0

د. عبدالجواد الصاوي

ملخص المقالة السابقة:

 

تذكر المراجع الطبية أن انتشار واستمرار الأمراض السارية بين الناس تعتمد على عاملين أساسيين: المخازن الحاوية للكائنات الدقيقة التي تسبب الأمراض، والطرق المؤثرة في نقل هذه الكائنات للإنسان، بالإضافة إلى العوامل الخاصة بالكائنات نفسها، والعوامل التي تتعلق بالإنسان والتي أهمها حالة أجهزة الدفاع والمقاومة لديه.


وللوقاية من هذه الكائنات التي يمكن أن تصيب الإنسان بأضرار بالغة لابد من مراعاة أمور ثلاثة:


1- التخلص من مخازن هذه الكائنات أو تنظيفها بقدر الإمكان، والتي تتوزع بين الإنسان والحيوان والبيئة متمثلة في التربة والماء.


2- قطع الطرق الموصلة لهذه الكائنات إلى جسم الإنسان.


3- تقوية أجهزة المناعة والدفاع لدى الإنسان.


وقد ذكرت في المقالة السابقة المنشورة في العدد الثالث من مجلة الإعجاز أن نصوص الشريعة حرصت على أن تستأصل هذه الكائنات من مخازنها لدى الإنسان، وتحول بينها وبين إلحاق الضرر به من خلال نظم ووسائل جعلتها عبادة يتقرب بها المسلم لربه ويفعلها محبا طائعاً فأرست قاعدة النظافة الشخصية لأفراد المجتمع وسمتها الطهارة وجعلتها شطر الدين، ورسخت عملياً وسائل تحقيق هذه القاعدة بتشريع الوضوء والغسل والتزام تطبيق سنن الفطرة من السواك والمضمضة والاستنشاق والختان وتقليم الأظافر وحلق العانة وغسل عقد الأصابع ونظافة السبيلين واجتناب النجاسات والحفاظ على نظافة الثياب والمظهر العام، فهذه التشريعات المترابطة بدقة والتي لا مثيل لها في أي تشريع أو دين أو معتقد تفضي إلى تنظيف بؤر ومخازن الكائنات الدقيقة للإنسان على الجلد وفي الأنف والفم والحلق وقناة الهضم.


وفي هذه المقالة نتناول قطع الطرق الموصلة لهذه الكائنات إلى جسم الإنسان. وهو عامل رئيسي في الوقاية والحد من انتشار الأمراض والأوبئة.  


 

لقد حمت نصوص الشريعة الإسلامية هذا الإنسان، ووقته من شرور وأخطار هذه الكائنات، فشرعت التدابير التالية للحيلولة بين الكائنات الممرضة والإنسان:


الماء الراكد بيئة خصبة للكائنات الدقيقة.

1- نظافة البيئة المحيطة بالإنسان:

لقد حرص الشارع على نظافة البيئة التي ستنعكس حتماً على صحة الفرد والمجتمع والتي تتمثل في:


أ- نظافة المساكن والأفنية:


قال رسول الله صلى الله عليه وسلم"

إن الله طيب يحب الطيب، نظيف يحب النظافة، كريم يحب الكرم، جواد يحب الجود، فنظفوا- أراه قال-: أفنيتكم ولا تشبهوا باليهود

" رواه الترمذي.

ب- نظافة الطرقات وأماكن التجمع:


حث النبي صلى الله عليه وسلم على إماطة الأذى عن الطرق وعدم التخلي في طريق الناس وظلهم فقال:(

عرضت عليّ أعمال أمتي حسنها وسيئها فوجدت في محاسن أعمالها الأذى يماط عن الطريق ووجد في مساوئ أعمالها النخامة تكون في المسجد لا تدفن

). رواه مسلم.

وقال صلى الله عليه وسلم أيضاً:(

البصاق في المسجد خطيئة وكفارتها دفنها

) رواه البخاري.

وقال صلى الله عليه وسلم:(

اتقوا اللعانين، قالوا وما اللعانان يا رسول الله! قال الذي يتخلى في طريق الناس وفي ظلهم

) رواه مسلم.

إن المناطق الباردة الرطبة وذات الظل تعتبر جواً ملائماً لنمو أغلب أنواع البكتريا وبويضات الديدان وذلك لخلوها من تأثير الأشعة فوق البنفسجية القاتلة للجراثيم والبويضات، وبما أن البول والبراز يعتبران من مصادر هذه الجراثيم والديدان- حيث يحتوي الجرام الواحد من البراز على أكثر من مائة ألف مليون جرثومة- لذلك نصح رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدم التبول والتبرز في الظل.


2- حفظ الطعام والهواء والماء من التلوث:


إن جراثيم الأمراض والأوبئة تنتقل بشكل رئيسي من خلال الطعام والهواء والماء. فأمر الشارع الحكيم بأمور تصب كلها في حفظ هذا الثلاثي من التلوث بها:


حفظ الطعام من التلوث:

يعتبر تناول الأطعمة الملوثة من أهم وسائل انتقال الأمراض كالتيفود والزحار وشلل الأطفال والتهاب الكبد الفيروسي حيث تنتقل جراثيم المرض من براز المريض أو حامل المرض إلى الإنسان وذلك عن طريق اليد أو الآنية ونسبة حدوث ذلك تعتمد اعتماداً كبيراً على مستوى نظافة الفرد والبيئة وتطورها، فها هو رسول الله صلى الله عليه وسلم يبث الثقافة الصحية بين المسلمين قبل أن تكتشف الكائنات الدقيقة الممرضة ليقيهم أخطارها، فأمر المسلمين بتخصيص يد للأكل والمصافحة، ويد لمباشرة الأذى والخلاء، عن عائشة رضي الله عنها قالت:(

كانت يد رسول الله صلى الله عليه وسلم اليمنى لطهورة وطعامه واليسرى لخلائه وما كان من أذى

) رواه أبو داود.

وقال صلى الله عليه وسلم (

يا غلام ! سم الله وكل بيمينك وكل مما يليك

) رواه البخاري ومسلم.

حفظ الهواء من التلوث:

إن نفخ الرزاز وزفره يؤدي إلى انتقال كثير من الأمراض المعدية كالأنفلونزا وشلل الأطفال والنكاف والحصبة الألمانية والرشح والتهاب الحلق والجدري والسل وغيرها من الأمراض وخاصة الفيروسية، لذلك وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم أتباعه عدم النفخ والتنفس في آنية الأكل والشرب، كما أمرهم بتغطية الوجه أثناء العطاس والتثاؤب، فعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال:(

نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتنفس في الإناء أو ينفخ فيه

) رواه أبو داود.

وفي الحديث إن النبي صلى الله عليه وسلم

نهى عن النفخ في الشراب، فقال رجل: القذارة أراها في الإناء ؟ قال: " احرقها " قال: فإني لا أروى من نفس واحد ؟ قال: " فأبن القدح عن فيك

" رواه الترمذي.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم (

كان إذا عطس غطى وجهه بيديه أو بثوبه وغض بها صوته

) رواه الترمذي.. وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (

إذا تثاءب أحدكم فليضع يده على فيه

) رواه البخاري.

حفظ الماء من التلوث:

 

يعتبر الماء الراكد جواً ملائماً لنمو الكثير من البكتريا كالكوليرا والسالمونيلا والشيجلا وغير ذلك، كما تحتاج بعض الطفيليات الأولية والديدان كالزحام الأميبي والديدان المستديرة والبلهارسيا إلى الماء لإكمال دورة حياتها خارج جسم الإنسان، ويساعد التبول والتبرز على نمو هذه الطفيليات والديدان وسرعة تكاثرها وانتشارها، لذلك نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التبول في الماء الراكد- الذي لا يجري- لكي يبقى الماء في وقاية من التلوث.


عن أبي هريرة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:(

لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري ثم يغتسل فيه

) متفق عليه.

كما أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم بتغطية الآنية وربط قرب الماء منعاً من تلوثها من الجراثيم الوافدة والتي تؤدي إلى ظهور الأوبئة وانتشارها فقال صلى الله عليه وسلم (

غطوا الإناء وأوكوا السقاء فإن في السنة ليلة ينزل فيها وباء لا يمر بإناء ليس عليه غطاء أو سقاء ليس عليه وكائ إلا نزل فيه من ذلك الوباء

) رواه مسلم.

ولوقاية الماء من التلوث أيضاً نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن إدخال المستيقظ من نوم يده في الإناء قبل أن يغسلها ويطهرها فلعله مس أو حك بها سوءته أو عضواً مريضاً متقرحاً من جسمه وهو نائم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(

إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثاً، فإنه لا يدري أين باتت يده

) رواه مسلم.

ولحفظ الماء من التلوث أيضاً نهى صلى الله عليه وسلم عن الشرب مباشرة من فم السقاء روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما:(

نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يشرب من في السقاء

). إن المليلتر من اللعاب يحوي بلايين الجراثيم فعندما تخرج هذه البلايين في لعاب الشارب أثناء شربه من إناء كبير، يمكث فترة طويلة كمصدر لشرب كثير من الناس، تتهيأ الفرصة لتكاثر هذه البلايين وتسبب تلوثاً لهذه الماء ويصير مصدر خطر لمن يشرب من هذا الماء بعد ذلك.

3- عزل المرضى والحجر الصحي:

ومنعاً لانتشار الأمراض والأوبئة وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم قاعدتين أساسيتين تعتبران من أساسيات الطب الوقائي الحديث بعد اكتشاف مسببات الأمراض والأوبئة وهما قاعدتي العزل والحجر الصحي، ففي الأولى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(

لا يوردن ممرض على مصح

) رواه الشيخان، وفي الثانية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(

إذا سمعتم بالطاعون في أرض فلا تدخلوها، وإذا وقع بأرض وأنتم فيها فلا تخرجوا منها

) رواه الشيخان.

لقد كانت الأوبئة الفاتكة والأمراض المعدية في العالم الإسلامي أقل بكثير منها في أوربا، في نفس المرحلة بل إن موجات الطاعون التي كانت تقضي على ربع سكان أوربا كانت تنكسر حدتها عند حدود العالم الإسلامي.


4- تجنب لحوم الحيوانات الخطيرة:

 

كما قد تنتقل الكائنات الدقيقة للإنسان عن طريق أكل لحم الحيوانات الخازنة أو المصابة بها أو تناول منتجاتها لذلك حرم الإسلام أكل لحومها أو حتى التعامل معها وسماها خبائث في قوله تعالى:(

وَيُحِلّ لَهُمُ الطّيّبَاتِ وَيُحَرّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ

).(الأعراف157).

فحرم أكل لحوم الحيوانات الميتة والدم وأكل لحم الخنزير، والسباع والطيور الجارحة، وأكل الحيوانات والطيور التي تتغذى على القذورات، واقتناء الكلاب والتعامل معها إلا لضرورة، وقد أثبت العلم أن هذه الحيوانات ولحومها تشكل بؤراً لتجمعات هائلة وخطيرة من الكائنات الدقيقة الفاتكة بالإنسان، فماذا قال العلم الحديث فيها ؟


إن لحوم الميتة والدماء المسفوحة هي أولى الخبائث التي حرمها الله سبحانه وتعالى في قوله تعالى: (

حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ

) (المائدة3) ولقد تحقق ضررها علمياً وظهر خطرها على حياة الإنسان، وذلك لأن احتباس دم الميتة في عروقها المتشعبة ضمن أنسجتها ييسر للجراثيم التي تعيش متطفلة على الحيوان، في الفتحات الطبيعية والأمعاء والجلد، أن تنتشر بسرعة وسط اللحم من خلال السائل الزلالي في الأوعية والعروق، وتتكاثر بسرعة وينتج عنها مركبات كريهة الرائحة سامة التأثير، كما قد يموت الحيوان بسبب مرض معين فتنتقل جرثومة المرض إلى الإنسان فتؤذيه وقد تهلكه، كما في مرض السل والجمرة الخبيثة وجراثيم السلمونيلا وداء الكلب.

 

وقد حرم الله سبحانه أيضاً الميتة بسبب الاختناق أو بسبب الرض سواء كان ذلك الرض بالوقذ أو التردي من مكان عال أو بواسطة النطح من حيوان آخر وكذلك ما أكل السبع.


لأن تلك الأنواع إضافة إلى ما ينتج عن احتباس دمائها في أنسجتها من الأخطار السابقة فإن الاختناق يزيد من سرعة تعفن الجثة، والرض يسبب انتشار للدم تحت الجلد وداخل اللحم والأنسجة في الأماكن المرضوضة، وقد تكون به جروح تسهل عبور جراثيم الهواء إلى داخل الأنسجة فتعجل بتحللها وفسادها، وما تحمله السباع من جراثيم وكائنات دقيقة فتاكة بين أنيابها تؤدي نفس النتيجة بأنسجة الحيوان ولحمه مما تجعله يشكل خطراً داهما على حياة الإنسان حينما يأكل لحمه.


أخطار أكل الدم: يعتبر الدم من أخطر الأوساط لنمو شتى الجراثيم وانتشارها وحينما يسفح الدم بالذبح أو الفصد فإنه ينعزل عن الأوعية الدموية التي تحفظ حيويته وتقيه من التلوث حيث تفقد كريات الدم البيضاء قدرتها على التهام الجراثيم وتموت خلايا جهاز المناعة، وتنهدم آلياته فتتكاثر الجراثيم بسرعة مذهلة، وتفرز سموماً (Toxins) فتاكة قد تكون أشد مقاومة لحرارة الطبخ من الجراثيم ذاتها.


أخطار الخنازير:

أما الخنزير فإننا نوجز القول فيه حيث يقول ربنا سبحانه عنه: (فإنه رجس) والرجس الشيء القذر، والأقذار والنجاسات هي السبب الأكبر في إصابة الإنسان بالأمراض المختلفة لما فيها من جراثيم وطفيليات ممرضة، فالخنزير ينقل إلى الإنسان كثيراً من الكائنات الدقيقة الخطرة حيث يصاب الخنزير بعدد كبير من الأمراض الوبائية لا تقل عن (450) مرضاً ويقوم بدور الوسيط لنقل أكثر من (75) مرضاً وبائياً للإنسان غير الأمراض العادية الأخرى التي يسببها أكل لحمه، مثل تليف الكبد وعسر الهضم والحساسية الغذائية وتصلب الشرايين وتساقط شعر الرأس وضعف الذاكرة والعقم، وتنشيطه لمرض الربو والروماتيزم وكثرة الأكياس الدهنية وعلاوة على آثارة السيئة على العفة والغيرة في التكوين النفسي.


وينقل الخنزير بمفرده (27) مرضاً إلى الإنسان وتشاركه بعض الحيوانات في بقية الأمراض على أنه يقوم بدور المخزن والمصدر الأساسي لهذه الأمراض في نقلها إلى الإنسان مباشرة بنقلها إلى الحيوانات القابلة للعدوى، ثم منها إلى الإنسان.


وينتقل أكثر من (16) مرضاً من الخنزير إلى الإنسان عن طريق تناول لحمه ومنجاته...


وأهم هذه الأمراض هي الحويصلات الخنزيرية والحمى المتموجة والدودة الكبدية وداء وايل، وداء المكسيات اللحمية، والتهاب السحايا والمشيمة، وداء اليرقانات الشريطية الجوالة، والدودة الوحيدة المسلحة، وداء المصورات الذيفانية المقوسة وداء الشعريات الحلزونية، والديدان السوطية، وداء السل، وداء المبيضات الفطرية، والالتهابات المعوية بجراثيم السالمونيلات والشايجالا وغير ذلك.


كما تنتقل عن طريق المخالطة والتربية والتعامل مع منتجات الخنزير ومخلفاته عدة أمراض لا تقل عن (32) مرضاً، وأكثر الناس إصابة بها هم عمال الزرائب والمجازر والأطباء البيطريين.


وأهم هذه الأمراض علاوة على بعض الأمراض السابقة، الجمرة الخبيثة، الكلب الكاذب، الزحار الزقي، الحمى القلاعية، الجمرة الخنزيرية، التسمم الدموي، الأنفلونزا الخنزيرية، الحمى اليابانية الخنزيرية، الديدان الرئوية الخنزيرية، الجرب الغائر، السعار، داء النوم، الديدان القنفدية، وغير ذلك.


كما تنتقل عدة أمراض لا تقل عن (28) مرضاً عن طريق تلوث الطعام والشراب بمخلفات الخنزير(3).


أخطار الكلاب:

 

لقد شدد رسول الله صلى الله عليه وسلم النهي عن مخالطة الكلاب، وهي سباع مدجنة فيها من الطفيليات والجراثيم الدقيقة الشيء الكثير، والتي قد تسبب للإنسان أخطاراً محققة منها على سبيل المثال:


1- احتواء أمعاء الكلاب على أعداد كبيرة من الديدان الشريطية والتي تنتقل إلى الإنسان عن طريق ابتلاع بيضها الموجود في الطعام أو الماء الملوث ببراز الكلاب.


2- داء الكَلَب المعروف وبعض أنواع داء الليشمانيات.


3- مرض الكيسة المائية الكلبية والتي تكون الكلاب فيها هي السبب الغالب في إصابة الإنسان وحيواناته الأليفة والتي تتغذى على الجيف، ذلك لأن الكلب ينظف استه بلسانه فينتقل بيوض ديدان (الشريطية المكورة المشوكة) والتي تعيش في أمعائه إلى الإنسان عن طريق الطعام أو الماء الملوث بها وتسبب له (داء الكيسات المائية الخطير).


4- كثير من الأمراض الطفيلية وأخطرها مرض (عداري) والتي تسببه الدودة الشريطية (أكنوكاوكاس جرانيولوساس) والتي توجد في كل مناطق العالم التي تعيش فيها الكلاب على مقربة من الحيوانات الداجنة آكلة العشب.


من هذا وغيره ندرك السر في نهي الرسول صلى الله عليه وسلم عن اقتناء الكلاب إلا لضرورة.


روى الإمام مسلم وأبو داود والبيهقي عن أبي طلحة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (

الملائكة لا تدخل بيتاً فيه كلب

). وقال أيضاً عليه الصلاة والسلام: (

من اتخذ كلباً إلا كلب ماشية أو صيد أو زرع انتقص من أجره كل يوم قيراط

) رواه الشيخان واللفظ لمسلم.

كما ندرك السر في قوله صلى الله عليه وسلم: (

طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبع مرات أولاهن بالتراب

). رواه مسلم.

أخطار السباع والطيور الجارحة: حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم أكل بعض الحيوانات لخطر يحيق بالإنسان أو ضرر يصيبه فحرم كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير.


عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (

نهى رسول صلى الله عليه وسلم عن كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير

) رواه مسلم.

وروى مسلم أيضاً عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (

كل ذي ناب

من السباع فأكله حرام).

كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتل الحيوانات الشديدة الضرر على صحة الإنسان كالفأرة من القوارض والغراب والحدأة من الطيور الجارحة، والكلب العقور من السباع المدجنة، والحية من الزواحف.


ينتشر طفيل (الشعرنية ناتيفا) بين الدببة والثعالب القطبية ويصاب الإنسان بها فور تناول لحوم هذه الحيوانات أو الحيوانات الحاضنة لهذا الطفيل بصورة ثانوية كالقط، كما ينتشر طفيل (تريخينلا نلسوني) في الضباع وبنات آوي والنمور والأسود وبعض الحيوانات المفترسة الأخرى، وتقع معظم الإصابات البشرية في أفريقيا بتناول لحم الخنزير الداجن والوحشي، وهما حاضنان ثانويان لهذا الطفيل لأنهما يتغذيان على الجيف، كما تنتشر الطفيليات التي تعرف بالشعرينات شبه الحلزونية، (تريخنيليا سود وسيبراليس) في الطيور الجوارح (ذات المخلب) ويصاب الإنسان بالعدوى إذا تناول لحم الجوارح من الطيور كالنسر والعقبان والصقور وغيرها.


أكل لحوم الجلاّلة وشرب ألبانها:


كما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن أكل لحم الجلالة وشرب ألبانها وأكل الحمر الأهلية.


روى البيهقي والبراز عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (

نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجلالة وشرب ألبانها وأكلها وركوبها

).

الجلالة هي كل دابة تأكل الأقذار وخصوصاً العذرة، التي تعتبر بيئة خصبة لنمو وتكاثر الديدان والطفيليات والجراثيم الضارة، إذ تحتوي على عدد هائل منها، يزيد على المائة بليون جرثومة في الجرام الواحد، لذلك فالعذرة تشكل مخزناً ومصدراً رئيسياً للخطر.


كما أثبتت الأبحاث العلمية أن الأقذار تحتوي على نسبة عالية ومتنوعة من السموم الخطرة على صحة الإنسان، فإذا تناولها حيوان أو طير انتشرت هذه الجراثيم في دمه ولحمه، وترسبت في أنسجته، وعندما يتناول الإنسان لحم هذا الحيوان أو لبنه، يصاب بالعلل والأمراض.


وجه الإعجاز:


أما أوجه الإعجاز في هذه النصوص التي وردت في هذا المقال- ومثلها كثير- فالمتدبر فيها يلاحظ الإشارة الجلية أحياناً والإشارة الخفية أحياناً أخرى إلى عالم الكائنات الدقيقة وإلى المواد الضارة كمسببات للأمراض وحدوث العلل وانتشار الأوبئة بينما كان الناس في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم وقبل زمنه بل وبعده- حتى اكتشاف (باستير) الميكروبات- كانوا يعتقدون أن الأمراض تسببها الأرواح الشريرة والشياطين والنجوم ولا علاقة لها بنظافة أو نظام أو سلوك وكانوا يطلبون لها العلاج بالشعوذة والخرافات.


لقد شرع الإسلام للمسلم ووجهّه إلى كل طرق الوقاية من الأمراض والأخطار باجتناب أسبابها وتقوية كل وسائل الدفاع لمقاومتها والقضاء عليها، إن عالم الكائنات الدقيقة كان غيبا في زمن النبوة وبعده حتى القرن الماضي لكن التوجيهات الإسلامية في الطهارة والوضوء والغسل والنظافة في الملبس والمسكن وأماكن التجمعات، والتوجيهات في المأكل والمشرب والسلوك الخلقي العام والخاص والأوامر الكسبية لتقوية الجوانب الإيمانية في نفس الإنسان لتشير كلها بطريق أو بآخر إلى هذه العوالم الخفية التي تعيش داخل أجسادنا وفوقه وحوله وتهاجمنا وتهددنا وقد تفيدنا أو تهلكنا وهي موجودة بأعداد مذهلة وتتكاثر بأعداد فائقة وتصيب ملايين البشر بسمومها وأسلحتها بقدرة الله ومشيئته.


وفي الختام نقول للعلماء: انظروا بتجرد إلى هذه الحقيقة العلمية في قوله صلى الله عليه وسلم: (

إذا سمعت بالطاعون بأرض فلا تدخلوا عليه وإذا وقع بأرض فلا تخرجوا منها فراراً منه

) رواه الشيخان.

ولضمان تنفيذ هذه الوصية النبوية العظيمة فقد ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم سوراً منيعاً حول مكان الوباء، فوعد الصابر والمحتسب بالبقاء في مكان المرض بأجر الشهداء، وحذر الفار منه بالويل والثبور، قال صلى الله عليه وسلم: (

الفار من الطاعون كالفار من الزحف ومن صبر فيه كان له أجر شهيد

) رواه أحمد.

إذا قيل هذا الكلام لرجل صحيح منذ مائتي عام فقط وهو يرى صرعى المرض الوبائي يتساقطون حوله وهو بكامل قواه وقيل له: امكث في مكانك لا تخرج، لاعتبر هذا الكلام جنوناً أو عدواناً على حقه في الحياة، ويفر هارباً بنفسه إلى مكان آخر خال من الوباء، وقد كان المسلمون هم الوحيدون بين البشر الذين لا يفرون من مكان الوباء منفذين أمر نبيهم ولا يدركون لذلك حكمة. حتى تقدمت العلوم واكتشفت العوالم الخفية من الكائنات الدقيقة وعرفت طرق تكاثرها وانتشارها وتسببها في الأمراض والأوبئة وتنبي أن الأصحاء الذين لا تبدو عليه أعراض المرض في مكان الوباء هم حاملون لميكروب المرض وأنهم يشكلون مصدر الخطر الحقيقي في نقل الوباء إلى أماكن أخرى إذا انتقلوا إليها، وبسبب اكتشاف هذه الحقيقة نشأ نظام الحجر الصحي المعروف عالمياً الآن والذي يمنع فيه جميع سكان المدينة التي ظهر فيها الوباء من الخروج منها كما يمنع دخولها لأي قادم إليها فمن أطلع محمداً صلى الله عليه وسلم على هذه الحقيقة؟


أيمكن أن يتكلم بشر عن هذه الحقائق الدقيقة منذ أربعة عشر قرناً من الزمان؟ اللهم إلا أن يكون كلامه وحياً يأتيه من عليم خبير بخلقه! حتى يرينا سبحانه آياته فنعرفها أنها من ربنا فنحمده على ما من علينا من تشريع وتكليف.


قال تعالى: (

وَقُلِ الْحَمْدُ للّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبّكَ بِغَافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ

) النمل 93.

وهكذا أثبت العلم سبق القرآن الكريم والسنة النبوية في الإشارة إلى الكائنات الدقيقة، ومسببات الأمراض. وقد قدم الإسلام للبشرية أيسر وأنجح السبل في القضاء عليها وحماية الإنسان ووقايته من أخطارها، ورأى العلماء بأعينهم صدق وحي الله لرسول الله صلى الله عليه وسلم تحقيقاً لقوله تعالى: (

وَيَرَى الّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ الّذِيَ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رّبّكَ هُوَ الْحَقّ وَيَهْدِيَ إِلَىَ صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ

) سبأ6.

المراجع:

1- ابن قيم الجوزية، الطب النبوي، المكتبة الثقافية- بيروت.


2- النسيمي (محمد ناظم) الطب النبوي والعلم الحديث، (1404هـ)،ط1، الشركة المتحدة للتوزيع.


3- أحمد جواد، الخنزير بين ميزان الشرع ومنظار العلم، 1407هـ ط1، دار السلام للطباعة والنشر- القاهرة.


4- عبد الحميد القضاة، تفوق الطب الوقائي في الإسلام، بحث مقدم للمؤتمر العالمي الأول للإعجاز العلمي في القرآن والسنة- إسلام أباد- باكستان 1407هـ.


5- د. جورج. س. نيلسون، عبد الحميد الزنداني، دروس من تعاليم رسول الله صلى الله عليه وسلم في الوقاية من الأمراض الطفيلية، بحث مقدم للمؤتمر العالمي الأول للإعجاز العلمي في القرآن والسنة- إسلام أباد- باكستان 1407هـ.


6-Volk benjamin,(1991) medical micrbiology. 4rth ed kippincott philadelphia.


7-Patrick r. murray & others (1994) medical microbilogyie international ed.

إرسال تعليق

 
Top