0

لماذا لا ننهض بعيدا عن الدين كما نهض غيرنا؟


تتفق نصوص الشرع، وعلماء الملة، والمحللون المخلصون من أبناء الأمة، والمنصفون من غيرهم، على أن سبيل نهوضها هو إعمال شرع الله - قرآنًا وسنة - ليكون منهج حياتها، تعمل به، وتتحاكم إليه، على مستوى الفرد، والأسرة والمجتمع - حاكمين ومحكومين - كما أنه لم ينهض العرب من قبل إلا عندما جاءهم الإسلام فعملوا به، وجعلوه منهجَ حياتهم، فأخرجهم من الظلمات إلى النور، ومن الحضيض إلى قيادة الدنيا.

وعلى الجانب الآخر يقِفُ بعض المحللين لمشاكل الأمة، من العَلمانيين، والليبراليين، وأضرابهم ممن نشأ في بلدان إسلامية متدنيةِ المستوى في أغلب مناحي الحياة، بل ويقف - أيضاً - بعض المنتسبين للتيارات الإسلامية - شيبة وشبانًا - مشدوهين أمام التقدم الأوروبي، والأمريكي، والياباني، وغيره، وما تعيشه هذه الأمم من رقيٍّ، وارتفاع في مستوى معيشة أفرادها.

فيقول أحدهم - ولو في خاطره -:
إن هذه الدول قد نهضت بغير دين، ولا شرع، ولم تعرف الإسلام، بل لم تنهض إلا بعدما همَّشتْ دور الدين والكنيسة، فلماذا تشترطون الدين، ولا ترون النهضة إلا به، وتعللون تدني حال الأمة بالبعد عن الدين؟!

ولا بد قبل الجواب عن هذا السؤال شديد الخطرِ، عظيمِ الأثر، من بيان أننا إذ نناقش هذه القضية من الناحية الواقعية، التي تتفق مع الدلائل الشرعية على أن لا استقامة لأمر الناس إلا بدين الله وشرعه، لا نفعل ذلك من باب البحث عن الأفضل، أو النظر في الاختيارات المتاحة - فإن هذا مما لا اختيار فيه؛ فالمسلم واجب عليه أن يسلك السبيل الذي أمره الله بسلوكه، وأن ينتهج المنهج الذي أوضح الله أنه لا يقبل من أحد سواه من المناهج، فعليه أن يسير على وفاقه، متيقِّنًا أنه أحسن المناهج؛ لأنه كذلك يقينًا، لكن قومًا لا يوقنون ظنوا أن حكمَ البشر وشرائعهم أحسنُ من حكم الله وشرعه؛ ﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ﴾ [المائدة: 50].

وكيف لا يكون شرع الله وحكمه هو الأحسنَ والأفضلَ، والذي أنزله هو رب العالمين الذي خلق هؤلاء البشر، وهو أعلم بما يصلحهم؛ ﴿ أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ﴾ [الملك: 14]؟!

فعلى الإنسان أن يعلم أن هذه القضية ليست اختيارية، بل هي قضية لا يثبت إيمان إلا بها، ولا يقام على التوحيد برهان إلا بتحقيقها.

لكننا إذ نبحث هذه القضية ونحاول الإجابة عن هذا السؤال من الناحية الواقعية التي يعترف بها المسلم وغيره، إنما نرد على شبهة ربما دخل بها الذين لا يوقنون، على قوم لا يعلمون، فربما فُتنوا بذلك، وظنوه حقيقة، وليس كذلك.

ولا بد قبل الجواب - أيضًا - أن نذكر أن بعض العلماء قد أرجعوا ذلك إلى خصوصيةٍ في العرب؛ فذكروا أنهم خاصة لا يقومون بغير دين، وممن ذهب إلى ذلك العلامة ابن خلدون في مقدمته؛ إذ قال:
"الفصل السابع والعشرون في أن العرب لا يحصل لهم الملك إلا بصبغة دينية: من نبوة، أو ولاية، أو أثر عظيم من الدين على الجملة؛ والسبب في ذلك أنهم لخُلُقِ التَّوحُّش الذي فيهم أصعب الأمم انقيادًا بعضُهم لبعض؛ للغلظة والأَنَفة، وبعد الهمة، والمنافسة في الرئاسة؛ فقلَّما تجتمع أهواؤهم، فإذا كان الدين بالنبوءة، أو الولاية، كان الوازعُ لهم من أنفسهم، وذهب خلق الكبر والمنافسة منهم فسَهُلَ انقيادُهم، واجتماعهم، وذلك بما يشملهم من الدين المُذهِبِ للغلظة والأَنَفة، الوازع عن التَّحاسُدِ والتنافس"؛ تاريخ ابن خلدون (1/189).

وكلامه وإن كان له وجه وحظ كبير من النظر، فإنَّا لا نستطيع حصرَ علة الأمر في ذلك، لا سيما وقد يُورد عليه أن بعض البلدان العربية في عصرنا الحديث قد نهضت نهضة شبيهة بنهضة أوروبا، فهي تعج بالرفاهيَّات، ودَخْلُ الفرد فيها كبير، والبنية التحتية قوية، ورائحة البزخ فيها تزكم الأنوف، والذي يسير في شوارعهم وطرقاتهم يحس بأنه في أوروبا، ونحو ذلك من أوجه التقدم الشبيه بالتقدم الأوروبي، وإن لم يُساوِه من كل الوجوه.

فلا بد من تحليل آخر - إذًا - يكون سالمًا من النقض، نضع فيه أيدينا على موضع العلة والداء؛ حتى يسوغ لمن أراد معرفة الدواء؟

فنقول - أولاً -: هل هؤلاء الذين يضرب بهم المثل في النهوض هم في نهضة حقيقية؟ وهو السؤال الذي يجرنا إلى سؤال آخر لابد وأن يسبقه في الجواب، وهو: ما هي النهضة الحقيقية؟
إن النهضة الحقيقية هي النهضة التي تستقيم فيها أمور المجتمع كلها؛ فتكون نهضة في التصورات والمعلومات، نهضةً في العمل والعدل، نهضة في الحرية الحقيقية، والسلوك والأمور الأخلاقية، نهضة في الاقتصاديات والاجتماعيات والسياسات، إلى غير ذلك مما لا تكون النهضة حقيقة إلا به.

وقبل كل ذلك تكون مستندة إلى أصول تقوم عليها، وتكون مرجعًا لها عند التعثُّرِ، ولابد وأن تكون هذه الأصول تمتلك أسبابَ القوة في ذاتها، حتى تضمن استمرارها.

وهذه النهضة - إذا دققنا النظر وقلبناه في المناهج والتجارب - تُوصلنا إلى أنها لم توجد أسسُها إلا في دين الله، وشرعه، ولم تحصل إلا في مجتمع رسول الله ومن سار على دربه مِن بعده.

إن هذا الأصل لا يكون إلا في شرع الله المنزه، الشامل، الذي لا يُحتاج معه إلى غيره، ذلك أنه - كما قلنا -: الله الذي أنزله على البشر، هو الذي خلق هؤلاء البشر، وهو الذي يعلم ما يصلحهم، والذي به قوامهم.

وإذا كان كذلك، علمنا أن فيه التصور والاعتقاد الصحيح الذي لا تشوبه شبهة، والعدل المطلق الذي لا يخضع لهوى ولا شهوة، والحرية الحقيقية التي لا تقوم على صبوة أو نزوة، والسياسات السديدة التي لا يعتريها خَرْم أو فجوة، والقواعد الاقتصادية التي بها قوام النهضة، والسلوكيات والأخلاقيات التي لا تتخللها ثُلْمةٌ، إلى غير ذلك من أصول وقواعد هي - في الحقيقة - منطلق النهضة.

فهل هؤلاء القوم نهضوا مثل هذه النهضة؟
إن هؤلاء القوم مُشوَّهةٌ تصوراتُهم وعقائدهم، يَعبُدُ بعضهم الصُّلْبانَ، وبعضهم الأوثان، كما يعبد اليابانيون بوذا، ولا يعرفون من الإنسانية التي يزعمونها إلا ما أُشْرِبوا من أهوائهم، وإلا فجيوش بعضهم تُرِيقُ دماءَ الناس في جَنَبات الأرض، وهم وإن أنكر قليل منهم لم ينكر أكثرهم، وأما العدل فهم وإن نشروه بصورة كبيرة في أراضيهم، فإنهم لا يعرفونه لغيرهم - إلا إذا كان لأشياعهم، فيأتون إليه مُذْعنين، وإلا ردوه ولم يقبلوه، وما حقُّ الفيتو إلا صورة مصغرة من هذا العدل المزعوم، وأما الحرية فلا يعرفون منها إلا حرية التفسخ والانسلاخ عن كل ما هو أخلاقي، وأما الأمور الاجتماعية فحدِّثْ ولا حرج، لا يكاد برُّ الوالدين يُعرف عند القوم، ولا تكاد صلة الرحم تُذكر إلا في الكنائس والمعابد، وهو الأمر الذي ينتشر ويشتهر ولم يستطيعوا أن ينفوه عن أنفسهم حتى في وسائل إعلامهم التي تحاول تزيين صورتهم.

لا ننفي أن القوم متطورون في أمور عديدة، وهي الأمور التي يسميها البعض نهضة؛ فمن أبرز وجوه تقدمهم:
الصناعات التي يتطورون فيها بسرعات هائلة، وهو التطور الطبيعي لأناس أعطوا العلم والعلماء الاهتمام الكافي؛ إذ علموا أن أمورهم لا تستقيم إلا بذلك، ولا أدل على ذلك من تلك الصورة الشهيرة للمدرس الياباني الذي يجلس مع تلاميذه فوق أنقاض مدرستهم التي دمرتها القنابل النووية ليدرسهم ويعلمهم، في مشهد يدل على أن القوم يعرفون أنه لا نهوض بغير العلم، وصناعة العلماء.

وكذلك أمور الاقتصاد المترتبة بصورة كبيرة على التطور الصناعي سالف الذكر، وهذا التطور الاقتصادي هو الذي أدَّى - بجانب العلم، وقلة الفساد، وبعض العوامل الأخرى - إلى أن تتحول بلدانهم، في خلال الستين عامًا الماضية من بلدان دمرتْها الحرب العالمية الثانية، وأتت عليها حتى حولت عواصم وحواضر كاملة إلى أثر بعد عين، وانجلت عما يزيد عن خمسين مليونًا من القتلى، إلى بلدان متطورة وقوية تذكر في صدارة الدول.

وغير ذلك من الأمور التي لابد أن نتفق على أنهم متقدمون فيها ومتطورون، ولكننا إذا دققنا النظر فيها أيضاً وجدنا أن هذه الأمور قد كَرَّسَ لها دينُ الله وشرعه، ووضع أسسَها وأصولها بما يغني عن غيره؛ فهو الدين الذي أمر بالعلم في كل مجالاته، وأمرنا بسؤال أهل الذكر في كل فن؛ ﴿ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [النحل: 43]، وهو الدين الذي أمرنا باحترام العلماء، وأعلَمَنا بفضلهم على غيرهم من البشر؛ ﴿ يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ﴾ [المجادلة: 11]، وهو الدين الذي وضع قواعد الاقتصاد التي تقيم مجتمعًا ناهضًا، لا يكرِّس لرأس المال على حساب الفقراء؛ ﴿ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُم ﴾ [الحشر: 7]، هو دين لا يتصادم مع التطور والتقدم والتحضر؛ بل يضع أسسَ وأصولَ كل هذه الأمور.

ولا نقول في ذلك كلامًا نظريًّا شاعريًّا؛ بل هو ما أقام به رسول الله تجربةً واقعية رائدة على وجه الأرض، فأخرج قومًا كانوا يعبدون الأوثان، ويأكلون الجعلان، ويأكل القويُّ منهم الضعيف - من الظلمات إلى النور، وصنع منهم أناسًا متحضِّرين، بعدما كانوا أناسًا بدائيين، وصنع بهم حضارة من أعظم حضارات الأرض، وأمة من أقوى أمم الأرض، فكانت تجربة رائدة شهد لها العدو المنصف، قبل المحب.

ولعل البعض يستدرك هنا أني لم أذكر التقدم العسكري، وكذلك السياسي، فأقول:
إن التقدم العسكري إن قُصد به تطور آلات الحرب والقتال، فهو في الحقيقة داخل في التطور الصناعي، وإن قصد به غير ذلك من مقومات الحرب، وأبرزها العامل البشري، فلا أرى أن القوم متقدمون فيه، بل هم في أحط الأمم، ولا أدل على ذلك من أن القوم لم يدخلوا حربًا في العصر الحديث إلا وهزموا؛ كما في تجربة الفلبين، والصومال، والعراق، وأفغانستان، وغيرها، مع شبه انعدام في إمكانيات المحاربين في هذه التجارب، فتطور الآلة مع ضعف المستخدم لها، لا يُعدُّ تطورًا وتقدمًا؛ بل يكون دليلاً على الضعف والخور.

وأما التقدم السياسي، فلا أرى لهم فيه تقدمًا، ولا تحضرًا، فأي تحضر هذا في قوم لا تقوم سياساتهم على شيء، غير أنهم يسعون في إبعاد عدوهم الذين يعلمون أسباب قوته عن هذه   الأسباب؟!

إني لا أريد بهذه المناقشة بخسَ قوم ما فيهم من مميزات، ولا أن أنسب إلى قوم ما ليس فيهم من حسنات، فهذا لا يفعله مُحْتَرِمٌ لنفسه، ولا ناصح لقومه، إلا أني لا أريد أيضًا أن تَغُرَّني وإخواني من المسلمين بهارجُ ظاهرية، لاسيما إن أدَّت ببعضهم إلى سوء ظن بدينه، وواقعية هذا الدين، وقدرته على انتشاله من حضيضه.

وإنما أردت هنا أن أبيِّن خطأ الفكرة التي صدَّرها الغرب وأتباعه إلى بعض المسلمين من أن لا سبيل إلى النهضة والتقدم والتطور إلا بالتنازل عن الدين كما فعل الغرب، والحقيقة أن عكس ذلك هو الصحيح وأن الدين عندنا هو سبب النهوض لا سبب السقوط.

بل وأريد أن أسجل أيضًا أن أيًّا من الأديان التي أنزلها الله لم يكن يومًا من الأيام سببًا في سقوط أحد، بل لا زال كل دين أنزله الله هو سبب الرِّفْعةِ، لأن الكل يتفق في أنه من عند الله (قبل أن تحرف الأديان السابقة)، وأما ما مرت به أوروبا وغيرها فإنما كان بسبب فساد رجال الكنيسة، ولا يصح أن ينسب مثل هذا إلى دين الله عز وجل.

وأخيرًا، فإن القوم يفتقدون من مقومات النهضة والحضارة الحقيقية أكثر مما يملكون، وإن ما فقدوه لابد مُسْقِطٌ ما امتلكوه، وقد كانت حواضر وممالك أشد منهم قوة وآثارًا في الأرض - وعلى رأسهم الإمبراطورية الرومانية - فسقطوا ولم يَعُدْ لهم ذكرٌ إلا في علوم التاريخ والآثار.

فهؤلاء القوم - في الحقيقة - لا يملكون أسباب الاستمرار والبقاء، بل هم مصابون بكل أسباب الهلاك والفناء، غير أن ذلك منهم قد وافق سقوطًا تامًّا لعدوهم، بل وتبعية، فلا يكاد يقوم لهم عدو قوي حقيقي يسقطهم، وإلا لسقطوا من قديم.

وإن الأمة الإسلامية - رغم ما هي فيه من ضعف وخور لِبُعدها عن دين ربها - لَتَمْتَلِك كل أسباب القوة في منهجها المبني على الأصل المتين، ولذلك مهما سقط أتباعه وانحطوا - بقدر بعدهم عنه - فإنهم لا يلبثون أن يقوموا - كما تشهد على ذلك كثير من حوادث التاريخ - إذا رجعوا إلى مصدر قوتهم.

إن سنة الله لا تتبدل ولا تتغير، فبقدر ما أخذ الناس - مسلمهم وكافرهم - بأسباب النهوض والتقدم التي أسس لها رب العالمين، وطبَّقها نبيُّه الصادق الأمين - نهضوا وتقدموا، ولو أن العرب والمسلمين في عصرنا هذا أخذوا بما أخذ به الغرب من الأسباب، لنهضوا نهضة من نوع نهضته، غير أنهم يكونون مثله فيما يمتلك من أسباب النهوض وأسباب السقوط، فيوشك أن يسقطوا.

وعليه؛ فمن أراد نهضة حقيقية، ثابتة الأقدام، تتضافر عواملها، وتتوافر عناصرها على قيامها- فعليه أن يأخذ بدين الله كاملاً غير منقوص، وأن يعمل به غير مكتفٍ منه ببعض الشعائر والطقوس، فهذا هو السبيل الذي قرره رب العالمين، وهو أن تكون الحياة كلها لله؛ ﴿ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الأنعام: 162]، ولأجله أرسل الرسل، وأنزل الكتب.


إرسال تعليق

 
Top