رداً على المبشرين ومن لف لفهم الذين يطعنون في صدق القصص القرآنى و يدّعون لذلك أنه مخالف للتاريخ القديم من جهة، و لما في التوراة و الانجيل من جهة ثانية، نقول وبالله التوفيق :
إلى
أى مدى يصح لنا الاعتماد على التاريخ لنحكمه في قصص القرآن؟ كان المعقول
أن نتخذ من التاريخ الوثيق مقياساً نحتكم اليه في بيان القيمة الواقعية
الحقة لقصص القرآن، ولكن صحة المنهج تقضينا أن نوثق التاريخ أولا، و أن
ننتهى إلى أنه حق مطلق لاتحريف فيه و لا تبديل، و هنا نسير مطمئنين في ضوء
الحق اليقين لنقيس عليه القصص القرآنى و نفصل في قيمته التاريخية، ولكن
أنّى لنا هذه الثقة الحاسمة في أخبار التاريخ القديم الذي لم يدوّن في
حينه، و لم تستكشف وثائقه و مصادره، و ان ما يروى منه نتف مضطربة، و أساطير
تافهة، و روايات مخلطة، لاتنتهى أبداً إلى يقين يمكن الاطمئنان اليه أو
الاعتماد عليه في تحقيق صور الماضى و اتخاذها مقياساً حاسماً نحتكم اليه في
بيان صدق القرآن أو ضد ذلك.
ويأكد الرازي
أن تواريخ موسى و فرعون قد طال بها العهد و اضطربت الاحوال و الادوار، فلم
يبق على كلام أهل التاريخ اعتماد في هذا الباب، فكان الاخذ بقول الله أولى )). تفسير الرازى، ج 7 ص 218.
و يقول الأستاذ الشيخ محمد عبده عن حال التاريخ قبل الاسلام : (( كانت مشتبهة الاعلام، حالكة الظلام، فلا رواية يوثق بها، و لاتواتر يعتد به بالاولى )) يقول هذا الكلام في نسبة قصص القرآن إلى التاريخ، و قبل ذلك قال : (( يظن كثير من الناس الان - كما ظن كثير من قبلهم - أن القصص التي جاءت في القرآن يجب أن تتفق مع ما جاء في كتب بني اسرائيل المعروفة عند النصارى بالعهد العتيق أو كتب التاريخ القديمة )) ثم يقول في هذا الشأن نفسه : (( و
إذا ورد في كتب أهل الملل أو المؤرخين ما يخالف بعض هذه القصص، فعلينا أن
نجزم بأن ما أوحاه الله إلى نبيه ونقل الينا بالتواتر الصحيح هو الحق و
خبره الصادق، و ما خالفه هو الباطل، و ناقله مخطىء أو كاذب فلا نعده شبهة
على القرآن و لا نكلف أنفسنا الجواب عنه )) و يقول : (( و
قد قلت لكم غير مرة انه يجب الاحتراس في قصص بني اسرائيل و غيرهم من
الانبياء، و عدم الثقة بما زاد على القرآن من أقوال المؤرخين و المفسرين،
فالمشتغلون بتحرير التاريخ و العلم اليوم يقولون معنا انه لايوثق بشىء من
تاريخ تلك الازمنة التي يسمونها أزمنة الظلمات الا بعد التحرى و البحث و
استخراج الاثار، فنحن نعذر المفسرين الذين حشوا كتب التفسير بالقصص التي
لايوثق بها لحسن قصدهم، ولكننا لانعول على ذلك بل ننهى عنه و نقف عند نصوص
القرآن لانتعداها و انما نوضحها بما يوافقها إذا صحت روايته. تفسير المنار: ج 1 ص 347. ))
و
نحن مع ذلك لن نغلق باب الجدل في وجه المعارضين، فليأتوا بدليل يثبت
دعاواهم ان كان عندهم دليل، أما أن يعكسوا الوضع و يفرضوا على القرآن تهماً
من عند أنفسهم، ثم يلجئوا إلى آى الذكر الحكيم فيتعسفوا في فهمها، و إلى
أقوال العلماء فيفهموها خطأ أو يحرفوها و يبتروها و يزوروا فيها - كما سترى
- فإن ذلك لايستحق الوقوف عنده، و لا الاستماع اليه.
أما
عن التوراة و الانجيل و مكانهما من التوثيق، و ما عسى أن يكون لهما من
حجية في هذا السبيل، فإن الأمر فيهما سهل نترك الكلام فيه لاصحابهما و قبل
ذلك أرجو أن يلاحظ القراء أن ما أورده هنا ليس الا نقطة صغيرة جداً مما نشر
في هذا الموضوع، و لم يقصد به مهاجمة أهل الكتاب، و ان كان يحتمه البحث
العلمى المنصف المستنير، و نبدأ بالتوراة :
يعترف القرآن الكريم بالتوراة كما أنزلت على موسى، أى في صورتها الاصيلة، غير
المبدلة، و سأترك شهادة القرآن بذلك الان، و أورد ما قاله العلماء
الغربيون أنفسهم، فالتوراة عبارة عن الاسفار الخمسة الاولى من العهد القديم : تكوين - خروج - لاويين
- عدد - تثنية. فالسفر الاول يتناول قصة خلق العالم، و الثانى خروج بني
اسرائيل من مصر و فيه الوصايا العشر من صورتين مختلفتين يرجح أنها ليست
لموسى، و سفر اللاويين خاص بالطقوس الدينية و هارون و أبنائه، و سفر
التثنية أو تثنية الشريعة أو اعادتها، و لم يصلنا هذا السفر في صورته
الاولى، بل تناولته يد التغيير و التبديل، و النص الموجود يدل على أنه خليط
من نسخ متنوعة مختلفة، و يرجح أن تأليفه كان بعد عصر النبوة، و لا يوجد في
التوراة التي بين أيدينا خبر يدل على أن موسى هو الذي جاء بها، أو أنها هي
التي أنزلت عليه، بل على النقيض من ذلك يوجد فيها ما يؤيد عكس ذلك من ذلك
ما جاء في الاية السادسة من الاصحاح الرابع و الثلاثين من سفر التثنية عن
وفاة موسى : (( و لايعرف شخص قبره حتى يومنا هذا )) فبعيد كل البعد أن يكون هذا الخبر صادراً عن موسى نفسه، و في الاية العاشرة من نفس الاصحاح : (( لم يقم بعد نبى في بني اسرائيل مثل موسى )) و بعيد جداً أن يكتب موسى عن نفسه في الاية الثالثة من الاصحاح الثانى عشر من سفر العدد فيقول : (( و أما الرجل موسى فكان حليماً جداً أكثر من جميع الناس الذين على وجه الارض )) فمثل هذه الايات تدل على أن المؤلف شخص آخر غير موسى.
و قد أثبت النقد العلمى الذي نهض به ربانيو اليهود أن التوراة التي بين أيدينا ليست من تأليف شخص واحد، و نتيجة هذا و غيره أن التوراة ليست من الثقة بحيث يحتج بها على قصص القرآن و يحتكم في قيمه اليها.
فاذا رجعنا إلى القرآن الكريم بعد ما سبق نجده يقول في سورة الانعام : (( و
ما قدروا الله حق قدره إذا قالوا ما أنزل الله على بشر من شىء قل من أنزل
الكتاب الذي جاء به موسى نوراً و هدى للناس تجعلونه قراطيس تبدونها و تخفون كثيراً )) و في سورة آل عمران : (( ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم ثم يتولى فريق منهم و هم معرضون )) يقول الأستاذ الشيخ محمد عبده في تفسير هذه الاية : (( ان
ما يحفظونه من الكتاب هو جزء من الكتاب الذي أوحاه الله اليهم، و قد فقدوا
سائره، و هم مع ذلك لايقيمونه بحسن الفهم له و التزام العمل به، و لا
غرابة في ذلك، فالكتب الخمسة المنسوبة إلى موسى (عليه السلام) التي يسمونها
بالتوراة لا دليل على أنه هو الذي كتبها، و لا هي محفوظة عنه، بل قام
الدليل عند الباحثين من الاوربيين على أنها كتبت بعده بمئات السنين )) و يقول القرآن الكريم : (( و
ان منهم لفريقاً يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب و ما هو من
الكتاب و يقولون هو من عندالله و ما هو من عندالله و يقولون على الله الكذب
و هم يعلمون )).
إرسال تعليق