0

الرد على النصارى في ادعاء بنوة المسيح وألوهيته


الحمد لله والصلاة السلام على رسول الله.

ثم أمَّا بعدُ:
إن ما أوردته أناجيل النصارى المحرفة على لسان المسيح - عليه السلام - من كونه ابن الله، وأن الله حلَّ فيه، أو كون الله هو المسيح إلى غيرها من التُّهم والخُزعبلات، أقول: إن تلك العقائد هي مما ألصق بالسيد المسيح - عليه السلام - وهو منه بريء لمنافاته لعقيدة التوحيد التي جاء بها كغيره من الرسل؛ إذ يستحيل أن يصف المسيح نفسه بأوصاف الله - عز وجل - من الأزلية والأبدية، والعلم المطلق بكل شيء والوجود في كل مكان..، إلى غير ذلك من الصفات والأفعال الخاصة بالله - عز وجل.

ولو فرض جدلاً أن شيئًا من هذه الأقوال قد جاء على لسان المسيح - عليه السلام - مما يتضمن وصفه لنفسه بالبنوة والألوهية، فإن بالضرورة ليس بالمعنى الذي يقصده المسيحيون من هذه الألفاظ، فإن هذه الألفاظ قد وردت في الأسفار الكتابية بمعان أخرى، ذكرها ابن تيمية في معرض رده على المسيحيين الذين يحتجون على قولهم ببنوة المسيح لله - تعالى - وألوهيته بما ورد في أناجيلهم من النصل على ذلك.

وكذلك فعل غيره من العلماء في إبطالهم لاستشهادات النصارى على عقيدتهم الباطلة هذه من الكتاب المقدس.

لو فرض ذلك لا بد وأن يؤول لفظ البنوة والألوهية في حق المسيح بما لا يتنافى مع العقيدة الصحيحة في الله والمسيح؛ ككونه دالاًّ على تكريمه وقربه من الله، أو دالاًّ على رئاسته الدينية وشرفه، وكونه متكلمًا باسمه، حاكمًا بحكمه، عاملاً بوصاياه.. إلخ، لا سيما إذا علمنا أن أسفار العهد القديم كانت تطلق لفظ البنوة على إسرائيل وعلى داود وغيرهما، كما كانت تطلق لفظ الألوهية على موسى - عليه السلام - وعلى غيره من قضاة بني إسرائيل بهده المعاني، بذكر التأويلات الصحيحة لما ورد في الأناجيل من ألفاظ الأبوة والبنوة والألوهية.. إلخ، ليست إذًا بنوة المسيح وألوهيته، حتى لو فرضت صحة هذه النصوص بنوة وألوهية حقيقية، بل مجازية يجب أن تؤول نصوصها بما لا يتضمن فسادًا في العقيدة، ولا مخالفة للتوحيد، ولتتفق مع النصوص المحكمة في العقيدة.

زِدْ على ذلك على فرض صحة نقله لا بد وأن يفهم على ضوء بقية ما تضمنه الكتاب المقدس من خصائص البشرية للمسيح - عليه السلام.

أما ما أسند إلى المسيح من أفعال الله - عز وجل - فهو نوع من التحريف الذي ألحقه المسيحيون بعقيدتهم التوحيدية الصحيحة، وما داموا قد انحرفوا وألَّهوا المسيح، فمن الطبيعي أن يضيفوا إليه أفعال الألوهية، وإذا كان تأليههم المسيح اعتقادًا باطلاً، فإن إضافتهم إليه أعمال الألوهية يعد أمرًا باطلاً هو الآخر، فإن مقتضى استحالة الألوهية في حق المسيح هو استحالة أفعالها في حقه كذلك.

والذي يتمعَّن فيما يستدلون به هنا من نصوص، يجد أنها لا تتضمن في الحقيقة وصف المسيح لنفسه بالأزلية كما يزعمون، بل أقصى ما فيها تقدير الله لنبوَّته، وتمجيده له في قدره السابق، قبل أن يخلق الخلائق، وهذا أمر وارد في حق كل نبي من الأنبياء.

أما المعجزات - كمعجزة إحياء الموتى - فلم يفعلها المسيح باعتباره إلهًا قادرًا على كل شيء، وإنما فعلها بالقدرة التي منحها الله له، وبعد أن تضرَّع إلى الله الذي أرسله طالبًا تأييده، وليس في هذا ما يدل على ألوهيته، ولكنه يدل على نبوته، وتأييد الله له بهذه المعجزات.

أما ما يزعمونه من جلوس المسيح على يمين الرب لدينونة الخلائق، فذلك أمر باطل، دفعهم إليه غلوهم في حق المسيح، فالله هو مالك يوم الدين، وهو المتفرد بحساب الخلائق في ذلك اليوم، ولو فرض أن تعميد الناس إنما يكون باسمه مع اسم الله وروح القدس مما تضمنه إنجيل متى، فهذا ليس على سبيل المشاركة في الألوهية، وإنما على سبيل البركة باعتباره نبي الله.

وبديهي أن عيسى - عليه السلام - لا يمكن أن يرد على لسانه إقراره لـ(توما) في وصفه له بالألوهية، وهو النبي الداعي إلى التوحيد، وسوف يجيب ربه يوم القيامة إذا سأله عن تأليه الناس له قائلاً: ﴿ مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ ﴾ [المائدة: 117].

وغاية القول: إن ما يستشهد به النصارى على عقيدتهم في المسيح - عليه السلام - إما أن تكون شواهد مكذوبة النسبة إلى المسيح - عليه السلام - أو محرفة في نقلها وترجمتها، أو تكون متضمنة لألفاظ مؤولة لا ينبغي فَهمها إلا في ضوء استعمال الكتب المقدسة لها، وعلى ضوء بقية النصوص الأخرى التي تتضمن النص على بشرية المسيح - عليه السلام - وغيره من الأنبياء.

وسوف يتضح بجلاء بطلان ما يستشهد به النصارى على عقيدتهم في المسيح، بعد أن نعرض فيما يأتي إبطال ابن تيمية وغيره من العلماء لِما يستدل به النصارى من أدلة أخرى غير تلك التي أوردناها وأبطلناها في هذا المقام.

يذكر ابن تيمية أن عقيدة اليهود والنصارى في شأن المسيح - عليه السلام - على طرفي نقيض؛ فاليهود لم يعطوا المسيح حقه الذي منحه الله إياه، فزعموا أن ولد زنا، وأنه كذاب وساحر، ولم يؤمنوا به.

أما النصارى، فقد غالوا في تعظيمه لدرجة تأليهه، فقالوا عنه: إنه الله وابن الله، بل صار من يقول فيه القول الحق من علمائهم وعبادهم، يجمعون لهم مجمعًا ويلعنونهم فيه على وجه التعصب واتباع الهوى، والغلو فيمن يعظمونه؛ الجواب الصحيح (2/88).

ويبطل ابن تيمية عقيدة النصارى هذه في بنوة المسيح لله - تعالى - وألوهيته، وأدلتهم عليها من جهات متعددة.

فهو يبطلها بإبطال أدلتهم من الكتاب المقدس عندهم، وكذلك بإبطال استدلالهم عليها في زعمهم بالقرآن الكريم.

تفصيل ذلك: المقصود هنا كما يقول ابن تيمية: بيان بُطلان احتجاج النصارى على أن المسيح هو الله، أو ابن الله، أو أنه كلمة الله الخالقة، وأنه ليس لهم في ظاهر القرآن ولا باطنه حجة، كما ليس لهم حجة في سائر كتب الله، وإنما تمسكوا بآيات متشابهات، وتركوا المحكم، كما أخبر الله - تعالى - عنهم بقوله: ﴿ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ ﴾ [آل عمران: 7].

والآية - كما يقول ابن تيمية - نزَلت في النصارى، فهم مرادون من الآية قطعًا؛ الجواب الصحيح (2/304).

يقول ابن تيمية: ثم يقال للنصارى في هذا المقام: أنتم لا يمكنكم إثبات كون المسيح هو الله إلا بهذه الكتب، ولا يمكنكم تصحيح هذه الكتب إلا بإثبات أن الحواريين رُسل الله معصومون، ولا يمكنكم إثبات أنهم رسل الله إلا بإثبات أن المسيح هو الله، فصار ذلك دورًا ممتنعًا.

- والدور هو: توقف الشيء على نفسه؛ أي: يكون هو نفسه علة لنفسه، بواسطة أو بدون واسطة، والدور مستحيل بالبداهة العقلية؛ انظر: ضوابط المعرفة؛ لعبدالرحمن الميداني (ص333).

- فإنه لا تعلم إلهية المسيح إلا بثبوت هذه الكتب، ولا تثبت هذه الكتب إلا بثبوت أنهم رسل الله، ولا يثبت ذلك إلا بثبوت أنه الله، فصار ثبوت الإلهية متوقفًا على ثبوت إلهيته، وثبوت كونهم رسلَ الله متوقفًا على كونهم رسل الله، فصار ذلك دورًا ممتنعًا؛ الجواب الصحيح (1/357).

إبطال ابن تيمية لاستدلالات النصارى على بنوة المسيح وألوهيته بالتوراة ثم بالإنجيل.

أولاً: إبطال أدلتهم من التوراة:
يستشهد النصارى على عقيدتهم ببنوة المسيح لله - تعالى - وأبوة الله له، وبالتالي على ألوهية المسيح ببعض نصوص التوراة التي تتضمن هذه الألفاظ الدالة على تلك العقائد، فقد قالوا: نحن معشر النصارى لم نُسمِّ المسيح بهذه الأسماء من ذات أنفسنا، بل الله سماه بها، وذلك أنه قال على لسان موسى النبي في التوراة مخاطبًا بني إسرائيل: أليس هو أباك ومقتنيك، هو عملك وأنشأك؛ سفر التثنية (32: 6)؛ أي: إن اسم الأب أو كلمة الأب قد استعملت في التوراة بالنسبة لله - عز وجل - فلم يكونوا في نظر أنفسهم هم المبتدعين لتلك الكلمة في حق الله - عز وجل - ولا ما تستتبعه تلك الكلمة من النبوة بالنسبة للمسيح.

وقد أجاب ابن تيمية على ذلك بقوله: إن في هذا الكلام أنه سماه أبًا لغير المسيح - عليه السلام - وهذا نظير قوله لإسرائيل: أنت ابني بكري - سفر الخروج (4: 22 و23) - ولداود: ابني وحبيبي مزمور (89: 26. 27)، وقول المسيح: أبي وأبيكم يوحنا (20: 17).

وهم يسلِّمون أن المراد بهذا في حق غير المسيح بمعنى الرب، لا بمعنى التولد الذي يخصون به المسيح.

ثم إن هذا الدليل الذي يستدلون به على بنوة المسيح لله - تعالى - وألوهيته هو حجة عليهم، فإذا كان في الكتب المتقدمة تسميته أبًا لغير المسيح، وليس المراد بذلك إلا معنى الرب - علِم أن هذا اللفظ في لغة الكتب يراد به الرب، فيجب حمله في حق المسيح على هذا المعنى؛ لأن الأصل عدم الاشتراك في الكلام، وأن استعماله في المعنى الذي خصوا به المسيح، إنما يثبت إذا علم أنه أريد به المعنى الذي ادعوه في المسيح، فلو أثبت ذلك المعنى بمجرد إطلاق لفظ الأب لزم الدور، فإنه يعلم أنه أريد به ذلك المعنى؛ من حيث يثبت أنه كان يراد به في حق الله هذا المعنى، ولا يثبت ذلك؛ حتى يعلم أنه أريد به ذلك المعنى في حق المسيح، فإذا توقف العلم بكل منهما على الآخر، لم يعلم واحد منهما، فتبين أنه لا علم عندهم بأنه أريد في حق المسيح بلفظ الأب ما خصوه به في محل النزاع.

ثم إنه لا يوجد في كتب الأنبياء وكلامهم إطلاق اسم الأب والمراد به أب اللاهوت، ولا إطلاق اسم الابن والمراد به شيء من اللاهوت، ولا كلمته ولا حياته، بل لا يوجد لفظ الابن إلا والمراد به المخلوق، فلا يكون لفظ الابن إلا لابن مخلوق، وحينئذ فيلزم من ذلك أن يكون مُسمى الابن في حق المسيح هو الناسوت، وهذا يبطل قولهم: إن الابن وروح القدس صفتان لله، وأن المسيح اسم اللاهوت والناسوت، فتبين أن نصوص كتب الأنبياء تبطل مذهب النصارى وتناقض أمانتهم؛ الجواب الصحيح (2 / 123).

ثانيًا: إبطال أدلتهم من الإنجيل:
يستشهد النصارى ببعض نصوص الأناجيل التي تتضمن ألفاظًا دالة على تلك العقائد، فقالوا: عمدوا الناس باسم الأب والابن والروح القدس؛ مَتَّى (28: 19).

وقد رد ابن تيمية على ذلك بقوله: هذا النص هو عمدتكم على ما تدَّعونه من الأقانيم الثلاثة، وليس فيه شيء يدل على ذلك لا نصًّا ولا ظاهرًا، فإن لفظ الابن لم يستعمل قط في الكتب الإلهية في معنى صفة من صفات الله، ولم يسم أحد من الأنبياء علم الله ابنه، ولا سموا كلامه ابنه، ولكن عندكم أنهم سموا عبده أو عباده، ابنه أو بنيه، وإذا كان كذلك فدعواكم أن المسيح أراد بالعلم ابن الله، وكلامه دعوى في غاية الكذب على المسيح، وهو حمل للفظ على مالم يستعمله هو ولا غيره فيه لا حقيقة ولا مجازًا، فأي كذب وتحريف لكلام الأنبياء أعظم من هذا، ولو كان لفظ الابن يستعمل في صفة الله، لسُمِّيت حياته ابنًا، وقدرته ابنًا، فتخصيص العلم بلفظ الابن دون الحياة خطأ ثانٍ لو كان لفظ الابن يستعمل في صفة الله، فكيف إذا لم يكن كذلك...، بل ظاهر هذا الكلام أن يعمدوهم باسم الأب الذي يريدون به في لغتهم الرب، والابن الذي يريدون به في لغتهم المربي، وهو هنا المسيح، والروح القدس الذي أيد الله به المسيح من الملك والوحي وغير ذلك، وبهذا فسر هذا الكلام من فسره من أكابر علمائهم؛ الجواب الصحيح (2/131-134) بتلخيص.

كما يستدل النصارى على صحة عقيدتهم في بنوة المسيح لله - عز وجل - بما يدعونه ويتأوَّلونه كعادتهم من آيات الكتاب الحكيم، فيقولون:
1- إنه قد جاء في هذا الكتاب يقصدون القرآن الكريم الذي جاء به هذا الإنسان؛ أي: محمد - صلى الله عليه وسلم -: ﴿ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ ﴾ [النساء: 171].

ويقولون: وهذا يوافق قولنا: إن المسيح لاهوت وناسوت؛ إذ قد شهد القرآن أنه إنسان مثلنا بالناسوت الذي أخذ من مريم، وكلمة الله وروحه المتحدة فيه، وحاشا أن تكون كلمة الله وروحه الخالقة مثلنا نحن المخلوقين، فأشار بهذا إلى اللاهوت الذي هو كلمة الله الخالقة؛ نقلاً عن الجواب الصحيح لابن تيمية (2/279).

وقد رد ابن تيمية على استشهادهم هذا بقوله: إن دعواكم أيها النصارى على محمد - صلى الله عليه وسلم - أنه أثبت في المسيح اللاهوت والناسوت كما تزعمون أنتم فيه، هي من الكذب الواضح المعلوم، فلو ادعى اليهود على محمد - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يُكذِّب المسيح - عليه السلام - ويجحد رسالته، كان كدعوى النصارى عليه أنه كان يقول: أنه رب العالمين، وأن اللاهوت والناسوت، ومحمد - صلى الله عليه وسلم - قد أخبر فيما بلغه عن الله - عز وجل - بكفر من قال ذلك، وبما يناقض ذلك في غير موضع؛ كقوله تعالى: ﴿ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ ﴾ [المائدة: 17]، ﴿ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ﴾ [المائدة: 17].

وقوله تعالى: ﴿ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ ﴾ [المائدة: 72].

وقوله تعالى: ﴿ وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ﴾ [التوبة: 30].

إلى غير ذلك من أمثال هذه الآيات، فكيف يزعمون أن القرآن يثبت لاهوت المسيح وهو يكفر صراحة كما رأينا من يثبت بنوته لله - تعالى - وألهيته.

2- ويقولون أيضًا في استدلالهم على ألوهية المسيح بآيات الكتاب الكريم في موضع آخر: إن الله قد سماه كذلك في هذا الكتاب خالقًا؛ حيث قال: ﴿ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي ﴾ [المائدة: 110]، وهذا مما يوافق رأينا والكلام للنصارى، واعتقادنا في السيد المسيح لذكره؛ لأنه حيث قال: ﴿ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ ﴾ [آل عمران: 49]؛ أي: بإذن اللاهوت الكلمة المتحدة في الناسوت؛ نقلاً عن الجواب الصحيح لابن تيمية(2/ 287).

وقد أجاب شيخ الإسلام على ذلك بقوله: إن جميع ما يحتج به النصارى من هذه الآيات وغيرها، هو حجة عليهم لا لهم، وذلك من وجوه:
الوجه الأول: أن الله لم يذكر عن المسيح خلقًا مطلقًا، ولا خلقًا عامًّا، كما ذكر عن نفسه - تبارك وتعالى - في كثير من الآيات، وأما المسيح - عليه السلام - فقال فيه: ﴿ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي ﴾ [المائدة: 110]، وقال المسيح عن نفسه: ﴿ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ ﴾ [آل عمران: 49]، فلم يذكر إلا خلق شيء معين خاص بإذن الله، فكيف يكون هذا الخالق هو ذاك؟!

الوجه الثاني: أنه خلق من الطين كهيئة الطير، والمراد به: تصويره بصورة الطير، وهذا الخلق يقدر عليه عامة الناس، فإنه يمكن لأحدهم أن يصور من الطين كهيئة الطير، وغير الطير من الحيوانات، والمعجزة أنه ينفخ فيه الروح فيصير طيرًا بإذن الله - عز وجل - وليس مجرد خلقه من الطين، فإن هذا أمر مشترك.

الوجه الثالث: أن الله أخبر أن المسيح إنما فعل التصوير المحرم والنفخ بإذن الله تعالى، وأخبر المسيح - عليه السلام - أنه فعله بإذن الله، وأخبر الله أن هذا من نعمه التي أنعم بها على المسيح - عليه السلام - كما قال تعالى: ﴿ إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ ﴾ [الزخرف: 59].

وقوله تعالى: ﴿ إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي ﴾ [المائدة: 110].

وهذا كله صريح في أنه ليس هو الله، إنما هو عبد الله، فعل ذلك بإذن الله، كما فعل مثل ذلك غيره من الأنبياء، وصرح بأن الآذن غير المأذون له، والمعلِّم ليس هو المعلَّم، والمنعم عليه وعلى والدته ليس هو إياه، كما ليس هو والدته.

الوجه الرابع: إنهم قالوا: أشار بالخالق إلى كلمة الله المتحدة في الناسوت، ثم قالوا في قوله: بإذن الله؛ أي: بإذن الكلمة المتحدة في الناسوت، وهذا يبين تناقضهم وافتراءهم على القرآن؛ لأن الله أخبر في القرآن أن المسيح خلق من الطين كهيئة الطير بإذن الله، ففرق بين المسيح وبين الله، وبين أن الله هو الآذن للمسيح، وهؤلاء زعمهم أن مراده بذلك أن اللاهوت المتحد بالناسوت المسيح هو الخالق وهو الآذن، فجعلوا الخالق هو الآذن، وهو تفسير للقرآن بما يخالف صريح القرآن.

الوجه الخامس: إن اللاهوت إذا كان هو الخالق لم يحتج إلى أن يأذن لنفسه، فإنهم يقولون: هو إله واحد، وهو الخالق، فكيف يحتاج أن يأذن لنفسه وينعم على نفسه؟!

الوجه السادس: إن الخالق إما أن يكون الذات الموصولة بالكلام، أو الكلام الذي هو صفة للذات، فإن كان هو الكلام، فالكلام صفة لا تكون ذاتًا قائمة بنفسها خالقة، ولو لم تتحد بالناسوت، واتحادها بالناسوت دون الموصوف ممتنع لو كان الاتحاد ممكنًا، فكيف وهو ممتنع؟!

وإذا كان الخالق هو الذات المتصفة بالكلام، فذاك هو الله الخالق لكل شيء رب العالمين، وعندهم هو الأب، والمسيح عندهم ليس هو الأب، فلا يكون هو الخالق لكل شيء، والقرآن يبيِّن أن الله هو الذي أذِن للمسيح حتى خلق من الطين كهيئة الطير، فتبين أن الذي خلق من الطين كهيئة الطير ليس هو الله، ولا صفة من صفاته، فليس المسيح هو الله، ولا ابن قديم أزلي لله، ولكن عبده فعل بإذنه.

الوجه السابع: قولهم: فأشار بالخالق على كلمة الله المتحدة في الناسوت المأخوذ من مريم؛ لأنه كذا قال على لسان داود النبي: (بكلمة الله خلقت السموات والأرض)، فيقال لهم: هذا النص عن داود حجة عليكم، كما أن التوراة والقرآن وسائر ما ثبت عن الأنبياء حجة عليكم، فإن داود - عليه السلام - قال: (بكلمة الله خلقت السموات والأرض) ولم يقل: إن كلمة الله هي الخالقة، كما قلتم أنتم أنه أشار بالخالق إلى كلمة الله.

والفرق بين الخالق للسموات والأرض، وبين الكلمة التي بها خلق السموات والأرض - أمر ظاهر معروف، كالفرق بين القادر والقدرة، فإن القادر هو الخالق، وقد خلق الأشياء بقدرته، وليست القدرة هي الخالقة، فالله تعالى يخلق بقدرته ومشيئته وكلامه، وليس صفاته هي الخالقة.

الوجه الثامن: إن قول داود - عليه السلام -: (بكلمة الله خلقت السموات والأرض)، يوافق ما جاء في القرآن والتوراة، وغير ذلك من كتب الأنبياء، إن الله يقول للشيء كن فيكون، وهذا في القرآن في غير موضع وفي التوراة قال الله: (ليكن كذا ليكن كذا).

الوجه التاسع: قولهم: (لأنه ليس خالق إلا الله وكلمته وروحه).

إن أرادوا بكلمته كلامه، وبروحه حياته، فهذه من صفات الله كعلمه وقدرته، فلم يعبر أحد من الأنبياء عن حياة الله بأنه روح الله، فمن حمل كلام أحد من الأنبياء بلفظ الروح، أنه يراد به حياة الله، فقد كذب عليه، ثم يقال: هذا كلامه وحياته من صفات الله كعلمه وقدرته، وحينئذ فالخالق هو الله وحده وصفاته داخلة في مسمى اسمه، لا يحتاج أن تجعل معطوفة على اسمه بواو التشريك التي تؤذن بأن الله له شريك في خلقه، فإن الله لا شريك له؛ ولهذا لما قال تعالى الله خالق كل شيء، دخل كل ما سواه في مخلوقاته، ولم تدخل صفاته كعلمه وقدرته، ومشيئته وكلامه؛ لأن هذه داخلة في مسمى اسمه ليست أشياء مباينة له..، وإن أرادوا بكلمة روحه المسيح، أو شيئًا اتحد بناسوت المسيح، فالمسيح - عليه السلام - كله مخلوق كسائر الرسل والله وحده هو الخالق.

الوجه العاشر: إن داود - عليه السلام - لا يجوز أن يريد بكلمة الله المسيح؛ لأن المسيح عند جميع الناس هو اسم للناسوت، وهو عند النصارى اسم اللاهوت والناسوت لما اتحدا، والاتحاد فعل حادث عندهم، فقبل الاتحاد لم يكن هناك ناسوت ولا ما يسمى مسيحًا، فعلم أن داود لم يرد بكلمة الله المسيح، ولكن غاية النصارى أن يقولوا: أراد الكلمة التي اتحدت فيها - أي: مريم - بجسد المسيح، لكن الذي خلق بإذن الله هو المسيح؛ كما نطق به القرآن بقوله: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ﴾ [آل عمران: 45].

فالكلمة التي ذكرها، وإنها هي التي بها خلقت السموات والأرض، ليست هي المسيح الذي خلق من الطين كهيئة الطير - بإذن الله.

فاحتجاجهم بهذا؛ أي: بأن المسيح - باعتباره كلمة الله - خلق الأشياء على الكلمة الخالقة بإذنه، هذا احتجاج باطل، بل تلك الكلمة التي بها خلقت السموات والأرض، لم يكن معها ناسوت حين خلقت باتفاق الأمم والمسيح، لا بد أن يدخل فيه الناسوت، فعلم أنه لم يرد بالكلمة المسيح؛ انظر: الجواب الصحيح (2 /287 293).

3- ويستشهد النصارى أيضًا على صحة بنوة المسيح لله وألويته بقوله تعالى: ﴿ إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ﴾ [آل عمران: 59].

فقالوا: قد عنى بقوله: مثل عيسى؛ إشارة إلى البشرية المأخوذة من مريم الطاهرة؛ لأنه لم يذكر هنا اسم المسيح، إنما ذكر عيسى فقط.

وكما أن آدم خلق من غير جماع ولا مباضعة، فكذلك جسد المسيح خلق من غير جماع، ولا مباضعة، وكما أن جسد آدم ذاق الموت، فكذلك جسد المسيح ذاق الموت.

وقالوا كذلك: وقد يبرهن على عقيدتنا أيضًا بما ذكره القرآن عن المسيح، من أن الله ألقى كلمته إلى مريم، وذلك حسب قولنا: إن كلمة الله الأزلية الخالقة حلَّت في مريم، وتجسدت بإنسان كامل؛ انظر: الجواب الصحيح (2 / 294).

وقد أجاب ابن تيمية - رحمه الله - عن ذلك بما يأتي:
أولاً: إن قوله تعالى: ﴿ إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ [آل عمران: 59].

كلام حق فإنه - سبحانه - خلق هذا النوع البشري على الأقسام الممكنة؛ ليبين عموم قدرته، فخلق آدم من غير ذكر ولا أنثى، وخلق زوجته حواء من ذكر بلا أنثى، وخلق المسيح من أنثى بلا ذكر، وخلق سائر الخلق من ذكر وأنثى، وكان خلق آدم وحواء أعجب من خلق المسيح، فإن حواء خلقت من ضِلَع آدم، وهذا أعجب من خلق المسيح في بطن مريم، وخلق آدم أعجب من هذا وهذا، وهو أصل خلق حواء، فلهذا شبهه الله بخلق آدم الذي هو أعجب من خلق المسيح، فإذا كان - سبحانه - قادرًا أن يخلقه من تراب، والتراب ليس جنس بدن الإنسان، أفلا يقدر أن يخلقه من امرأة هي من جنس بدن الإنسان؟

وهو - سبحانه - خلق آدم من تراب، ثم قال له: كن فكان، لَما نفخ فيه من روحه، فكذلك المسيح نفخ فيه من روحه، وقال له: كن فكان، ولم يكن آدم بما نفخ من روحه لاهوتًا وناسوتًا، بل كله ناسوت، وكذلك المسيح كله ناسوت.

وهذا كله يبيِّن به إن المسيح عبد ليس بإله، وأنه مخلوق كما خلق آدم، وقد أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يباهل من قال: إنه إله، فيدعو كل من المتباهلين أبناءه ونساءه وقريبه المخلص به، ثم يبتهل هؤلاء وهؤلاء، يدعون الله أن يجعل لعنته على الكاذبين، فإن كان النصارى كاذبين في قولهم: هو الله - حقت اللعنة عليهم، وإن كان من قال ليس هو الله، بل عبد الله كاذبًا، حقَّت اللعنة عليه، وهذا إنصاف من صاحب يقين يعلم أنه على الحق.

والنصارى لما لم يعلموا أنهم على حق، نكلوا عن المباهلة، وقد قال تعالى عقب ذلك: ﴿ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [آل عمران: 62]؛ تكذيبًا للنصارى الذين يقولون: هو إله حق من إله حق، فكيف يقال: إنه أراد أن المسيح فيه لاهوت وناسوت، وأن الناسوت فقد دون اللاهوت؟

وبهذا ظهر الجواب عن قولهم: أعني بقوله: عيسى إشارة إلى البشرية المأخوذة من مريم الطاهرة؛ لأنه لم يذكر الناسوت ها هنا اسمًا للمسيح، إنما ذكر عيسى فقط.

فإنه يقال لهم: عيسى هو المسيح بدليل قوله تعالى: ﴿ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ... ﴾ [النساء: 171]، وقوله تعالى: ﴿ مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ... ﴾ [المائدة: 75].

فأخبر أن المسيح ليس هو ابن الله، وإنما هو ابن مريم، والذي هو ابن من مريم هو الناسوت، وأنه ليس إلا رسول.

ثانيًا: قولهم: (وقد يبرهن أيضًا؛ أي: عقيدتهم في المسيح، من أنه إله وابن إله، بما ذكره القرآن عن المسيح من أن الله ألقى كلمته الخالقة إلى مريم، وذلك حسب قولنا - نحن معشر النصارى -: إن كلمة الله الخالقة الأزلية حلَّت في مريم، واتَّحدت بإنسان كامل)؛ نقلاً عن الجواب الصحيح؛ لابن تيمية (2/294).

فيقال لهم: أما قول الله في القرآن، فهو حق، ولكن ضللتم في تأويله كما ضللتم في تأويل غيره من كلام الأنبياء، وما بلَّغوه عن الله، وذلك أن الله تعالى قال: ﴿ إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ * وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ * قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ [آل عمران: 45، 47].

ففي هذا الكلام وجوه تُبيِّن أنه مخلوق، ليس هو ما يقوله النصارى، منها: أنه قال (بكلمة منه) وقوله: (بكلمة منه) نكرة في الإثبات، يقتضي أنه كلمة من كلمات الله، ليس هو كلامه كله كما يقوله النصارى.

ومنها: أنه بيَّن مراده بقوله: (بكلمة منه) أنه مخلوق؛ حيث قال: ﴿ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ [آل عمران: 47].

وقال في الآية الأخرى: ﴿ إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ [آل عمران: 59]، وقال تعالى أيضًا: ﴿ ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ * مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ [مريم: 34، 35].

فهذه ثلاث آيات في القرآن تبيِّن أنه قال له: (كن)، فكان، وهذا تفسير كونه (كلمة منه).

وقال: ﴿ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ ﴾ [آل عمران: 45]، فأخبر أنه ابن مريم، وأخبر أنه وجيهًا في الدنيا والآخرة ومن المقربين، وهذه كلها صفة مخلوق والله - تعالى - وكلامه الذي هو صفته لا يقال فيه شيء من ذلك.

وقال تعالى على لسان مريم: ﴿ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ ﴾ [آل عمران: 47]، فتبيَّن أن المسيح الذي هو الكلمة، هو ولد مريم لا ولد الله - سبحانه وتعالى.

فمع هذا البيان الواضح الجلي، هل يظن ظان أن مراده بقوله: (و كلمته) أنه إله خالق، أو أنه صفة لله قائمة به، وأن قوله: (وروح منه) المراد به: أنه حياته، أو روح منفصلة من ذاته؟!؛ انظر الجواب الصحيح (2 / 299- 301) بتلخيص.

ولنا في هذا المقام كلمة:
بعد ردود ابن تيمية - رحمه الله - على النصارى فيما يستشهدون به على عقيدتهم من آيات القرآن، فإذا كانوا يستشهدون بآيات القرآن على أنها من كلام الله، أو من كلام محمد - صلى الله عليه وسلم - ليأخذوا جملة العقيدة التي أوحى بها الله، أو العقيدة التي يعتقدها محمد - صلى الله عليه وسلم - ليأخذوا ذلك من جميع نصوص القرآن الواردة في الموضوع، فلا يقتصرون على جملة هنا أو جملة هناك، فالتعبيرات القرآنية عن المسيح بأنه كلمة الله أو روح من الله، لا بد وأن تُفهَم على ضوء الآيات الأخرى التي تنفي ألوهية المسيح وبنوته، وتكفر من يقول بهما، والتي تثبت براءة المسيح ممن يؤلهه أو يُؤله أمه، والتي تثبت كذلك اعترافه ببشريته.

على ضوء ذلك كله، لا بد وأن تفسر الآيات التي وصفت المسيح بأنه كلمة الله وروح منه، وإلا فهو إيمان ببعض الكتاب وكفر بالبعض الآخر، كما هو ديدنهم، وسواء اعتبر النصارى القرآن كلام الله أو كلام محمد - صلى الله عليه وسلم - فلا بد من أن يأخذوا العقيدة القرآنية في المسيح من كل ما جاء في حقه من آيات، وهذا هو ما فعله شيخ الإسلام؛ حيث جمع في مناقشتهم بين ما يستشهدون به من آيات القرآن، وما غضوا الطرف عنه من الآيات الأخرى، وبذلك يكون التصور الكامل للعقيدة القرآنية في المسيح، وفي نفس الوقت يظهر بطلان استشهادهم على عقيدتهم الزائفة بآيات القرآن من جهة، وبطلان عقيدتهم نفسها من جهة أخرى.

شُبَه أخرى:
يحتج النصارى على اختصاص المسيح بالبنوة والألوهية دون سائر الأنبياء والرسل، بأنه كلمة الله الأزلية التي انفصلت عنه واتَّحدت بالمسيح من دون سائر البشر، فكان ابنًا بالطبع، وليس ابنًا بالوضع.
الجواب: إنما خص المسيح بتسميته كلمة الله دون سائر البشر؛ لأن سائر البشر خلقوا على الوجه المعتاد في المخلوقات، بخلق الواحد من ذرية آدم من نطفة ثم علقة ثم مضغة، ثم ينفخ فيه الروح، وخلقوا من ماء الأبوين (الأب والأم)، والمسيح - عليه السلام - لم يخلق من ماء رجل، بل ما نفخ روح القدس في أمه، فحبلت به، وقال الله له: (كن)، فكان، ولهذا شبهه الله بآدم في قوله: ﴿ إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ [آل عمران: 59]، فإن آدم - عليه السلام - خُلِق من تراب وماء، فصار طينًا، ثم أيبس الطين، ثم قال له: (كن)، فكان بشرًا تامًّا بنفخ الروح فيه، ولكن لم يسم كلمة الله؛ لأن جسده خلق من التراب والماء، وبقي مدة طويلة يقال: أربعين سنة، فلم يكن خلق جسده إبداعيًّا في وقت واحد، بل خلق شيئًا فشيئًا، وخلق الحيوان من الطين معتاد في الجملة، وأما المسيح - عليه السلام - فخلق جسده خلقًا إبداعيًّا بنفس نفخ روح القدس في أمه، قيل له: (كن)، فكان له من الاختصاص بكونه خلق بكلمة الله ما لم يكن لغيره من البشر؛ انظر الجواب الصحيح (2/166).

يقول ابن تيمية: إن النصارى عمدوا إلى ما هو جسد من جنس سائر أجساد بني آدم، وقالوا: (إنه إله تام وإنسان تام)، وليس فيه من الإلهية شيء فما بقي مع هذا يمتنع أن يعتقد في نظائره ما يعتقد فيه.
فلو قال القائل: إن موسى بن عمران كان هو الله، لم يكن هذا أبعد من قول النصارى، فإن معجزات موسى كانت أعظم وانتصاره على عدوه أظهر، وقد سماه الله في التوراة إلهًا لهارون ولفرعون؛ انظر: سفر الخروج (4: 16، 7: 1)، والجواب الصحيح (3/174).

ثم يقول: والمعجزات التي احتججتم بها للمسيح، قد وجدت لغير المسيح، ولو قدر أن المسيح أفضل من بعض أولئك، فلا ريب أن المسيح - عليه السلام - أفضل من جمهور الأنبياء، أفضل من داود وسليمان وأصحاب النبوات الموجودة عندكم، وأفضل من الحواريين، لكن مزيد الفضل يقتضي الفضيلة في النبوة والرسالة؛ كفضيلة إبراهيم وموسى ومحمد صلوات الله عليهم وسلامه، وذلك لا يقتضي خروجه عن جنس الرسل؛ كما قال تعالى: ﴿ مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ﴾ [المائدة: 75]، وقال تعالى: ﴿ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ ﴾ [المائدة: 72].

وجماع هذا القول: إن سائر ما يوصف به المسيح عندهم، ويدَّعون اختصاصه به من كونه ابنًا لله، وكونه مسيحًا، وكون الله حلَّ فيه، أو ظهر أو سكن، أو أظهر المعجزات على يديه - كل ذلك موجود عندهم في حق غير المسيح، فليس للمسيح اختصاص بشيء من هذه الألفاظ في كلام الأنبياء، توجب أن يكون هو الله أو ابن الله، بل قد عرف باتفاقهم واتفاق المسلمين أن المراد بتلك الألفاظ حلول الإيمان بالله ومعرفته، وهداه ونوره ومثاله العلي في قلوب عباده الصالحين.

والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.

المصدر موقع المختار الإسلامي

إرسال تعليق

 
Top