د. شاهر جمال آغا
لقد خص الله جل جلاله الأرض بغلافها الأرضي الجغرافي (Geosphere) الذي تميزت به عن أترابها من الكواكب الشمسية وسواها المعروفة حتى الآن، والغلاف مكون من أجزاء أربعة: الجوي (Atmosphere) والصخري (Lithosphere) والمائي (Hydrosphere) والحيوي العضوي (Biosphere).
تتفاعل الأجزاء هذه وبفعالية كبيرة
وباستمرار مع بعضها البعض، وذلك عبر النقل المتبادل للطاقة والمادة(1)، مما
يجعل من الغلاف الأرضي الجغرافي كتلة طبيعية واحدة متكاملة. وتجدر الإشارة
إلى أن للماء الدور الحاسم في إتمام عمليات النقل والتبادل آنفة الذكر،
وذلك لما للماء من سمات وخصائص فيزيائية وكيميائية ينفرد بها:
أ ـ يوجد الماء في الغلاف الأرضي
الجغرافي وبآن واحد في ثلاثة أطوار (أشكال) فيزيائية/سائلة وهي الأساس،
وغازية/بخار الماء، وصلبة/جليد.
ب ـ للماء مقدرة كبيرة في حل المركبات الكيميائية وتحويلها إلى شوارد حرة وعلى حل أو إذابة المركبات الصخرية.
ج ـ حركيته ولزوجيته المعيارية التي تمكنه من تحريك ونقل ما قام بحله وإذابته من مواد وغازات إلى مسافات بعيدة.
د ـ يصل الماء في طوره الغازي إلى أعلى طبقات الجو وإلى أعمق مناطق القشرة الأرضية من خلال مسام الصخور وشقوقها وفجواتها.
هـ ـ كم الماء كبير جداً على سطح الأرض
(قرابة 1.38 مليار كم3)(2) وهو ما لا نجده في الكواكب الأخرى، لذلك عُرِف
بالكوكب الأزرق. إن الكم المشار إليه معياري المقدار فأي تغيير محسوس فيه
سيغير قوانين الأرض الطبيعية ويبدل معايير توازنها المادي والطاقي ويحولها
تدريجياً إلى كواكب أخرى غير الأرض الحالية.
و ـ هذا الكم الكبير من الماء السائل
الأرضي وفي ظل الواقع الفيزيائي والكيميائي الحالي للأرض كتلة وسطحاً يقدم
مقداراً محدداً بدقة من المياه العذبة التهطالية المنشأ الكافية لتلبية كل
حاجات الكائنات الحية وحاجة الفعاليات المناخية والحيوية والتبدلات الصخرية
ضمن الغلاف الأرضي الجغرافي، ومن ناقلة القول إن تغيراً ملموساً لمقدار
المياه العذبة سيؤثر سلباً على كل عناصر الغلاف الأرضي المذكور.
انطلاقاً من الحقيقة السابقة، سطع نجم
الإعجاز الإلهي والنبوي الشريف وذلك بإخبارنا وقبل (1400سنة) ونيف أن ما
يصل إلى الأرض من هطول محسوب بدقة ولا يتغير وسطياً من عام إلى آخر، وهو ما
يعبر عنه في العلوم الجغرافية والعلوم الطبيعية بالتوازن الرطوبي
والتهطالي، ولنقرأ أولاً ما جاء في القرآن الكريم:
(وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ) (الزخرف: 11).
(وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأَرْضِ وَإنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ) (المؤمنون: 18)
ثم لنقرأ قول رسول الله ـ صلى الله عليه
وسلم ـ: (عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ عن رسول الله ـ صلى الله عليه
وسلم ـ، أن رسول الله قال: (ما من عام أمطر من عام ولكن يصرفه حيث يشاء، ثم
قرأ: ولقد صرفناه بينهم)
ـ (رواه الحاكم والبيهقي موقوف دون مرفوع).
عند قراءة الحديث الشريف نرى حقيقتين:
أ ـ الكم المحدود من الهطول السنوي (ما من عام أمطر من عام).
ب ـ قوله ـ عليه السلام ـ: يصرفه حيث
يشاء تعنى توزيع الهطول على سطح الأرض توزيعاً حدده رب العزة بشكل يحقق
التوازن النطاقي والإقليمي على سطح الأرض، والتوازن الرطوبي المنطلق لتحقيق
مختلف أشكال التوازن المادي والطاقي الأرضي، وعند الله كل شيء بمقدار
(وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ) (الرعد: 8).
سنرى الآن مصداق المعيارية والمقدارية
المشار إليها في الآيتين الكريمتين السابقتين وفي الحديث الشريف كذلك، وذلك
لدى وقوفنا أمام ظاهرة الدورة الرطوبية على سطح الأرض، وتتكون الدورة
الرطوبية من مجموعتين من العناصر الرطوبية:
أ ـ المجموعة الأولى مجموعة عناصر الكسب الرطوبي(3)
ب ـ المجموعة الثانية مجموعة عناصر الخسارة الرطوبية.
نرى في المحيطات أن عناصر الكسب الرطوبي
تتجلى في كمية الهطول السنوية فوق المحيطات (Xo) وبما يرد إليها من مياه
نهرية عذبة من اليابسة (Y)، وأما الخسارة فإنها عبارة عن كمية المياه
المتبخرة سنوياً من المحيطات أي (Eo)، وهكذا نجد أن الموازنة المائية
الرطوبية المحيطية تأخذ الشكل التالي:
(E o = Xo + Y)
وإذا ما ترجمنا ما سبق إلى أرقام مقدرة بآلاف الكم المكعبة من الماء نجد:
( E o = 458 + 49 = 505)
وهذا يعني أن كمية ما يتبخر سنوياً من
المحيطات يعادل (505) ألف كم3، وهي تعادل مقدار الهطول فوق المحيطات (458)
ألف كم 3 مضافاً إليها مياه الأنهار الصابة فيها (47) ألف كم 3.
أما بالنسبة للقارات فإن عنصر الكسب
يتمثل بكمية الهطول السنوية الذي يتم فوقها (Xc) والبالغة (119) ألف كم3،
إلا أن الخسارة الرطوبية تتجلى في كمية مياه الأنهار الصابة في المحيط
العالمي، وتعادل (47) ألف كم3 كما رأينا، وهكذا نجد أن مجموع ما يتبخر
سنوياً فوق القارات (Ec) يعادل (72) ألف كم3:
Ec= Xc (119) – Y (47) = 72
بعد أن تعرفنا على عناصر التوازن المائي الرطوبي فوق كل من المحيطات
(Eo + Ec = Xo + Xc) واليابسة يمكننا أن
نوحدها في معادلة واحدة: وتعادل رقمياً: (505 + 72 = 458+119) وإذا ما
رمزنا للتبخر على الأرض عامة ب (E) وللتهاطل ب (X) نجد أن المعادلة تبدو
كالتالي:
(E = X)
ومما سبق نجد تساوي كميتي الرطوبة في طرفي المعادلة التوازنية:
E (577) = X (577) (4)
أي إن مجموع ما يتبخر على سطح الأرض
يعادل كمية الهطول السنوية فوقها، وصدق الرسول الذي لا ينطق عن الهوى إن هو
إلا وحي يوحى عندما قال: (ما من عام أمطر من عام..) وتبارك الذي أنزل من
السماء الماء بقدر ليسكن الأرض.
ويمكننا أن نجمل ما سلف بالجدول التالي:
الجريان النهري (Y) | التبخر(E) | الهطول(X) | المساحة (مليون كم2) | المنطقة | |||
ملم mm | ألف كم3 | ملم mm | ألف كم3 | ملم mm | ألف كم3 | ||
130 | 47 | 1400 | 505 | 1270 | 458 | 361 | المحيط العالمي |
315 | 47 | 485 | 72 | 800 | 119 | 149 | اليابسة |
ــــ | ــــ | 1130 | 577 | 1130 | 577 | 510 | الأرض عامة |
والسؤال الآن: ما سر وجود هذا الكم المحدد (وسطياً) من المياه المتبخرة والمتكاثفة سنوياً؟
إن الإجابة تكمن في مظهر آخر من مظاهر التوازن الطبيعي على سطح الأرض، إنه التوازن الإشعاعي الحراري الأرضي الجوي.
تقدر الطاقة الحرارية الشمسية الواصلة
إلى سقف الغلاف الجوي الأرضي بحوالي (1.36.10)24 حريرة/سعرة/سم2/سنة وهو ما
يعادل (2/1 ÷ 2 مليار) (5) من مجموع الطاقة الحرارية الشمسية. وإذا ما
سلطت هذه الطاقة ـ أي الطاقة الكاملة للشمس ـ على محيطات الأرض وبحارها
ستتبخر كاملاً خلال (1.5) ثانية وستختفي تماماً.
عندما تصل أشعة الشمس (R) إلى الأرض وجوها تتعرض لتبدلات عديدة تمثل الموازنة الإشعاعية الجوية المكونة من العناصر التالية:
(R= D+E+C) (6)
إذ إن (R) ـ تمثل مجموع الأشعة الواصلة إلى جو الأرض وسطحها.
(D) ـ تمثل مجموع الأشعة الإجمالية التي تمتص من قبل اليابسة وماء المحيطات.
(E) ـ تمثل مجموعة الأشعة الممتصة من قبل الجو.
(C) ـ تمثل مجموع الأشعة المنعكسة من على سقف الجو وسطح الأرض.
ولنفصل قليلاً:
عندما تبلغ أشعة الشمس (R) إلى سقف الجو
ينعكس منها ما نسبته (31%) مباشرة إلى الفضاء الخارجي (C) وما تبقى من
الأشعة (69%) يدخل الغلاف الجوي (E) فيمتص منه قرابة (17%) والباقي (52%)
أي (D) فإنه يمثل مجموع الأشعة المباشرة والمنتثرة الواصلة إلى سطح الأرض،
والتي ينعكس منها إلى الجو قرابة (4%)، وهكذا يتبقى من الأشعة ما يعادل
(48%)، ونجد أن (18%) يصرف إشعاعاً أرضياً فعالاً ذاتياً إلى الجو، وما
تبقى أي (30%) فإنه يعتبر المخزون الأرضي الإشعاعي الفعلي الذي يتحول جزء
منه إلى طاقة حرارية تعمل على تبخير المياه على اليابسة والمحيطات وبنسبة
(22%) من مجموع الأشعة الممتصة فعلياً من قبل سطح الأرض، أما ما تبقى وهو
(8%)، فإنها تصرف على عمليات التبادل الحراري الطاقي بين الأرض والجو.
وهكذا فإن الموازنة الإشعاعية الطاقية لسطح الأرض فإنها تبدو كالتالي:
(30% - (22% + 8%) = 0) تتوزع الطاقة
المصروفة على التبخر الأرضي نطاقياً (حسب درجات العرض) بالشكل التالي مقدرة
بالحرة (كيلو كالوري)/ سم2/سنة:
درجات العرض | 0-10 | 20-30 | 40-50 | 60-70 | 80-90 |
الطاقة ك.ك | 74 | 78 | 45 | 25 | 7 |
وسطي سطح الأرض (59) |
إرسال تعليق