وهذا خطاب عام لجميع الخلق دون استثناء، بدليل قوله تعالى بعدها:
{ ثم ننجي الذين اتقوا.. "72"}
(سورة مريم)
إذن: فالورود هنا يشمل الأتقياء وغيرهم.
فما معنىالورودهنا؟ الورود أنتذهب إلى مصدر الماء للسقيا أي: أخذ الماء دون أن تشرب منه، كما في قوله تعالى:
{ ولما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناسيسقون .. "23"}
(سورة القصص)
أي: وصل إلى الماء.
إذن معنى:
{وإن منكم إلا واردها.. "71"}
(سورة مريم)
أي: أنكم جميعاً متقون ومجرمون،ستردون النار وترونها؛ لأن الصراط الذي يمر عليه الجميع مضروب على متن جهنم.
وقد ورد في ذلك حديث أبي سعيد الخدري قال : قالرسول الله صلى الله عليه وسلم: "يوضعالصراط بين ظهراني جهنم، عليه حسك كحسك السعدان ثم يستجيز الناس، فناج مسلم، ومخدوشبه، ثم ناج ومحتبس به، ومنكوس ومكدوس فيها"
فإذا ما رأى المؤمن النار التي نجاه الله منها يحمد الله ويعلمنعمته ورحمته به. ومن العلماء من يرى أن ورد أي: أتى الماء وشرب منه ويستدلون بقولهتعالى:
{يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار.. "98"}
(سورة هود)
أي: أدخلهم. لكن هذا يخالف النسقالعربي الذي نزل القرآن به، حيث يقول الشاعر:
ولما وردن الماء زرقاً جمامه وضعنا عصىالحاضر المتخيم
أي: حينما وصلوا إلى الماء ضربوا عندهخيامهم، فساعة أن وصولا إليه وضربوا عنده خيامهم لم يكونوا شربوا منه، أو أخذوا منمائه، فمعنى الورود أي: الوصول إليه دون الشرب من مائه.
وأصحاب هذا الرأي الذين يقولون
{ واردها.. "71"}
(سورة مريم)
أي: داخلها يستدلون كذلك بقوله تعالى:
{ ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثياً"72"}
(سورة مريم)
يقولون: لو أن الورود مجرد الوصول إلىموضع الماء دون الشرب منه أو الدخول فيه ما قال تعالى:
{ونذر الظالمين فيها"72"}
(سورة مريم)
ولقال: ثم ينجي الله الذين اتقوا ويدخل الظالمين .. لكن
{ ونذر الظالمين.. "72"}
(سورة مريم)
فيها الدليل على دخولهم جميعاً النار.
( وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتمامقضياً "71")
فعلى الرأي الأول: الورود بمعنى رؤيةالنار دون دخولها، تكون الحكمة منه أن الله تعالى يمتن على عباده المؤمنين فيريهمالنار وتسعيرها؛ ليعلموا فضل الله عليهم، وماذا قدم لهم الإيمان بالله من النجارةمن هذه النار، كما قال تعالى:
{ فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز "185"}
(سورة آل عمران)
ويمكن فهم الآية علىالمعنى الآخر: الورود بمعنى الدخول؛ لأن الخالق سبحانه وتعالى خلق الأشياء، وخلق لكل شيء طبيعةتحكمه، وهو سبحانه وحده القادر على تعطيل هذه الطبيعة وسلبها خصائصها.
كما رأينا في قصة إبراهيم عليه السلام، فيكون دخول المؤمنين الناركما حدث مع إبراهيم، وجعلها الله تعالى عليه برداً وسلاماً، وقد مكنهم الله منه،فألقوه في النار، وهي على طبيعتها بقانون الإحراق فيها، ولم ينزل مثلاً على النارمطراً يطفئها ليوفر لهم كل أسباب الإحراق، ومع ذلك ينجيه منها لتكون المعجزة ماثلةأمام أعينهم.
وكما سلب الله طبيعة الماء في قصة موسى عليه السلام فتجمد وتوقفتسيولته، حتى صار كل فرقٍ كالطود العظيم، فهو سبحانه القادر على تغيير طبائعالأشياء. إذن: لا مانع من دخول المؤمنين النار على طريقةإبراهيم عليه السلام
{ قلنا يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم"69"}
(سورة الأنبياء)
ثم ينجي الله المؤمنين، ويترك فيها الكافرين، فيكون ذلك أنكى لهموأغيظ.
ثم يقول تعالى:
{ كان على ربك حتماً مقضياً"71"}
(سورة مريم)
الحتم: هو الشيء الذي يقع لا محالة،والعبد لا يستطيع أن يحكم بالحتمية على أي شيء؛ لأنه لا يملك المحتوم ولا المحتومعليه.
فقد تقول لصديقك: أحتم عليك أن تزورنيغداً، وأنت لا تملك من أسباب تحقيق هذه الزيارة شيئاً، فمن يدريك أن تعيش لغد؟ ومنيدريك أن الظروف لن تتغير وتحول دون حضور هذا الصديق؟
إذن: أنت لا تحتم على شيء، إنما الذييحتم هو القادر على السيطرة على الأشياء بحيث لا يخرج شيء عن مراده.
فإن قلت: فمن الذي حتم على الله؟ حتمالله على نفسه تعالى، وليست هناك قوة أخرى حتمت عليه، كما في قوله تعالى:
كتب ربكم على نفسه الرحمة"54"}
(سورة الأنعام)
ثم يؤكد هذا الحتم بقوله:
{مقضياً"71"}
(سورة مريم)
أي: حكم لا رجعة فيه، وحكم الله لايعدله أحد، فهو حكم قاطع. فمثلاً: حينما قال كفار مكة لرسول الله صلى الله عليهوسلم: نعبد إلهك سنة وتعبد إلهنا سنة، يريدون أن يتعايش الإيمان والكفر.
لكن الحق ـ تبارك وتعالى ـ يريد قطع العلاقات معهم بصورة نهائيةقطعية، لا تعرف هذه الحلول الوسط، فقال سبحانه:
{ قل يا أيها الكافرون "1" لا أعبد ما تعبدون "2" ولا أنتم عابدون ما أعبد "3" ولا أنا عابد ما عبدتم "4" ولا أنتم عابدون ما أعبد "5" لكم دينكم ولي دين "6" }
(سورة الكافرون)
وقطع العلاقات هنا ليس كالذي نراه مثلاً بين دولتين، تقطع كلمنهما علاقتها سياسياً بالأخرى، وقد تحكم الأوضاع بعد ذلك بالتصالح بينهما والعودةإلى ما كانا عليه، إنما قطع العلاقات مع الكفار قطعاً حتمياً ودون رجعة، وكأنه يقوللهم: إياكم أن تظنوا أننا قد نعيد العلاقات معكم مرة أخرى؛ لذلك تكرر النفي في هذهالسورة، حتى ظن البعض أنه تكرار؛ ذلك لأنهم يستقبلون القرآن بدون تدبر.
فالمراد الآن: لا أعبد ما تعبدون، ولاأنتم عابدون ما أعبد، وكذلك في المستقبل: ولا أنا عابد ما عبدتم، ولا أنتم عابدونما أعبد. فلن يرغمنا أحد على تعديل هذا القرار أو العودة إلى المصالحة. لذلك أتىبعد سورة (الكافرون) سورة الحكم:
{ قل هو الله أحد.. "1"}
(سورة الإخلاص)
فلا ثاني له يعدل عليه، فكلامه تعالى وحكمه نهائي وحتماً مقضياًلا رجعة فيه ولا تعديل.
ثم يقول الحق سبحانه: (ثم ننجي الذين اتقوا ونذرالظالمين فيها جثياً"72")
جثياً: من جثا يجثو أي: قعد على ركبهدلالة على المهانة والتنكيل
اللهم تقبل منا صالح الأعمال والسلامعليكم ورحمة اللهوبركاته
إرسال تعليق