تعالى:﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فاسْتَمِعُوا لَهُ﴾. فقوله تعالى:﴿ ضُرِبَ مَثَلٌ ﴾ جملة خبرية, وهي جواب النداء, أعقبت بجملة الأمر ﴿فاسْتَمِعُوا لَهُ ﴾. والمَثَلُ
هو الشيءُ يُضرَبُ للشيء, فيُجْعَل مِثْلَه. أحدهما أصل, والثاني فرع يقاس
على الأصل, للاعتبار به. وضَرْبُ المثل يعني: جمعه وتقديره ؛ كضَرْبُ
الدرهم, وهو جمع فضَّة وتقديرها. وتقدير الشيء: جعلُه على مقدار مخصوص,
ووجه مخصوص حسبما تقتضيه الحكمة.قال تعالى:﴿ قَوَارِيرَ مِن فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا ﴾(الإنسان: 16).
ومعنى
تقديرهم لها: أنهم قدَّروها في أنفسهم أن تكون على مقادير وأشكال على حسب
شهواتهم, فجاءت كما قدَّروا, وكذلك ضَرْبُ الأمثال. والله سبحانه يحتج في
القرآن على فساد مذهب من عبد غيره بالأدلة العقلية التي تقبلها الفطر
والعقول, ويجعل ما ركَّبه في العقول من حسنِ عبادة الخالق وحده, وقبحِ
عبادة غيره من أعظم الأدلة على
ذلك.
ولولا
أنه مستقر في العقول والفطر حسن عبادته وشكره, وقبح عبادة غيره وترك شكره,
لما احتج عليهم بذلك أصلاً ؛ وإنما كانت الحجة في مجرد الأمر, وطريقة
القرآن صريحة في هذا ؛ كقوله تعالى:﴿ يَا
أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ
مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ
فِرَاشاً وَالسَّمَاء بِنَاء وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ
بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ
أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾(البقرة: 21-22), فذكر سبحانه
أمرهم بعبادته, وذكر اسم الرب مضافًا إليهم, لمقتضى عبوديتهم لربهم
ومالكهم, ثم ذكر ضروب إنعامه عليهم بخلْقهم وخلْق من قبلهم, وجعْل الأرض
فراشًا لهم يمكنهم الاستقرار عليها والبناء والسكنى, وجعْل السماء بناء
وسقفًا, فذكر أرض العالم وسقفه, ثم ذكر إنزال مادة أقواتهم ولباسهم
وثمارهم, منبِّهًا بهذا على استقرار حسن عبادة من هذا شأنه وشكره, وقبح
الإشراك به وعبادة غيره. ومن هذا قوله تعالى في هذا المثل:﴿
يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ
تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا
لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ
ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ *مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ
إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴾(الحج:73- 74), وقرأ بعضهم:﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ ﴾,
بياء الغائبين, وهم الكافرون, فضرب لهم سبحانه مثلاً من عقولهم, يدلهم على
قبح عبادتهم لغيره, وينبِّههم إلى أن هذا أمر مستقر قبحه وهجنته في كل
عقل, مقرِّرًا ضعفَ الجميع وعجزهم, محتجًّا عليهم بالعقل الصحيح, ومقتضى
الفطرة السليمة. وهل في العقل أنكر وأقبح من عبادة من لو اجتمعوا كلهم, لم
يخلقوا ذبابًا واحدًا, وإن يسلبهم الذباب شيئًا, لم يقدروا على الانتصار
منه واستنقاذ ما سلبهم إياه, وترك عبادة الخلاق العليم القدير الذي ﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ﴾(الشورى: 11) ؟ وفي
ذلك تجهيل عظيم لهم, حيث عبدوا من دون الله تعالى من هذه صفته. ثانيًا-وقد
أشكل هذا المثل على الكثيرين, حتى اعترض بعضهم, فقال: أين المثل المضروب ؟
وقال بعضهم الآخر: هو مثل من حيث المعنى ؛ لأنه ضرب مثل مَنْ يعبد
الأصنام, بمَنْ يعبد ما لا يخلق ذبابًا. وقال الأخفش: ليس ههنا مثل ؛ وإنما
المعنى: جعل الكفار لله مثلاً,فاستمِعوا قولهم. فجعل المشركين هم الذين
ضربوا هذا المثل. وهذا لأنهم لم يفقهوا المثل الذي ضربه الله تعالى, ومثل
هذا في القرآن قد ضربه الله تعالى ؛ ليبين أنه لا يقاس المخلوق بالخالق
ويجعل له نِدًّا ومِثْلاً, وهو بذلك يضع قاعدة عامة , ويقرر حقيقة ثابتة:﴿
إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَاباً
وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لَّا
يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ﴾ ؛ ولهذا قيل بصيغة الماضي المبني للمجهول:﴿ ضُرِبَ مَثَلٌ ﴾؛ كقوله تعالى:﴿ وَقُضِيَ الأَمْرُ ﴾(البقرة: 210).
وهذا
أحسن من قولهم: واستعملت صيغة الماضي هنا ؛ لتقريب زمن الماضي من الحال,
تنبيهًا للسامعين بأن يتهيئوا لتلقي هذا المثل. وقوله تعالى:﴿ فاسْتَمِعُوا لَهُ ﴾.أي:
استمعوا للمثل نفسه استماع تدبر وتفكر.والاستماع- في اللغة- هو الإصغاء,
وهو عبارة عن كونه بحيث يحاط بالكلام المسموع على الوجه الكامل ؛ وذلكبأن
يلقي المستمع سمعه, ويحضر قلبه, ويتدبر ما يسمع حق تدبره ؛ لأن نفس
الاستماع لا ينفع, وإنما ينفع بالتدبر والفهم. وقيل:«لما قال الله تعالى
لموسى عليه السلام:﴿ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى ﴾(طه:
13), وقف على حجر, واستند إلى حجر, ووضع يمينه على شماله, وألقى ذقنه على
صدره, ووقف يستمع, وكان كل لباسه صوفًا ». وحسنُ الاستماع- كما يجب- قد مدح
الله تعالى عليه, فقال سبحانه:﴿ فَبَشّرْ
عِبَادِيَ * الَّذينَ يَسْتَمِعُونَ القول فَيَتَّبِعُونَ
أَحْسَنَهُ ﴾(الزمر: 17-18). وذمَّ سبحانه على خلاف هذا الوصف,
فقال:﴿ نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ
إِلَيْكَ ﴾(الإسراء: 47),فمدح المنصت لاستماع كلامه مع حضور العقل, وأمر عباده بذلك أدبًا لهم, فقال سبحانه:﴿ وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآَنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا ﴾(الأعراف: 204) ؛
لأنه بالاستماع ينال العبد الفَهْمَ عن الله تعالى ؛ إذ هو مقدمة للفهم.
قال سفيان بن عيينة:«أول العلم الاستماع ثم الفهم ثم الحفظ ثم العمل ثم
النشر, فإذا استمع العبد إلى كتاب الله تعالى وسنة نبيه عليه الصلاة
والسلام بنية صادقة على ما يحب الله أفهمه كما يحب, وجعل له في قلبه نورًا
».
وروي
عن وهب بن منبه أنه قال:«من أدب الاستماع سكون الجوارح, وغض البصر,
والإصغاء بالسمع, وحضور العقل, والعزم على العمل ؛ وذلك هو الاستماع- كما
يحب الله تعالى- وهو أن يكف العبد جوارحه, ولا يشغلها فيشتغل قلبه عما
يسمع, ويغض طرفه فلا يلهو قلبه بما يرى, ويحصر عقله فلا يحدث نفسه بشيء سوى
ما يستمع إليه, ويعزم على أن يفهم, فيعمل بما يفهم ». وعن بعض السلف
قال:«إذا سمعت المثل في القرآن فلم أفهمه بكيت على نفسي ؛ لأن الله تعالى
يقول:﴿ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ ﴾(العنكبوت:43) ».
والفرق
بين الاستماع, والسماع: أن الاستماع يقال لما كان بقصد ؛ لأنه لا يكون إلا
بالإصغاء, وهو الميل. أما السماع فيكون بقصد, وبدون قصد. ويؤيد ذلك قوله
تعالى:﴿ وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآَنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا ﴾(الأعراف: 204),
إشارة إلى قصدهم إلى ذلك, وميلهم إلى السَّماع الخالي عن القصد. أما
الإنصات فهو السكوت مع الإصغاء. ثم بيَّن سبحانه وتعالى المثل الذي أمر
الناس كلهم بالاستماع له, وفسَّره بقوله:﴿ إِنَّ
الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ
اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لَّا
يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ﴾,فاحتج سبحانه وتعالى على عجز الذين
يُدْعَوْنَ من دونه, ومَنْ يَدْعُونَهم كلهم عجزًا مطلقًا, منكرًا عليهم
تسويتهم بينهم, وبين الخالق عز وجل في الدُّعاء والتعظيم من وجهين:
أحدهما:قوله تعالى:﴿ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ ﴾.
والثاني:قوله تعالى:﴿ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ﴾.
وفي هذين الوجهين قال أبو حيان:«وبدأ تعالى بنفي اختراعهم وخلقهم أقل
المخلوقات, من حيث إنّ الاختراع صفة له تعالى ثابتة مختصة, لا يشركه فيها
أحد, وثنَّى بالأمر الذي بلغ بهم غاية التعجيز وهو أمر سلب الذباب, وعدم
استنقاذ شيء مما يسلبهم ». وقال سيد قطب في الوجه الأول:« وخلق الذباب
مستحيل ؛ كخلق الجمل والفيل ؛ لأن الذباب يحتوي على ذلك السر
المعجز سر الحياة, فيستوي في استحالة خلقه مع الجمل والفيل ؛ ولكن الأسلوب
القرآني المعجز يختار الذباب الصغير الحقير ؛ لأن العجز عن خلقه يلقي في
الحس ظل الضعف أكثر مما يلقيه العجز عن خلق الجمل والفيل, دون أن يخل هذا
بالحقيقة في التعبير, وهذا من بدائع الأسلوب القرآني العجيب » !
وقال
في الوجه الثاني:« وهذه حقيقة أخرى كذلك, يستخدمها الأسلوب القرآني
المعجز. ولو قال:(وإن تسلبهم السباع شيئًا لا يستنقذوه منها ), لأوحى ذلك
بالقوة بدل الضعف. والسباع لا تسلب شيئًا أعظم مما يسلبه الذباب ! ولكنه
الأسلوب القرآني العجيب »! وبُنَِيَ الثاني على ( إِن )الشرطية التي تدل
على الإمكان وعدمه مبالغة في تعجيزهم عن القدرة على ما هو دون الخَلْقِ,
وأسهلَ منه. فإذا كانت هذه المعبودات عاجزة عن خلق ذباب واحد, رَغْم
اجتماعها له, وتعاونها عليه, وغير قادرة على استنقاذ ما يسلبه الذباب منها,
وهو المخلوق الضعيف, فكيف يليق بالعاقل أن يقيسها بالخالق القادر, ويسوي
بينها, وبينه في كل شيء ؟ وفي المراد بـ﴿ الَّذِينَ ﴾ ثلاثة أقوال: أحدها:
الأوثان التي عبدوها من دون الله, وكانت حول الكعبة, وهي ثلاث مئة وستون
صنمًا. والثاني: السادة الذين صرفوهم عن طاعة الله عز وجل. والثالث:
الشياطين الذين حملوهم على معصية الله تعالى. وقيل: الأول هو الأَصْوَبُ ؛
لأن الآية نازلة في الأصنام, وكان الذُّبَابَ كثيرًا عند العرب, وكانوا
يضمخون أوثانهم بأنواع الطيب, فكان الذُّبَابُ يذهَب بذلك,فلا تقدر الأصنام
على استرداده. والظاهرأن الحكم في الآية, وإن كان مختصًّا بالأصنام, فهو
عام شاملٌ لكل مَنْ يُدْعَى من دون الله, من أصنام وأوثان, وأشخاص وشياطين,
وقيم وأوضاع, مما يسمَّى آلهة, يستنصر بها دعاتها وعابدوها, ويستعينون
بقوتها, طالبين منها النصر والجاه والحماية, في كل زمان ومكان.
وفيه
إشارة إلى ذم الغالين في أولياء الله تعالى, حيث يستغيثون بهم في الشدة,
وينذرون لهم النذور, غافلين عن الله جل وعلا ؛ فهؤلاء الذين يدعونهم آلهة
لا يقدرون على خلق ذباب واحد, على صغر حجمه وحقارة شأنه ؛ لأنهم محرومون من
القوة, وقد تقدم ذلك قوله تعالى: ﴿ وَيَعْبُدُونَ
مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ
لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ *وَإِذَا تُتْلَى
عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا
الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ
آَيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ
وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ﴾(الحج: 71- 72)
فأخير سبحانه عن هؤلاء الذين يعبدون من دون الله ما لم ينزل به من سلطان
إنما يعبدون آلهة من الأصنام والأوثان , ومن شياطين الإنس والجن, لا حول
لهم ولا قوة, وهم لا يعبدونها عن علم ولا دليل يقتنعون به ؛ إنما هو الوهم
والخرافة, وما لهم من نصير يلجؤون إليه, وقد حرموا من نصرة الله العزيز
القدير.
وأعجب شيء
أنهم, وهم يعبدون الباطل, إذا تليت عليهم آيات الله تدعوهم إلى الحق, لا
يستمعون إليها , ولا يدفعون الحجة بالحجة ؛ لأنهم يدركون أن ليس لهم ما
يدفعون به إلا العنف والبطش, عندما تعوزهم الحجة ويخذلهم الدليل, فتأخذهم
العزة بالإثم, ومن ثم يواجههم الله القوي العزيز بالتهديد والوعيد,
ويتوعدهم بشر من ذلكم المنكر الذي تنطوي عليه نفوسهم المريضة, وهي النار
التي وعدها سبحانه الذين كفروا عامة, وبئست مصيرًا, وهو الرد المناسب
لأولئك الطغاة ثم يعقِّب سبحانه على ذلك بهذا المثل الذي يعلن فيه سبحانه
للناس جميعًا إعلانًا عامًا مدوِّيًا عن ضعف تلك الآلهة التي تُدعَى من دون
الله عز وجل, ويبرز ضعفها في صورة حيَّة معروضة للأسماع والأبصار, ومشهد
شاخص متحرك , تتملاه العيون والقلوب, مشهد يرسم الضعف المزري, ويمثله أبرع
وأروع تمثيل.
﴿
َيا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ
تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا
لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ
ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ *مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ
إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴾(الحج: 73- 74). والمراد بـ(
الدُّعَاءِ )هنا- على ما قال ابن قيم الجوزية- دعاءُ العبادة, المتضمِّن
دعاءَ المسألة ؛ إذ الدعاء في القرآن نوعان: دعاء عبادة, ودعاء مسألة.
فدعاء
المسألة هو سؤال الله تعالى من خيري الدنيا والآخرة. ودعاء العبادة يدخل
فيه كل القربات الظاهرة والباطنة ؛ لأن المتعبد لله تعالى طالب بلسان مقاله
وحاله من ربه قبول تلك العبادة والإثابة عليها.
وكل ما ورد في القرآن من الأمر بالدعاء لله تعالى وحده, والنهْيِ عن دعاء غيره, يتناول دعاء العبادة, ودعاء المسألة ؛ كقوله تعالى:﴿ فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ﴾(غافر: 14), وقوله تعالى:﴿ وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا ﴾(الجن: 18).
وهو في دعاء العبادة أظهر, يدل على ذلك قوله تعالى:﴿
وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ
لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ
*وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا
بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ ﴾(الأحقاف: 5- 6), ففسَّر دعاءهم بعبادتهم لهم.
وتنكير لفظ ( الذباب )في قوله تعالى:﴿ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً ﴾ للإفراد. أي: لن يخلقوا ذبابًا واحدًا. ويدلك على ذلك أنك إذا قلت: لم أر إنسانًا, أفاد نفيُ رؤية واحد معين.
ويطلَق
الذباب على المعروف من الحشرات الطائرة, وعلى النحل, والزنابير, ونحوهما.
والذُّبَابُ الحقيقي هو حشرات تنتمي إلى رتبة تسمَّى:( ذوات الجناحين ),
وتسمَّى أحيانًا:( ثنائيَّةَ الأجنحة ), ويشبه البعوض في تصنيفه وتركيب
جسمه, وفي بعض عاداته ؛ كعادة التقيؤ, وهو اسم جنسٍ, يقع على المذكرِ
والمؤنثِ, فيفرَّق بينهما بالوصف, وجمعه في القلة: أَذِبَّة, أصله:
أذْبِبَة ؛ كغُرابٌ وأَغْرِبَة, وفي الكثرة: ذِبَّان, بكسر الذال ؛ كغُراب
وغِِرْبان.
وحكى
أبو حيان في البحر ضم الذال. ولا يقال: ذُبَابَةُ بالتأنيث إلا في
الديون, لا في الحيوان. يقال: عليه ذُبابةٌ من ديْن, أي: بقيَّة من دين,
والجمع: ذُبابات. وذُباب السيف: طرفه الذي يضرَب به.
وذُبابة
العين: إنسانُها ؛ إلا أن الجوهري قال: الذُّبَابُ معروف, الواحدة:
ذُبَابَة, ولا يقال: ذُبانَة. والصوابُ فيهما: ذُبَابٌ. قال اللَّيْثُ:
الذُّبَابَةُ, قاله ابنُ دُرَيْد, هكذا زعمه قوم, ولا أعرف صحَّتها, ورأيت
في هامش الصحَاح: قال أبو حاتم: لا يقال ذُبَابَةٌ, بالهاء ؛ وإنما يقال:
ذُبَابٌ.
وهو
مأخوذ من ( الذَّبّ )بمعنى: الطرد والدفع. أو من ( الذَّبّ )بمعنى:
الاختلاف. أي: الذهاب والعود, وهو أنسب بحال الذباب, لما فيه من الاختلاف.
وقيل: سُمِّيَ الذُّبَابُ ذُبَابًا, لكَثْرَةِ حَرَكَتِه واضْطِرَابِه.
والذَّبْذَبَة هي حكاية صوت الحركة للشيء المعلقفي الهواء,ثم استعيرت لكل
اضطراب وحركة.
قال تعالى في صفة المنافقين:﴿ مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لاَ إِلَى هَـؤُلاء وَلاَ إِلَى هَـؤُلاء ﴾(النساء: 143).أي:
مضطربين مائلين تارة إلى المؤمنين, وتارة إلى الكافرين. وقيل: سُمِّيَ
ذُبَابًا ؛ لأَنَّه كُلَّمَا ذُبَّ, آبَ. أي: كلما طرد, عاد. قال الشاعر:
إنَّمَا سُمِّيَ الذُّبَابُ ذُبَابًا… حَيْثُ يَهْوِي وكُلَّمَا ذُبَّ آبَا
ويقال: ذَبَبْتُ عن فلان: طردت عنه الذُّبَابَ. والمِذبَّةُ: ما يُذَبُّ
به الذُّبَابُ. أي: ما يطرد به.
ثم
استعير الذَّبُّ لمجرَّد الدَّفْع, فقيل: ذَبَبْتُ عن فلان. وذَبَّ
البعيرُ, إذا دخل ذُبَابُ في أنفه. ويعَد الذُّبَابُمن الحشرات الحقيرة
التي يستقذرها الإنسان, ويتقزز منها, وقد حاول القضاء عليها بكل ما أوتي من
قوة وحيلة, ومع ذلك فلم يلزم الإنسان في حياته شيء لزومَ الذُّبَابِ له,
لا يمتنع عليه شيء من بدنه, ولا من ثوبه, ولا من طعامه, ولا من شرابه,
مِلْحَاحٌ يُطْرَدُ فلا ينطرد ؛ ولذلك يقال:« ثلاثة أشياء لا يمكن الإفلات
منها: الموت, والضرائب, والذباب».
وقيل:
كان اليونانيون القدامى يقدمون العجول قرابينَ للذباب ؛ وكذلك كان يفعل
الآشوريون من قبلهم, رجاءَ تجنب أذاه وإزعاجه الذي لا يطاق. وحُكِيَ أن
ذبابًا وقع على أنف الخليفة العباسي المنصور وهو يخطب, فحرك رأسه ؛ ليطرده,
وكان الخلفاء لا يحر كون أيديهم على المنابر, فطار حتى سقط على رأسه,
فحركها, فطار حتى وقع على عينه, فحرك رأسه, فطار حتى وقع على عينه الأخرى,
حتى أضجره, فذبَّه بيده.
فلما نزل, سأل عمرو بن عبيد: لمَ خلق الله الذباب ؟ فقال: ليذل به الجبابرة ! ثم قرأ الآية:﴿ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ ﴾(الحج: 74) وتعريف ( الذُّباب ) في قوله تعالى:﴿وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ ﴾ للجنس, ويفيد العموم والاستغراق, وليس تعريفه للعهد.
والفرق
بينهما:أن تعريف العهد لما ثبت في الأعيان. وتعريف الجنس لما ثبت في
الأذهان. و( السَّلْبُ ), بسكون اللام: اختطاف الشيء من الغير بسرعة, ونزعه
منه على القهر.
يقال:
سلبه نعمته سلْبًا. وأما ( السَلَبُ ), بفتح اللام, فهو ما يُسْلَب,
والجمع: أسلاب. وكل شيء على الإنسان من اللباس وغيره, وعلى القتيل من
السلاح وعدَّة الحرب, فهو سَلَبٌ.
وفي
الحديث:« مَنْ قتل قتيلاً, فله سَلَبُه ». وقوله تعالى:﴿ شَيْئًا ﴾مفعول
به ثانٍ لفعل ﴿ يَسْلُبُ﴾, وتنكيره للتقليل, فيدل على تفاهة المسلوب, وعجز
المسلوب منه عن استنقاذ ذلك الشيء التافه عَجْزًا مطلقًا. وقيل:(
الاستنقاذُ ): استعفالٌ بمعنى: الإفعال.
يقال:
أنقذه من كذا. أي: أنجاه منه, وخلَّصه. والظاهر أن الاستنقاذ مبالغة في
الإنقاذ ؛ مثل الاستحياء والاستجابة, وهو تخليصُ ما أُخِذَ عنْوَةً,
واسترجاعُه من الآخذ بأيِّ وسيلة كانت.
أما الإنقاذُ فهو تخليصُ الإنسان من وَرْطَةٍ كانَ قد وقع فيها ؛ كما في قوله تعالى:﴿ وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا ﴾(آل عمران: 103). وقال بعضهم: إنما خُصَّ الذباب هنا بالذكر, دون غيره من الحشرات, لأربعة أمور تَخُصُّه: لمهانته وضعفه, ولاستقذاره وكثرته.
وبه
يضرَب المثلُ في القَذَر, وفي استطابة النَّتْن, فإِذا عَجزَ الذُّبابُ عن
شمِِّ شيءٍ, فهو الذي لا يكون أنتنُ منه. ومن أمثال العرب:« إنه لأَوْهَى
من الذُّبَابِ », «أشبه من الذُّبَاب بالذُّبَاب », «ألح من الذُّبَاب »,
«أَطيش من ذُبَابٍ »,« أجرأ من الذُّبَاب », « أخطأ من الذُّبَاب ».
والظاهر
أن الذُّبَابَ, وإن كان كذلك, فإنه لم يوضع في هذا المثَل في موضع تحقير
له, وموضع تصغير ؛ لأن المراد ليس تحقيره, وإنما المراد تحقير الذين
يُدْعَوْنَ من دون الله تعالى, وتحقير من يَدعُونهم, ويلتمسون النفع والخير
عندهم, وبيان ضعفهم وعجزهم عن خلْق ذُبَابٍ واحد رَغْمَ اجتماعهم له, وعن
استنقاذ ما يسلبهم الذُّبَابُ من أشياء رغم تفاهتها.
ومن الخصائص التي يتمتع بها الذُّبَابُ عن غيره من الحشرات أن له خزان
وقود دقيق, يوزع الوقود على جميع أجزاء الاحتراق الداخلية بشبكة توزيع
دقيقة وعجيبة , وله أجهزة استشعار أدق ركبت بعناية بالغة على جسمه الدقيق
النحيل الذي لا يزيد طوله عن مليمترات قليلة, ويكيِّف جسمَه جهازُ تكييفٍ
دقيقٍ ذو كفاءة عالية جدًا، ينتشر في كل جزء من أجزائه.
ومنها
أن له عيون كبيرة تحتوي على ست آلاف بنية عينية سداسية يطلق عليها
اسم: العوينات, وتأخذ كل واحدة من هذه العوينات منحى مختلفًا: إلى الأمام,
أو الخلف, وفي الوسط, وفوق, وعلى جميع الجوانب, ويمكن أن يرى كل ما حوله من
جميع الجهات, وأن يشعر بكل شيء في حقل رؤية زاويته ثلاثمائة وستين درجة,
وتتصل ثمانية أعصاب مستقبلية للضوء بكل واحدة من هذه العوينات, وبهذا يكون
مجموع الخلايا الحساسة في العين حوالي ثمانية وأربعين ألف خلية, يمكنها أن
تعالج مائة صورة في الثانية.
ومنهاأنه
يفرز الهواضم على جزئيَّات طعامه ؛ لأنه لا يملك جهازًا هضميًّا معقدًا,
فيهضم الطعام في مكانه قبل أن يمتصه بخرطومه, فهو لا يمتصه بخرطومه إلا
متحوِّلاً مهضومًا ؛ ولذلك فإنه متى سلب شيئًا وامتصَّه, فقد سلبه
متغيِّرًا متحوِّلاً تعجز كل وسائل العلم وأجهزته عن استنقاذه منه ؛ لأنه
قد صار مهضومَ طعامِِ ذبابٍ, ولم يعُدْ جزيئةً من سكر, أو زعفران, أو عسل,
أو دقيق, أو غير ذلك ؛ وذلك قمة التحدِّي والإعجاز.
ومنها
أنه يتمتع بقدرة فائقة على الطيران لا نظير لها ؛ ففي البداية يقوم
بمعاينة الأعضاء التي سيستخدمها في الطيران, ثم يأخذ وضعية التأهُّب
للطيران ؛ وذلك بتعديل وضع أعضاء التوازن في الجهة الأمامية, وأخيرًا يقوم
بحساب زاوية الإقلاع معتمدًا على اتجاه الريح وسرعة الضوء التي يحددها
بوساطة حساسات موجودة على قرون الاستشعار, ثم يطير محلقًا في الفضاء.
وهذه
العمليات مجتمعة لا تستغرق منه أكثر من جزء واحد في المائة من الثانية,
ويسلك أثناء طيرانه مسارًا متعرجًا في الهواء بطريقة خارقة ؛ كما يمكنه أن
يُقلِِعَ عموديًا من المكان الذي يقف فيه, وأن يحط بنجاح على أي سطح بغض
النظر عن انحداره أو عدم ملائمته.
ويستمد
الذباب مهارته الفائقة في الطيران من التصميم المثالي للأجنحة ؛ إذ تغطي
النهايات السطحية والأوردة الموجودة على الأجنحة شعيرات حساسة جدًا، ممَّا
يسهِّل عليه تحديدَ اتجاه الهواء, والضغوط الميكانيكية عند الإقلاع, وتنبسط
عند الهبوط.
وعلى الرغم من أنها تقع تحت تحكم الأعصاب في بداية الطيران ؛ إلا أن حركات هذه العضلات مع الجناح تصبح أوتوماتيكية بعد فترة وجيزة.
تقوم
الحسَّاسات الموجودة تحت الأجنحة والرأس بنقل معلومات الطيران إلى الدماغ,
فإذا صادف الذباب تيارًا هوائيًا جديدًا أثناء طيرانه, تقوم هذه
الحسَّاسات بنقل المعلومات الجديدة في الحال إلى الدماغ, وعلى أساسها تبدأ
العضلات بتوجيه الأجنحة بالاتجاه الجديد.
وبهذه الطريقة يتمكن الذباب من الكشف عن وجود أي حشرة جديدة بتوليد تيار هوائي إضافي, والهرب إلى مكان آمن في الوقت المناسب.
ويحرك جناحيه مئات المرات في الثانية, وتكون الطاقة المستهلكة في الطيران أكثر مائة مرة من الطاقة المستهلكة أثناء الراحة.
ومن
هنا يمكننا أن نعرف أن الذباب مخلوق قوي جدًا ؛ لأن الإنسان يمكنه أن
يستهلك طاقته القصوى في الأوقات الصعبة ( الطوارئ ) والتي تصل إلى عشرة
أضعاف طاقته المستهلكة في أعمال الحياة العادية فقط.
يضاف
إلى ذلك أن الإنسان يمكنه أن يستمر في صرف هذه الطاقة لبضع دقائق فقط كحد
أعلى, على عكس الذباب الذي يمكنه أن يستمر على هذه الوتيرة لمدة نصف ساعة ؛
كما يمكنه أن يسافر بهذه الطاقة مسافة ميل, وبالسرعة نفسها.
ومن
الخصائص الأخرى التي يتمتع بها الذباب وقوفه على سقف المنزل, فحسب قانون
الجاذبية يجب أن يقع إلى الأسفل ؛ إلا أنه خلق بنظام خاص يقلب المستحيل
معقولاً ؛ إذ يوجد على رؤوس أقدامه وسادات شافطة, تفرز سائلاً لزجًا,
وعندما يقترب من السقف يقوم بمد سيقانه باتجاه السقف, وما إن يشعر بملامسته
حتى يستدير ويمسك بسطحه.
وعنده
صلاحية عالية للتحميل بآلاف القنابل الجرثومية الفتاكة المعبأة بجراثيم:
شلل الأطفال , وبكتيريا الكوليرا , والجذام , والتدرُّن الرئوي ( السل ) ,
والتيفوئيد , والباراتيفوئيد , وجراثيم الإسهال , والرمد الصديدي, هذا إلى
جانب نقل بيض بعض الديدان والطفيليات.
ولقد
وصل عدد الميكروبات الضارة التي أحصاها أحد العلماء في شعر ذباب واحد إلى
ستة ملايين وستين ألف ميكروب. وهناك من العلماء من عثر على خمسين مليون
ميكروب على جسم ذباب واحد.
وهناك
أعداد أخرى لميكروبات أخرى موجودة داخل جسم الذباب الواحد, وخصوصًا في
قناته الهضمية. ومن العجيب أن جسم الذباب يحمل قنابل مضادة لمفعول الجراثيم
السابقة, حيث يحمل قنابل الفيروس, ملتقم البكتيريا ( البكتيريوفاج ) الذي
يخترق جسم البكتيريا ويتكاثر بالتضاعف داخلها, ثم يفجرها ويحطمها ويقضي
عليهما.
والأعجب
من ذلك كله أن ما كشف عنه العلم الحديث بوسائله العلمية المتطورة, كان
رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أخبر عنه منذ أكثر من ألف وأربعمائة سنة
في الحديث الذي رواه البخاري وغيرهبإسناده صحيح,وهو قوله عليه الصلاة
والسلام:« إِذَا وَقَعَ الذُّبَابُ فِي
إِنَاءِ أَحَدِكُمْ, فَلْيَغْمِسْهُ كُلَّهُ, ثُمَّ لِيَطْرَحْهُ ؛ فَإِنَّ
فِي أَحَدِ جَنَاحَيْهِ دَاءً, وَفِي الْآخَرِ شِفَاءً ».
وفي رواية أخرى:« إِذَا وَقَعَ الذُّبَابُ فِي طَعَامِ أَحَدِكُمْ أَوْ شَرَابِهِ». وفي رواية ثالثة:« إِذَا وَقَعَ الذُّبَابُ فِي طَعَامِ أَحَدِكُمْ, فَامْقُلُوهُ ؛ فَإِنَّ فِي أَحَدِ جَنَاحَيْهِ دَاءً, وَفِي الْآخَرِ دَوَاء ».
والمَقْلُ:
الغَمْسُ. وقد ذكر الدكتور عبد الباسط محمد السيد رئيس قسم التحليل
والجراثيم في المركز القومي للأبحاث في مصر أن مجموعة من العلماء الألمان
اكتشفوا في الجناح الأيسر للذباب جراثيم غرام سلبي وغرام إيجابي.
وفي
الجناح جراثيم تسمى: باكتر يوفاج. أي: مفترسة الجراثيم, وهذه المفترسة
للجراثيم الباكتر يوفاج, أو عامل الشفاء صغيرة الحجم, يقدر طولها بعشرين
إلى خمسة وعشرين ميلي ميكرون, فإذا وقع الذباب في الطعام أو الشراب, وجب أن
يغمس فيه ؛ لكي تخرج تلك الأجسام الضدية, فتبيد الجراثيم.
وهذه
المضادات واسعة الطيف وقوية التأثير, وشبيهة بالأنتي بيوتك. والآن هناك
عدد كبير من مزارع الذباب في ألمانيا, حيث يتم تحضير بعض الأدوية التي
تستعمل كمضاد للجراثيم والتي أثبتت فعالية كبيرة, وهي تباع بأسعار مرتفعة
في ألمانيا.
ونشرت
جريدة ( الأهرام ) في القاهرة في عددها الصادر ( يوم/2 يوليو/1952م )
مقالة للأستاذ ( مجدي كيرلس جرجس ), وهو مسيحي مصري, ورد فيها:«هناك حشرات
ذات منافع طبية, ففي الحرب العالمية الأولى لاحظ الأطباء أن الجنود ذوي
الجروح العميقة الذين تركوا في الميدان لمدة ما, حتى ينقلوا إلى المشفى, قد
شُفِيت جروحهم, والتأَمَت بسرعة عجيبة, وفي مدة أقل من تلك التي استلزمتها
جروحُ من نقلوا إلى المشفى مباشرة.
وقد
وجد الأطباء أن جروح الجنود الذين تُرِكُوا في الميدان, تحتوي على ( يرقات
), وهي بعض أنواع ( الذباب الأزرق ), وقد وجد أن هذه ( اليرقات ) تأكل
النسيج المتقيح في الجروح, وتقتل البكتريا المتسببة في القيْح والصَّديد.
وقد
استخرجت مادة ( الإنثوين ) من ( اليرقات ) السالفة الذكر, واستخدمت كمرهم
رخيص, ملطف للخراريج والقروح والحروق والأورام. وأخيرًا عُرِفَ التركيب
الكيميائي لمادة ( الإنثوين ), وحضِّرت صناعيًا, وهي الآن تباع بمخازن
الأدوية ».
هذا هو الذُّبَابُ خَلْقٌ من خَلْقِ الله جل وعلا, ﴿ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ ﴾(لقمان:11). ويقول
سبحانه في الحديث القدسي الذي أخرجه الإمام أحمد في مسنده(14/411) عن أبي
زُرْعَةَ عن رسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم:« ومَنْ أظلمُ ممَّن ذهب
يخلُق خلْقًا كخلْقي ! فلْيخلُقوا ذَرَّةً.
أو
فلْيخلُقوا حَبَّةً. أو لِيخلُقوا شَعِرَةً »! وأخرجه الشيخان في
الصحيحين, من طريق عُمَارة, عن أبي زُرْعةَ, عن أبي هريرة, عن النبي صلى
الله عليه وسلم, قال: قال الله عز وجل:« ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي ؟ فليخلقوا ذَرَّةً. أو: ليخلقوا حَبَّة, أو شَعيرةً» (البخاري:22/ 98، ومسلم:11/27).
قيل: إن في ذكر الذَّرَّة إشارة إلى ما له روح, وفي ذكْر الَحَبَّة
والشَّعيرَة إشارة إلى ما ينبُت ممَّا يؤكَل. ونسَب الخَلْقَ إليهم على
سبيل الاسْتِهْزاء, أو التشبيه فِي الصورة فقط, والمرادُ تعجيزهم تارةً
بتكليفهم خَلْقَ حيوان وهو أشدُّ, وتارةً أخرى بتكليفهم خَلْقَ جماد وهو
أهون, ومع ذلك لا قدرة لهم عليه, وهو على سبيل الترقِّي فِي الحقارة, أو
التَّنَزُّلِ في الإلزام..
وهكذا
نرى أن صفة الخَلْقِ المتَّصِفِ بها سبحانه وتعالى, أعظمُ دليل على
وحدانية الله تعالى وإلهيَّته, وهي متضمِّنة صفةَ التصوير والعلم ؛ لأن لكل
مخلوق صورة تخصه, ولا يكون ذلك إلا عن علم بالغيب والشهادة.
ثالثًا- ثم ختم الله عز وجل ذلك المثل المصور الموحي بهذا التعقيب الموجز:﴿ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ ﴾ ؛
ليقرر ما ألقاه المثل من ظلال في النفوس , وما أوحى به من مشاعر إلى
القلوب, فسوَّى سبحانه بين الداعي, والمدعو في الضعف والعجز ؛ فالطالب هو
الداعي, والمطلوب هو المدعو, إشارة إلى قوله تعالى:﴿ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ ﴾, فهو عاجز متعلق بعاجز.
وهذه
الجملة الموجزة أرسلت إرسال المثل ؛ وذلك من بلاغة الكلام ! وقيل: هو
تسوية بين السالب, والمسلوب في الضعف والعجز, إشارة إلى قوله تعالى:﴿وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ﴾.
وعليه
فالطالب هو الصنم, من حيث أنه لو طلب أن يستنقذ من الذباب ما سلبه منه,
لعجز عن ذلك. والمطلوب هو الذباب, من حيث أنه يُطلب من الصنم لاستنقاذ ما
سلبه منه.
وقيل:
الطالب هو الذباب, يطلب ما يسلبه من الصنم. والمطلوب هو الصنم الذي يريد
استنقاذ ما سلب منه. والوجه الأول هو الأقرب إلى الصواب, وإن كان اللفظ
يتناول الجميع.
فمن
جعل العبد المخلوق الضعيف العاجز مع الإله الخالق القوي العزيز القادر،
وسوَّى بينهما, في المحبة والتعظيم, والدعاء والعبادة, والنَّذْر, ونحو ذلك
ممَّا يُخَصُّ به الربُّ جل وعلا, فما عرَفه حقَّ معرفته ولا عظَّمه حقَّ
تعظيمه, ومن عدَل بالله غيره في شيء من خصائصه سبحانه وتعالى, فهو مشرك,
بخلاف من لا يعدِل به, وهذا ما أخبر عنه تعالى بقوله:﴿ مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴾,
وهو إخبارٌ عن الكفَّار وذَمٌّ لهم, المرادُ به أن عبادتهم من دون الله
تعالى من لا يستحق العبادة استخفافٌ بحق إلهيِّته سبحانه ؛ وذلك أن المعبود
أقل درجاته أن يقدر على إيجاد ما ينفع عابده وإعدام ما يضره , وهؤلاء لا
يقدرون على خلق ذباب واحد , ولو اجتمعوا كلهم لخلقه , فكيف بما هو أكبر منه
؛ بل لا يقدرون على الانتصار من الذباب, إذا سلبهم شيئًا فيستنفذوه منه.
فلا
هم قادرون على خلق الذباب الذي هو من أضعف الحيوانات , ولا على الانتصار
منه واسترجاع ما سلبهم إياه ؛ فلا أعجز منهم ولا أضعف , فكيف يليق بالعاقل
أن يقيسهم بالخالق القادر, ويسوِّي بينهم, وبينه في كل شيء ؟ وهذا من أقوى
الحجج وأوضحها برهانًا, وفيه تجهيل عظيم لهم, حيث دَعَوْا من دون الله مَنْ
هذه صفته.
وحقيقة ﴿ قَدَرُوا ﴾عيَّنوا القَدْر وضَبطوه. وإضافة الحق إلى القدْر ﴿ حَقَّ قَدْرِهِ ﴾
هي من إضافة الصفة إلى الموصوف. أي: ما قدروا الله قَدْرَهُ الحقَّ,
فانتصب ( حَقَّ ) على النيابة عن المفعول المطلق المبيَّنِ للنوع.
وقُرِىءَ:﴿ مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدَرِهِ ﴾،
بفتح الدال. وقيل: القَدْرُ والقَدَرُ بمعنىً, وهو في الأَصْلِ مَصْدرٌ.
وقيل: القَدَرُ, بفتح الدال: الاسْمُ, والقَدْرُ, بسكون الدال: المَصْدرُ.
والفرق بينهما: أن القَدَرُ يقال لوقتِ الشيء المقدَّر له, والمكانِ
المقدَّر له, قال تعالى:﴿ إِلَى قَدَرٍ مَّعْلُومٍ ﴾(المرسلات:22).
وقال:﴿ فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا ﴾(الرعد:17). أي: بقدَر المكان المقدَّر لأن يسعها. وقُرِىء:﴿ بِقَدْرِهَا ﴾,بسكون
الدال. أي: بتقديرها. والقَدْرُ يقال لمبلغِ الشيْءِ, وتدبيرِ الشيْءِ
بالشيْءِ, وقياسِ الشيْءِ بالشيْءِ, وكذلك يقال لتعْظِيمِ الشيء. وقيل: أصل
القَدْر: معرفة المقدار بالسَّبْر, ثم استعمل في معرفة الشيء على أتم
الوجوه, حتى صار حقيقة فيه. يقال: قَدَرَ الشيْءَ يقدُره, بالضم, قَدْرًا,
إذا سَبَرَهُ, وأراد أن يعلم مقداره, ثم قيل لمن عرَف شيئًا: هو يقدُر
قَدْرَه.
وإذا
لم يعرفه بصفاته, إنه لا يقدُر قدْره. ومن أطاع الله تعالى ولم يعصِه,
وشكره ولم يكفر به, وذكره ولم ينسه, وعبده ولم يشرك به, فقد قدَره حقَّ
قدْره. أي: عرفه حقَّ معرفته, وعظَّمه حقَّ تعظيمه. أما قوله تعالى:﴿ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴾ تعليل لمضمون الجملة قبله, ضمَّنه تعالى صفتين من صفاته, منافيتين لصفات من يدعون من دونه: الأولى: أنه قوي لا يتعذر عليه فعل شيء.
والثانية:
أنه عزيز لا يقدر أحد على مغالبته. فأي حاجة إلى القول بالشريك, وجعله
مثلاً, وندًّا لله تعالى ؟ وفيه من التهديد بالانتقام منهم على وقاحتهم ما
فيه ! وفي العدول عن أن يقال:﴿ ما قَدَرتم اللهَ حقَّ قدْره ﴾ إلى أسلوب الغيبة:﴿ مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ﴾التفاتٌ, تعريضًا بهم بأنّهم ليسوا أهلاً للمخاطبة, وتوبيخًا لهم, وبذلك يندمج في قوله تعالى:﴿ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴾.
رابعًا- ومن الأسرار الدقيقة في هذا المثل أن الله عز وجل نفى قدرتهم على خلق الذباب بـ( لن ), فقال سبحانه:﴿ لَن يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ ﴾, ثم نفى قدرتهم على استنقاذ ما يسلبهم الذباب بـ( لا ), فقال:﴿ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ﴾. وجمهور
النحاة والمفسرين على القول بأن ( لن )أخت ( لا )في نفي الأفعال
المستقبلة, وأنه لا فرق بينهما في ذلك. وإلى هذا ذهب الزمخشري ؛ لكنه
قال:«إلاّ أن ( لن )تنفيه نفيًا مؤكدًا, وتأكيده هنا الدلالة على أن خلق
الذباب منهم مستحيل مناف لأحوالهم ؛ كأنه قال: محال أن يخلقوا ».
وعقَّب
أبو حيَّان على قول الزمخشري قائلاً:«وهذا القول الذي قاله في ( لن )هو
المنقول عنه: أن ( لن )للنفي على التأييد ؛ ألا تراه فسر ذلك بالاستحالة,
وغيره من النحاة يجعل ( لن )مثل ( لا )في النفي ؛ ألا ترى إلى قوله:﴿ أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ ﴾(النحل: 17),
كيف جاء النفي بـ( لا ), وهو الصحيح ». والتحقيق في هذه المسألة الخلافية:
أن الصحيح ليس هو ما ذهب إليه الجمهور, كما قال أبو حيان, وليس هو ما ذهب
إليه الزمخشري ؛ وإنما الصحيح هو خلاف ذلك, وبيانه من وجوه: أحدها: أن (
لا ) تنفي الحال والمستقبل, و( لن ) تنفي المستقبل خاصَّة. تقول:( لا يفعل )
إذا أردت نفي فعله في الحال والمستقبل, فإذا أردت نفي فعله في المستقبل
دون الحال, قلت:( لن يفعل ). وذهب الشيخ السهيلي في نتائج الفكر في النحو,
وتبعه ابن قيم الجوزية في بدائع الفوائد إلى أن من خواصِّ ( لن ) تخليصها
الفعل للاستقبال, بعد أن كان محتملا للحال, فأغنت عن السين وسوف. وهذا
يعني: أن قولك:( يفعل ) يحتمل الحال والاستقبال, وأن قولك:( سيفعل ),أو(
سوف يفعل )مخلَص للاستقبال, ونفي الأول:( لا يفعل ), ونفي الثاني:( لن يفعل
). وهذا ما نصَّ عليه سيبويه في باب ( نفي الفعل ), فقال:« وإذا قال: سوف
يفعل, فإنَّ نفيه: لن يفعل ».
وحكى عن الخليل قوله في قولهم:( سيفعل ), فقال:«وزعم الخليل أنها جواب: لن يفعل ».
والثاني:
ومن خواصِّها أيضًا- كما قال الشيخ السهيلي رحمه الله- أنها تنفي ما قرُب,
فلا يمتدُّ معنى النفي فيها كامتداد معناه في ( لا ), إذا قلت:( لا يفعل
ذلك أبدًا ), فـ( لا ) هي لامٌ بعدها ألفٌ, يمتدُّ بها الصوت ما لم يقطعه
تضييق النفَس ؛ فآذن امتداد لفظها بامتداد معناها.
و( لن ) بخلاف ذلك, فتأمله, فإنه معنى لطيف, وغرض شريف.
والثالث:
أن ( لن ) – كما قال الخليل- مركبة من ( لا ), و( أن ), خلافًا لمن قال
ببساطتها, ولا يلزم ما اعترض عليه سيبويه من تقديم المفعول عليها ؛ لأنه
يجوز في المركبات ما لا يجوز في البسائط.
والدليل على ذلك: أنَّ ( أنْ ) تدل على إمكان الفعل دون الوجوب والاستحالة, تأمل قوله تعالى:﴿ أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ أَن يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ ﴾(المعارج: 38)
تجد فيه أن دخول الجنة ممكن لكل امرئ يطمع في دخولها, وهذا المعنى هو الذي
دلت عليه ( أن ) الاستقبالية. فإذا قلت:( لن يدخل اليهود والنصارى الجنة
), دلت ( لن ) على نفي إمكان الدخول الذي دلت عليه ( أن ).
وعلى هذا جاء قوله تعالى:﴿ وَقَالُوْا لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى ﴾(البقرة:111).
فإذا ثبت ذلك, كان معنى ( لن ) نفيُ الإمكان بـ( أن ). والعرب- كما قال
الشيخ السهيلي- إنما تنفي بـ( لن ) ما كان ممكنًا عند المخاطب, مظنونًا أنه
سيكون, فتقول له:( لن يكون ), لِمَا ظن أنه يكون ؛ لأن ( لن )فيها معنى (
أن ).
وإذا
كان الأمر عندهم على الشك, لا على الظن ؛ كأنه يقول:أيكون, أم لا ؟ قلت في
النفي:لا يكون.. وهذا كله مقول ؛ لتركيبها من ( لا )و( أن ). وعلى هذا جاء
قول الله تعالى:﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ ﴾(الحج: 73),
فنفى سبحانه قدرتهم على خلق ذباب واحد ؛ لأنه في ظنهم أنهم قادرون على
خلقه. وأما الذي يكون مستحيلاً استحالة مطلقة فيأتي نفيه بـ( لا )قطعًا ؛
كما أتى في قوله الله تعالى:﴿ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ﴾,
فنفى قدرتهم على استنقاذ ما يسلبهم الذباب نفيًا قاطعًا, يدل على استحالة
استنقاذ أي شيء مما يسلبه الذباب. ومما يدلك على أن ( لن )ينفى بها ما كان
ممكنًا عند المخاطب مظنونًا: أنه سيكون أن الروس الذين يعتقدون أن الحياة
جاءت نتيجة تفاعلات طبيعية وقابلات مادية أوجدت تلك الحياة, وأنه لا خالق
لهذه الحياة, حاولوا بعد اكتشاف الخلية الواحدة التي هي أصل الخلق أن
يخلقوا الحياة بخلق هذه الخلية التي تسمَّى ( الأمييا ),وكانوا حريصين كل
الحرص على إثبات أن الحياة, ومن ثم الإنسان, جاء نتيجة تفاعلات كيميائية,
فكلفوا أشهر علمائهم في الكيمياء, واسمه ( أوفارين ) مع مجموعة من العلماء
أن يخلقوا مادة حيَّة من مواد ميتة.
وبعد
عشرين عامًا من البحث وقف ( أوفارين ) ؛ ليعلن عجزه, وليؤكد أن خلق الحياة
من مواد ميتة لا يدخل في نطاق المعرفة البشرية والقدرة البشرية , وأنه لا
يمكن أن تأتي حياة من مواد ميتة. وحتى لا يسأل: من أين جاء الإنسان , ومن
أين جاءت الحياة ؟ قال: إن الحياة الأولى لعلها جاءت من أحد الكواكب من
خارج الأرض, فأحالها إلى المجهول. وقد تلا ذلك عدة محاولات لتقليد الذبابة,
ومع ذلك فإنها عجزت عن الوصول إلى المستوى الراقي والمعقد الموجود في
الذبابة, وكان البروفيسور ( رونالد فيرينج ) أستاذ الهندسة
الإلكترونية في جامعة كاليفورنيا في بيركلي طموحًا للغاية حينما أخذ على
عاتقه تطوير وإنتاج ذبابة آلية تعمل بالريموت, ناعمة وصغيرة, ورشيقة
الحركة, وقادرة على المناورة ؛ للاستفادة منها في عمليات الاستطلاع
والاستكشاف والبحث والإنقاذ,ومن خلال ما قام به من مراقبة وبحث, تبين له أن
جناحي الذبابة الحقيقية يخفقان ( 150 ) مرة في الثانية, وأنها تتحرك في
مختلف الاتجاهات, وتهبط وترتفع وتغوص بخفة ورشاقة وحركة سريعة وحيوية
مذهلة, وأنها قادرة على الانعطاف الحاد والدوران بزاوية قائمة ( 90 ) درجة
خلال اقل من ( 50 ) ميلي ثانية,وهو ما تعجز عنه طائرة ( الشبح ستيلث
) المقاتلة الحديثة, ولو قامت به لتمزقت إلى قطع وشظايا صغيرة.
وقد
واجه ( فيرينج ) صعوبات, وتحديات حقيقية ومعقدة في تصنيع وتحضير
المكونات المتناهية الدقة والصغر لذبابته الآلية باستخدام أشعة الليزر في
الهندسة التقنية والميكانيكا الجزئية الدقيقة وجهاز سريع لتصميم وإنتاج
النماذج الأولية,بحيث يسمح له بالقطع والوصل, وترتيب الأجزاء على
الكمبيوتر, والقيام بعمليات الفصل والوصل, وإعادة الترتيب والتنظيم تحت
المجهر, وفي النهاية كانت هذه المحاولة ( والتي تعد من أفضل المحاولات) ما
تزال بعيدة عن الإبداع الموجود في الذبابة الحقيقية, واقتصرت هذه المحاولة
على تقليد الأجزاء ذات الصلة الأساسية بقدراتها على الطيران والحركة
والمناورة.
ومما يدلك على أن ( لا )ينفى بها ما كان مستحيلاً ومشكوكًا فيه عند
المخاطب: أن الدراسات والأبحاث الحديثة أثبتت أن الذباب قد انفرد عن سائر
الحيوان بأنه يفرز الهواضم على جزئيَّات طعامه, فيهضمه في مكانه قبل أن
يمتصه بخرطومه, فهو لا يمتصه بخرطومه إلا متحوِّلاً مهضومًا ؛ ولذلك فإنه
متى سلب شيئًا وامتصَّه, فقد سلبه متغيِّرًا متحوِّلاً, تعجز كل وسائل
العلم وأجهزته عن استنقاذه منه ؛ فإنه قد صار مهضومَ طعام ذباب, ولم يعد
جزيئة من سكر أو زعفران أو عسل أو دقيق, أو غير ذلك ؛ وذلك قمة التحدِّي
والإعجاز..
ومن العجائب
أن خلايا التذوق لدى الذباب. أي: التي يتعرف بها على مذاق طعامه موجودة
بالجزء السفلي من أرجله بالإضافة إلى فمه.. فتأمل ! وأختم بقول ابن قيم
الجوزية:« فتأمل هذا المثل الذي أمر الناس كلهم باستماعه, فمن لم يستمعه,
فقد عصى أمره, كيف تضمن إبطال الشرك وأسبابه بأصح برهان, في أوجز عبارة
وأحسنها وأحلاها, وأسجل على جميع آلهة المشركين أنهم, لو اجتمعوا كلهم في
صعيد واحد, وساعد بعضهم بعضًا وعاونه بأبلغ المعاونة, لعجزوا عن خلق ذباب
واحد. ثم بين ضعفهم وعجزهم عن استنقاذ ما يسلبهم الذباب إياه حين يسقط
عليهم. فأي إله أضعف من هذا الإله المطلوب, ومن عابده الطالب نفعه وخيره ؟
فأقام سبحانه حجة التوحيد, وبين إفك أهل الشرك والإلحاد بأعذب ألفاظ
وأحسنها, لم يستكرهها غموض, ولم يشنها تطويل, ولم يعبها تقصير, ولم تزر بها
زيادة, ولا نقص ؛ بل بلغت في الحسن والفصاحة والبيان والإيجاز مالا يتوهم
متوهم, ولا يظن ظان أن يكون أبلغ في معناها منها, وتحتها من المعنى الجليل
القدر, العظيم الشرف, البالغ في النفع, ما هو أجل من الألفاظ »!
يمكن التواصل مع المؤلف:
بقلم: محمد إسماعيل عتوك
إرسال تعليق