أستاذ التفسير في جامعة الزرقاء ـ الأردن
دلالة حديث ( أبي عُمَير ) على الإعجاز التشريعي الإسلامي وشموله جميع مناحي الحياة
روايات الحديث: قال الحافظ أبو العباس أحمد بن أبي أحمد الطبري:
1 – أخبرنا أبو خليفة بن الحباب الجمحي … عن أنس بن مالك : ” أن النبي قال لأخ له صغير: يا أبا عمير ما فعل النغير “.
2 – حدثنا محمد بن عبد الله الحضرمي … عن أنس بن مالك قال: ” كان رسول الله يغشانا ويخالطنا، فكان معنا صبي يقال له أبو عمير فقال: يا أبا عمير ما فعل النغير “.
3 – حدثنا عبد الله بن غنام الكوفي … قال سمعت أنس بن مالك يقول: ” كان رسول الله يخالطنا، ونضحنا له [رش قليل من الماء] بساطا لنا فصلى عليه، وكان يقول لأخ لي: يا أبا عمير ما فعل النغير “.
4 – حدثنا إسحاق بن أحمد الخزاعي … عن أنس بن مالك قال: ”
كان بُنيٌّ لأبي طلحة يكنى أبا عمير، وكان النبي إذا جاء إلى أم سليم
مازحه، فدخل فرآه حزينا فقال: ما بال أبي عمير حزينا، فقالوا: مات يا رسول
الله نغيره الذي كان يلعب به، فجعل رسول الله يقول: أبا عمير ما فعل النغير
.. وما مسست شيئاً قط ( خزة ولا حريرة ) ألين من كف رسول الله “.
5 – حدثنا أحمد بن علي الموصلي … عن أنس بن مالك: ” أن النبي كان يأتي أم سليم، وكان إذا مشى يتوكأ، فكان ينام على فراشها “.
—————
فوائد الحديث:
قال الشيخ عبد الفتاح أبو غدة في كتابه الرائع: الرسول المعلم وأساليبه في التعليم:
(النُّغَير) تصغير النُّغَر، وهو طائر يُشبِهُ العُصفورَ أحمرُ المِنقار.
وفي حديث أنسٍ هذا من الفوائد والأمور التعليمية:
1. تخصيصُ الإمام بعضَ الرعية بالزيارة.
2. مخالطة بعض الرعية دون بعض.
3. جوازُ حَمْلِ العالم علمَه إلى من يستفيدُه.
4. جوازُ الممازحة وأن ممازحة الصبي الذي لم يُميِّز جائزة.
5. جوازُ تكنية من لم يولَد له ولد.
6. جوازُ لعب الصغيرِ بالطَّير، وجواز تمكين الولي إياه من ذلك.
7. جواز إنفاقِ المال فيما يَتَلَهّى به الصغير من المباحات.
8. جوازُ إمساكِ الطير في القفص ونحوِه.
9. معاشرةُ الناس على قَدْر عقولِهم ومَدارِكهم.
10. جوازُ نداءِ الشخصِ باسمِه المصغَّر عند عدم الإيذاء به لقوله (يا أبا عُمَير).
11. جواز السؤالِ عما السائلُ به عالم من غير أن يكون استهزاءً ، لقوله (ما فعل النُّغَير)؟ بعد علمه بأنه مات.
وبعضُ
العلماء شرَح هذا الحديث في جزءٍ مستقل، واستخرج منه أكثرَ من ستين فائدةً
كما في (فتح الباري) 10/481، وبعضُهم أوصلَها إلى أكثر من ثلاثمائة
فائدةٍ، كما أشار إلى ذلك شيخُنا عبد الحي الكتاني رحمه الله تعالى في
(التراتيب الإدارية) 2/150.
وقال
العلاّمةُ المؤرِّخُ الأديبُ المَقَّري في (نفح الطيب) 6/215 في (الباب
الخامس) عند ذكر كلام لسان الدين ابن الخطيب في وصف مدينة (مكناسة) :
(أَملى ابن الصَّبّاغ بمجلسِ درسِه بمِكْناسة في حديث (يا أبا عمير ، ما
فعل النغير) أربعَمائةِ فائدة).
—————
أما
الستين فائدة التي ذكرها ابن حجر، فقد قال أبو العباس الطبري: وفيما روينا
من قصة أبي عمير ستون وجها من الفقه والسنة، وفنون الفائدة والحكمة.. فمن
ذلك:
1 – أن سنة الماشي أن لا يتبختر في مشيته، ولا يتباطأ فيه، فإنه [أي رسول الله] كان إذا مشى توكأ، كأنما ينحدر من صبب.
2 – ومنها أن الزيارة سنة.
3 – ومنها الرخصة للرجال في زيارة النساء غير ذوات المحارم.
4 – ومنها زيارة الحاكم الرعية.
5 – ومنها أنه إذا خص الحاكم بالزيارة والمخالطة بعض الرعية دون بعض فليس ذلك بميل محرَّم.
6 – تواضع الحاكم للرعية.
7 – دليل على كراهية الحجاب للحكام.
8 – أن الحاكم يجوز له أن يسير وحده.
9 – أن أصحاب المقارع بين يدي الحكام والأمراء محدثة مكروهة.
10 – وفي قول أنس: ” يغشانا “، ما يدل على كثرة زيارته لهم.
11 – وأن كثرة الزيارة لا تخلق الحب والمودة، ولا تنقصها إذا لم يكن معها طمع.
12-
وأن قوله عليه السلام لأبي هريرة: ” زر غبا تزدد حباً “. كما قاله بعض أهل
العلم لما رأى في زيارته من الطمع لِما كان بأبي هريرة من الفقر والحاجة،
حتى دعا له النبي في مزودة وكان لا يدخل يده فيها إلا أخذ حاجته، فحصلت له
الزيارة دون الطمع.
13 – وفي قول أنس: ” يخالطنا ” ما يدل على الألفة بخلاف النفور وذلك من صفة المؤمن.
14
– ومنها أن ما روي في الخبر: ” فرَّ من الناس، فرارك من الأسد “. إذا كانت
في لقيهم مضرة لا على العموم، فأما إذا كانت فيه للمسلمين ألفة ومودة:
فالمخالطة أولى.
15
– وفيه دلالة على الفرق بين شباب النساء وعجائزهن في المعاشرة، إذ اعتذر
النبي إلى من رآه واقفاً مع صفية، ولم يعتذر من زيارته أم سليم بل كان
يغشاهم الكثير.
16 – وفي قول أنس: ” ما مسست شيئاً قط ألين من كف رسول الله ” ما يدل على مصافحته، وإذا ثبتت المصافحة دل على تسليم الزائر إذا دخل.
17 – ودل على مصافحته.
18 – ودل على أن يصافح الرجل دون المرأة، لأن أنس لم يقل: ” فما مسسنا “. وإنما قال: ” ما مسست “.
19 – وفي لين كف رسول الله ما يدل على أنه لا ينبغي أن يتعمد المصلي إلى شدة الاعتماد على اليدين في السجود.
20 – وفيه ما يدل على الاختيار للزائر إذا دخل على المزور أن يصلي في بيته كما صلى النبي.
21 – وفيه ما يدل على ما قاله بعض أهل العلم أن الاختيار في السنة الصلاة على البساط والجريد والحصير.
22 – وفي نضحهم ذلك البساط له وصلاته عليه (مع علمه أم في البيت صبيا صغيراً) دليل على أن السنة ترك التقزز.
23 – ودليل على أن الأصل في الأشياء بقاءها على الطهارة، حتى يعلم يقين النجاسة.
24
– وفي نضحهم البساط لصلاة رسول الله دليل على أن الاختيار للمصلي أن يقوم
في صلاته على أروَح الحال وأمكنها، لا على أجهدها وأشدها؛ لئلا يشغله الجهد
عما عليه من أدب الصلاة وخشوعها، كما أمر الجائع أن يبدأ بالطعام قبل
الصلاة.
25
– وفي صلاته في بيتهم ليأخذوا علمها دليل على جواز حمل العالم علمه إلى
أهله إذا لم يكن فيه على العلم مذلة، وأن ما روي في أن العلم يؤتى ولا
يأتي: إذا كانت فيه للعلم مذلة، أو كان من المتعلم على العالم تطاول.
26 – وفيه دلالة اختصاص لآل أبي طلحة، إذ صلى رسول الله في بيتهم.
27 – وأخذ آل أبي طلحة قِبلة بيتهم بالنص عن رسول الله دون الدلائل والعلامات.
28 – وفي قول أنس: ” وكان رسول الله إذا جاء مازحه “. ما يدل على أنه كان يمازحه كثيرا وإذا كان كذلك كان في ذلك شيئان:
29 – أحدهما أن ممازحة الصبيان مباح.
30 – والثاني أنها إباحة سنة لا إباحة رخصة لأنها لو كانت إباحة رخصة: لم يكثرها.
31 – وفيه ما يدل على ترك التكبر والترفع.
32 – وما يدل على حسن الخلق.
33
– وفيه دليل على أنه يجوز أن يختلف حال المؤمن في المنزل من حاله إذا برز
فيكون في المنزل أكثر مزاحا وإذ خرج أكثر سكينة ووقاراً إلا من طريق
الرياء.
34
– وإذا كان ذلك كما وصفنا ففيه دليل على أن ما روي في صفة المنافق أنه
يخالف سره علانيته ليس على العموم، وإنما هو على معنى الرياء والنفاق، كما
قال جل ثناؤه ( وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلو إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون ).
35 – وفي قوله فرآه حزيناً ما يدل على إثبات التفرس (الفراسة) في الوجوه.
36 – وفيه دليل على الاستدلال بالحزن الظاهر في الوجه، على الحزن الكامن في قلبه حتى حداه على سؤال حاله.
37 – وفي قوله: ” ما بال أبي عمير ” دليل على أن من السنة إذا رأيت أخاك أن تسأل عن حاله.
38 – وفيه دليل كما قال بعض أهل العلم على حسن الأدب بالسنة في تفريق اللفظ بين سؤالين:
فإذا سالت أخاك عن حاله، قلت: مالك [كما قال النبي في حديث أبي قتادة: مالك يا أبا قتادة].
وإذا سألت غيره عن حاله، قلت: ما بال أبي فلان [ كما قال النبي في هذا الحديث ما بال أبي عمير].
39 – وفي سؤاله من سأل عن حال أبي عمير دليل على إثبات خبر الواحد.
40 – وفيه دليل على أنه يجوز أن يكنى من لم يولد له.
41 – وفي قول أنس: ” مات نغيره الذي كان يلعب به ” دليل على رخصة اللعب للصبيان.
42 – وفيه دليل على الرخصة للوالدين في تخلية الصبي وما يروم من اللعب إذا لم يكن من دواعي الفجور.
43 – وفيه دليل على أن إنفاق المال في ملاعب الصبيان ليس من أكل المال بالباطل، إذا لم يكن من الملاهي المنهية.
44 – وفيه دليل على جواز إمساك الطير في القفص.
45 – وجواز قص جناح الطير لمنعه من الطيران.
46
– وفيه دليل على أن رجلا لو اصطاد صيداً خارج الحرم ثم أدخل الحرم لم يكن
عليه إرساله، وذلك لأن النبي حرم الاصطياد بين لابتي [حرَّتي] المدينة
وأجاز لأبي عمير إمساكه فيها.
47 – وفي قوله: ” ما فعل النغير ” دليل على جواز تصغير الأسماء كما صغر النغيرة.
48
– وكان النبي إذا مازحه بذلك يبكي أبو عمير، ففي ذلك دليل أن قول النبي في
حديث آخر إذا بكى اليتيم اهتز العرش ليس على العموم في جميع بكائه. وذلك
أن بكاء الصبي على نوعين:
أ. بكاء الدلال عند المزاح والملاطفة.
ب. بكاء الحزن، أو الخوف عند الظلم، أو المنع عما به إليه الحاجة.
فإذا مازحت يتيما أو لاطفته فبكى فليس في ذلك ـ إن شاء الله تعالى ـ اهتزاز عرش الرحمن.
49
– وقد زعم بعض الناس أن الحكيم لا يواجه بالخطاب غير العاقل، وقال بعض
أصحابنا: ليس كذلك، بل صفة الحكيم في خطابه أن لا يضع الخطاب في غير موضعه.
50 – وفيه دليل على أن للعاقل أن يعاشر الناس على قدر عقولهم، ولا يحمل الناس كلهم على عقله.
51
– وفي نومه عندهم دليل على أن عماد القسمة بين النساء هو المبيت بالليل،
وأن لا حرج على الرجل في أن يقيل بالنهار عند أي امرأة شاء.
52 – وفيه دليل على سنة القيلولة.
53 – وفيه دليل على خلاف ما زعم بعضهم في أدب الحكام: أن نوم الحكام والأمراء في منزل الرعية دناءة تسقط مروءة الحاكم.
54 – وفي نومه على فراشها دليل على خلاف قول من كره أن يجلس الرجل في مجلس امرأة ليست له بمحرم.
55 – وفيه أنه يجوز أن يدخل المرء على المرأة المحرَّمة في منزلها.
56 – وفي نضح البساط له ونومه على فراشها دليل على إكرام الزائر.
57 – وفيه أن التنعم الخفيف غير مخالف للسنة.
58
– وفيه دليل على أنه ليس بفرض على المزور أن يشيِّع الزائر إلى باب الدار،
كما أمر النبي بتشييع الضيف إلى باب الدار؛ إذ لم يذكر في هذا الحديث
تشييعهم له إلى الباب.
59
– وقد اختلف أهل العلم في تفسير ما ذكر من صفة النبي في حديث هند بن أبي
هالة كانوا إذا دخلوا عليه لا يفترقون إلا عن ذواق: قال بعضهم أراد به
الطعام، وقال بعضهم أراد به ذواق العلم، ففي تفسير هذا الحديث الدليل على
تأويل من تأوله على ذواق العلم إذ قد أذاقهم العلم ولم يذكر فيه ذواق
الطعام.
60
– وكان من صفة رسول الله أنه كان يساوي بين جلسائه حتى يأخذ منه كل بحظ،
وكذلك فعل رسول الله في دخوله على أم سليم صافح أنساً، ومازح أبا عمير
الصغير، ونام على فراش أم سليم حتى نال الجميع من بركته.
—————
وأضاف أحد الإخوة فوائد أخرى:
1. أن أسماء الأعلام لا يقصد معانيها.
2. وأن إطلاقها على المسمى لا يستلزم الكذب, لأن الصبي لم يكن أباً لكنه دعي: أبا عمير.
3. جواز السجع في الكلام إذا لم يكن متكلفاً.
4. وأن ذلك لا يمتنع من النبي كما امتنع منه إنشاء الشعر.
5. وفيه إتحاف الزائر بصنيع ما يعرف أنه يعجبه من مأكول أو غيره.
6. جواز الرواية بالمعنى, لأن القصة واحدة وقد جاءت بألفاظ مختلفة.
7.
وفيه جواز الاقتصار على بعض الحديث, وجواز الإتيان به تارة مطولاً وتارة
ملخصاً, وجميع ذلك يحتمل أن يكون من أنس ويحتمل أن يكون ممن بعده.
8. مسح رأس الصغير للملاطفة .
9. وفيه دعاء الشخص بتصغير اسمه (عند عدم الإيذاء).
10. وفيه جواز السؤال عمَّا السائل عالمٌ به، لقوله: ” ما فعل النغير ” ؟ بعد علمه بأنه مات .
11.
وفيه إكرام أقارب الخادم وإظهار المحبة لهم, لأن جميع ما ذكر من صنيع
النبي صلى الله عليه وسلم مع أم سليم وذويها كان غالبا بواسطة خدمة أنس له.
ملاحظة
هامة: أم سليم ( والدة أبي عمير ) كانت من محارم رسول الله صلى الله عليه
وسلم (من خالاته)، كما بينه الإمام النووي في شرح صحيح مسلم، ونقل اتفاق
العلماء على ذلك. ويبدو أن أبا العباس الطبري لم يظهر له ذاك، والله أعلم.
وبهذا
تكتمل الفوائد التي زادت عن الثمانين للحديث، وبه نتيقن روعة الإسلام،
وكيف أنه شامل لكل نواحي الحياة.. فهل ييسر الله لنا أخاً جهبذا كابن
الصباغ يستنبط أربعمائة فائدة من الحديث؟
للتواصل: د. عبدالرحيم الشريف
ــــــــــــــــــــــــــ
المراجع:
1.
أبو العباس أحمد بن أبي أحمد الطبري الشافعي، جزء فيه فوائد حديث أبي
عمير، تحقيق: صابر البطاوي، ط1، مكتبة السنة، القاهرة، 1992م.
2. عبد الفتاح أبو غدة، الرسول المعلم وأساليبه في التعليم، ط1، مكتب المطبوعات الإسلامية، حلب، 1996م.
إرسال تعليق