0
أسئلة كثيرة تحتاج لاستقصاء ومراجعة لكثير من جوانب حياتنا  لاستعادة الشباب الذي اندفع نحو دائرة الإلحاد.

أسباب الإلحاد: د. محمد المهدي


هل تزايد الإلحاد بين الشباب في السنوات الأخيرة؟ وهل أصبح ظاهرة اجتماعية أم مجرد موجة عابرة؟ وهل يشكل خطرا على المعتقدات الدينية في المجتمع؟ هل هو جديد على البشر أم أنه ظاهرة قديمة؟ هل الإلحاد نمط واحد أم عدة أنماط ومستويات؟ ماهي دوافع الإلحاد وبواعثه في السنوات الأخيرة وخاصة بين الشباب في الدول العربية؟ هل الإلحاد ظاهرة دينية أم رد فعل لمشكلات سياسية وعائلية ونفسية؟ هل هو حالة تمرد وعدوان على المجتمع؟ كيف تتعامل الأسرة مع ابنها الملحد (أو ابنتها)؟ هل ثمة علاقة بين الإسلام السياسي والإلحاد؟ وماهي علاقة الإلحاد بتعثرات ثورات الربيع العربي؟ هل ساهم الخطاب الديني في السنوات الأخيرة في تنامي ظاهرة الإلحاد؟ كل هذه أسئلة تحتاج لاستقصاء وتستدعي بالضرورة مراجعة لكثير من جوانب حياتنا ليس فقط لاستعادة الشباب الذي اندفع نحو دائرة الإلحاد وإنما لاستعادة حالة السواء للمجتمع الذي ضربت فيه أمراض وعلل كثيرة؟.

كان جرس الإنذار العام قبل الماضي (2013 م) في مقال افتتاحي في صحيفة الواشنطن بوست يتحدث عن تنامي الإلحاد في كثير من دول العالم بين الشباب، وأوردت الصحيفة حالات الإلحاد في بعض الدول العربية والإسلامية مثل السعودية ومصر والعراق وتركيا وإيران، وتوالت الأخبار والتقارير، وظهر بعض الشباب الملحدين في الإعلام يجاهرون بإلحادهم، وزادت مجموعات الملحدين ومواقعهم على الإنترنت مثل “رابطة الملحدين المصريين” و “رابطة الملحدين العرب” وغيرها.. إضافة إلى تدوينات فردية عديدة تحكي خبرات شخصية لشباب الملحدين .

ظاهرة متواترة

والإلحاد ظاهرة متواترة في كل العصور والمجتمعات البشرية حتى في وجود الأنبياء والرسل؛ فالله قد منح الإنسان الاختيار الحر فيما يخص معتقداته الدينية ومنحه الإرادة الحرة في اختيار طريق حياته وجعله مسئولا عن كل ذلك. ومع ذلك يلاحظ أن دائرة الإلحاد تتسع بشكل ملحوظ في بيئات معينة وفي ظروف معينة بما يعكس الحاجة لفهم الظروف التي تغذي الرغبة في الإلحاد وكيفية تلافيها أو إصلاحها. والبعض يرى أن الإلحاد بدرجة معينة يعتبر فيروس مناعة (كالتطعيم في الطب) يقوي حالة الإيمان ويوقظها ويصحح أخطاء المتدينين .

مراهق
الإلحاد العابر من أنواع الإلحاد التي قد يمر بها البعض في فترة المراهقة أو الشباب.

أنماط ومستويات الإلحاد:


للإلحاد أنماط ومستويات متعددة ، فمثلا هناك “الإلحاد المطلق” (إنكار الألوهية والربوبية وما يتفرع عنهما من رسل ورسالات)، و “الإلحاد الجزئي” (الاعتراف بوجود إله مع إنكار تصرفه وسيطرته على شئون البشر، أي إنكار الربوبية)، و “اللاأدرية” (تأجيل الإيمان لعدم توافر الأدلة)، و “العدمية”  (اليأس من عدالة الأرض والسماء والشعور باللاجدوى)، و “الإلحاد العابر” (في مرحلة من مراحل العمر وخاصة المراهقة والشباب)، والإلحاد الباحث عن اليقين” (الخروج من دائرة الإيمان والنظر في الأمر بلا ثوابت أو مقدمات دينية ولتحقيق أكبر قدر من الموضوعية والعقلانية واليقين المحايد)، و“الإلحاد الكيدي الانتقامي” (الموجه ضد رمز أو رموز أو ممارسات دينية مكروهة أو مرفوضة أو مفروضة)، و“الإلحاد التمردي” (تمرد على السلطة أيا كان نوعها)، و“الإلحاد الابتزازي” (ابتزاز الأسرة أو المؤسسة الدينية أو المجتمع بهدف تحقيق مكاسب مادية أو معنوية)، و“الإلحاد الاستعراضي” (لجذب الانتباه وإثبات التميز)، و“الإلحاد الاستهزائي” (بهدف السخرية من المقدسات والثوابت ومن الكبار)، والإلحاد بالنمذجة (التقليد لشخص أو أشخاص محبوبين).

دوافع الإلحاد وبواعثه:

هي ليست بالضرورة دوافع أو بواعث دينية، بل من خلال التعامل مع أعداد كبيرة من الملحدين بشكل متعمق يتضح أن أغلب الحالات وراءها دوافع نفسية أو عائلية أو سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية أو فلسفية أو فكرية.

وعلى الرغم مما يبدو على السطح أنها مسألة دينية عقيدية إلا أن الأبعاد سالفة الذكر تكون كامنة ومحركة لسلوك صاحبها حتى دون أن يدري، وكأنه يختزل كل صراعاته ومعاناته ومشكلاته في الشكل الديني (أو اللاديني) ويحاول أن يحقق من خلاله توازنه النفسي، ولهذا يجب أن تدرس كل حالة إلحاد على حدة، ويتم التعامل معها على أنها حالة متفردة لها خصائصها المميزة من حيث النشأة والظروف البيئية والأحوال النفسية.

ولهذا نجد أن الكثير من حالات الإلحاد لدى الشباب لا يجدي معها الحوارات الدينية ولا يجدي تقديم الأدلة والحجج والبراهين لأن الأصل في المشكلة ليس دينيا، بل إن تقديم الحجج والبراهين الدينية من جانب بعض العلماء والوعاظ الذين لا يدركون عمق حالة الإلحاد قد يغري الملحد بالكثير من الجدال (الذي يتقنه جيدا) لا لشيء إلا لإثبات قدرته على إفحام محدثه وتحقيق انتصار على الرموز الدينية التي يكرهها وعلى المجتمع الذي يرفضه وعلى السلطة التي يتمرد عليها.

تحطيم القيود


قيود
لعل أكبر سبب للإلحاد في التاريخ البشري هو الرغبة في التخلص من القيود التي تفرضها الأديان على الناس.

ولعل أكبر سبب للإلحاد في التاريخ البشري هو الرغبة في التخلص من القيود التي تفرضها الأديان على الناس خاصة الأشخاص الذين يكرهون أية قيود مهما كان مصدرها ومهما كانت درجتها ويرغبون في الانطلاق في حياتهم بتوجيه عقولهم وخياراتهم الشخصية.

ومن العوامل الدافعة للإلحاد لدى المراهقين والشباب الهوة العميقة بين القيم المعلنة والقيم السائدة في المجتمع، وهنا يشعر المراهق أو الشاب أن المجتمع الذي يعيش فيه مجتمعا منافقا يقول شيئا ويفعل شيئا آخر، يتغنى بالصدق ويكذب ليل نهار، يتحدث عن العفة والفضيلة في العلن بينما يأتي أبشع المنكرات في الخفاء، وهنا تسقط مصداقية المجتمع وتسقط مصداقية السلطة وعلماء الدين والآباء والكبار عموما وأخيرا تسقط مصداقية الدين ذاته الذي يصله عبر هذه الرموز المرفوضة.

وقبل أن يصل الشاب إلى مرحلة الإلحاد يعيش فترة يعاني فيها من الإحباط والغضب وفقدان المعنى في كل ما حوله، ويعيش صراعا هائلا بين متناقضات عديدة في حياته لا يجد لها مخرجا من وجهة نظره إلا إنكار كل الثوابت وتحطيمها وعلى رأسها الدين لكي ينطلق متحررا من كل القيود التي تسببت في معاناته. وبعضهم يتوجه نحو الإلحاد بحثا عن الحرية والتحرر من كل القيود، فهو يرى أن المؤسسات الدينية والمجتمع يستخدمان الدين بشكل نفعي ويوظفان السلطة الروحية لسلب حريته.

ردُّ على التطرف

وقد يكون الإلحاد رد فعل عنيف على حالات التطرف الديني السائدة في المجتمع، وكأنه تحقيق لقانون التوازن في الكون الذي يضبطه قاعدة: لكل فعل رد فعل مساو له في القوة ومضاد له في الاتجاه. وتزداد الرغبة في الإلحاد كلما كان التدين السائد في المجتمع ظاهريا أو انتهازيا أو نفعيا أو هروبيا أو تسلطيا.

ويشجع على الإلحاد رؤية الدين كنوع من التفكير الخرافي الذي لا يثبت أمام المنطق والعقل النقدي، خاصة حين يحاول الشخص أن يقيس الخبرة الدينية والمعتقدات الدينية بنفس مقاييس العلم التجريبي ولا يراعي الفارق بين هذا وذاك واحتياج الخبرة الدينية لمنهجية مختلفة في النظر والقياس نظرا لاختلاف المجال.

وبعض علماء الدين تكون لديهم الرغبة في إقحام الدين في كل تفاصيل الحياة البشرية، وحجتهم في ذلك أن الدين يدخل (أو يجب أن يدخل) في كل شيء لأنه منهج كامل متكامل لحياة البشر، وهذه كلمة حق يراد بها باطل إذ تسمح للدعاة والمشايخ بأن يتسلطوا على حياة البشر ويتحكموا فيهم ويصبحون أوصياء عليهم، ويبدو بقية الناس ضعفاء قاصرين جهلاء سفهاء لا يعرفون ما يصلحهم لذلك يلجأون إلى وعاظهم ومشايخهم في كل صغيرة وكبيرة خوفا من الوقوع في الخطأ والمحظور.

الإلحاد فرويد
فرويد كان ملحدا، واعتقد أن الدين أفيون الشعوب وأنه عصاب جماعي أقرب للوسواس القهري!

 وهنا تتضخم ذوات القادة الدينيين ويزداد تأثيرهم على العامة والخاصة، وتتسع دائرتي الحلال والحرام لتحتل كل مساحة النشاط البشري وتتضاءل أو تختفي دائرة المباح التي تمنح الإنسان حرية التفكير والتصرف في شئون دنياه كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم حين سألوه عن تأبير النخيل(أنتم أعلم بشئون دنياكم) (1). وهذه التسلطية الدينية تدفع الشاب الراغب في الحرية لأن يتخلص ليس فقط من سلطة القادة الدينيين بل من سلطة الدين نفسه الذي يتحدثون عنه.

التدين الصراعي


وبعض الملحدين يزعجه التدين الصراعي الذي يفرق البشر إلى مجموعات متصارعة ويخلق حالة من العنصرية والاستعلاء والكراهية والإقصاء والنبذ بين أصحاب الديانات المختلفة، وأن الدين يتم توظيفه سياسيا وعسكريا وبالتالي يؤدي إلى صراعات وحروب تزهق فيها الأرواح باسم الإله، ومن هنا يتنكر هؤلاء للدين الذي يفرق بين البشر ويعتقدون أن الإلحاد هو الدين الإنساني الذي يسمح بالتواصل مع كل البشر دون تفرقة ودون صراعات، لذلك أصبحت كلمة “Non Believer” مصدر فخر واعتزاز لدى كثير من الغربيين والشباب الملحدين لأنها تعني بالنسبة لهم أنهم غير عنصريين وغير متعصبين وأنهم إنسانيين وأحرار.

ويقول علماء النفس بأن الإلحاد هو عقيدة “اللا أب” (Faith of the Fatherless)،  أي أن الملحد لديه مشكلة مع الأب الأرضي (والده أو والدته أو ما يعادلهما من السلطة الأبوية أو الأمومية)، وهو يعمم صراعه مع الأب الأرضي في علاقته بالأب السماوي فيرفضه ويجحده ويجاهره بالعداء.

إن الإحباط وخيبة الأمل من الأب (الأرضي) إما بسبب الغياب أو سوء المعاملة أو الموت يؤدي إلى الكفر بالإله. وقد أوضحت دراسة حالات مشاهير الملحدين في القرون الأربعة الماضية أن فرضية “الأب المعيب “Defective Father “  تمنح تفسيرا للإلحاد الحاد والعميق “Intense Atheism” لدى هؤلاء الملحدين خاصة المفكرين منهم.

وللإلحاد في التحليل النفسي جذور قوية، ففرويد نفسه كان ملحدا، وكان يرى أن الدين أفيون الشعوب وأنه عصاب جماعي أقرب للوسواس القهري!وأنه وهم وصناعة بشرية (قتل بعض البشر في بدايات التاريخ أباهم وشعروا بالذنب فعظموه وخلدوه وقدسوه واتخذوه إلها) ، وأنه ينتمي في نشأته إلى عقدة أوديب.

ولا تخلو دوافع الإلحاد من الجانب الجنسي حيث لوحظ تحرر الملحدين من كل التابوهات ومنها الجنسية والدخول في علاقات لا يحكمها سوى الرضا والقبول والتوافق الشخصي بين الطرفين، وفي اعتقادهم أنهم حرموا أنفسهم من نعمة الجنس سنوات بناء على اعتبارات دينية وهاهم بعد أن ألحدوا تحرروا من تلك القيود وعاشوا كما يريدون ويحبون، وهذا أمر شديد الجاذبية لدى المراهقين والشباب الذين تضغط على أعصابهم احتياجات جنسية يضع المجتمع أمامها عراقيل من العادات والتقاليد تمنع إشباعها لسنوات طويلة.

 الخلع الاجتماعي

ويرى علماء الاجتماع أن الإلحاد هو حالة من الخلع الاجتماعي حيث يمر الإنسان بثلاث مراحل: المرحلة الأولى وهي “الاجتماعية العامة” حيث ينتمي الشخص لعموم الناس وتكون فكرة الدين مقبولة لديهم ولديه، والمرحلة الثانية هي “الاجتماعية الخاصة” وفيها ينتمي الشخص إلى “شلة” أو مجموعة خاصة تقبل أو تشكك أو ترفض الدين، والمرحلة الثالثة هي “الخلع التام” حيث ينكفئ الشخص على ذاته ويتبنى قناعة شخصية ذاتية تماما ليس لها علاقة بالسياق الاجتماعي .

ولوحظت موجات من الإلحاد في العالم العربي إثر تعثرات ثورات الربيع العربي واختطافها أو إجهاضها بواسطة قوى يمينية أو يسارية أو سلطات عسكرية أو نظم قديمة فاسدة في شكل جديد، وقد جعل هذا الشباب يكفرون بقيم الحرية والكرامة الإنسانية وإمكانية تغيير مجتمعاتهم إلى الأفضل، فهم قاموا بالثورات وقدموا شهداء ثم ضاعت جهودهم هباء، ومن هنا كفروا بكل شيء وتمردوا على كل شيء.

ويرى خبراء السياسة أن موجات الإلحاد ليست كلها خيارات فردية تلقائية بريئة وإنما يكمن وراء بعضها تخطيط شبكي تدفعه بعض المنظمات والهيئات السرية والعلنية بهدف تحقيق مكاسب سياسية أو تغييرات في الخريطة الاجتماعية لبعض الدول المستهدفة ويستشهدون على ذلك بوجود روابط منظمة وشبكات عنكبوتية تجمع الملحدين في أماكن كثيرة من العالم، أي أن الموضوع لا يخلو من قوى دفع تآمريه، خاصة مع استخدام شعارات لبعض المجموعات تشبه شعارات الأناركية والماسونية.

ومن المفيد لفهم هؤلاء الشباب تتبع كتاباتهم في مواقعهم على الإنترنت ودراسة حالاتهم، وتكتمل الصورة بدراسة حالات العائدين من تجربة الإلحاد مثل الدكتور مصطفى محمود وغيره حيث يصف الطريق ذهابا إلى الإلحاد وعودة منه.

الإلحاد والاضطرابات النفسية:

هناك بعض حالات الإلحاد تكون مدفوعة باضطرابات نفسية نذكر منها :

أولا: اضطرابات الشخصية مثل:

  • الشخصية الحدية: وهي شخصية متقلبة في مشاعرها وعلاقاتها وإنجازاتها ومعتقداتها، ولهذا نرى صاحب هذه الشخصية يتقلب في معتقداته الدينية فأحيانا تجده متطرفا دينيا وأحيانا أخرى تجده علمانيا أو ملحدا .

  • الشخصية البارانوية: ويتميز صاحبها بالاستعلاء وسوء الظن والشك في الآخرين واحتقارهم واحتقار معتقداتهم، وهو يستعلي على العامة ويرغب في أن يأخذ طريقا خاصا به يتفرد به، ويستعلي على الإيمان ويمكن أن يستعلي حتى على فكرة الإله الرب.

  • الشخصية الهستيرية: وهي شخصية استعراضية تميل إلى المخالفة لجذب الاهتمام ونيل الشهرة، ولذلك فصاحب هذه الشخصية أو صاحبتها يرغب أو ترغب في إعلان الإلحاد والتباهي بذلك ووضع صورهم على صفحات الإنترنت ويرغبان في الدخول في مناقشات وجدال تجعلهم تحت الأضواء.

ثانيا : الأمراض النفسية:

مثل الفصام والاضطراب الوجداني والاضطراب الضلالي واضطرابات التوافق، وهذه الاضطرابات تؤثر في تفكير الشخص ومشاعره وعلاقاته بالناس والحياة وقد تجعله يتوجه في بعض الأحيان إلى اعتناق أفكار مخالفة لعموم الناس. وعلى الجانب الآخر قد تدفع هذه الحالات صاحبها لمزيد من التدين كنوع من الدفاع ضد التفكك أو القلق أو الخوف… يتبع

الهامش:

(1) – تلقيح النخل

______________________________

المصدر: بتصرف عن موقع الموسوعة النفسية: http://www.elazayem.com/new(211).htm

إرسال تعليق

 
Top