يتلاعب الإعلام في بعض الأحيان بعقول المشاهدين فيما يخص قضية الإلحاد
يواجه الإسلام الآن، نزعات شكّية أخذ البعض يجاهر بها ووصلت أحياناً إلى الإلحاد،
وأخذ الإعلام في التعاطي معها بحسن نية أو بسوء طوية. ربما تغذت نزعة الشك
هذه على تلك الفجوة الواضحة بين القيم المثالية التي طالما دعا إليها
الإسلام (كدين)، يفترض كونه مَعيناً لا ينضب للقيم الأخلاقية والروحية،
وبين الوقائع المزرية التي أنتجتها التيارات السياسية التي اختزلته في
(إيديولوجيا سياسية)، وغير ذلك من سلوكيات تعادي الأخلاق الدينية عموماً
والإسلامية خصوصاً، حيث نالت تلك الفجوة من درجة انسجام الناس مع إيمانهم
الروحي، وتصوراتهم عن عقيدتهم التي طالما تمسكوا بها ودافعوا عنها ضد كل
محاولات وصمها بالعنف والإرهاب من قبل الآخرين.
فالأمر المؤكد أن كثيرين من ذوي الوعي
العلمي أو المستوى الثقافي، أو حتى الحساسية الإنسانية الأعلى، لا بد من
أنهم طرحوا على أنفسهم تساؤلات تدور حول العلاقة بين العقيدة الموروثة
والراسخة، وبين الحقيقة الصاعدة من أتون مشاهد العنف الدامية، وكان طبيعياً
أن تنمو شكوك البعض منهم في ما يعتقدون، وأن تزداد شجاعة البعض الآخر منهم
في التعبير عن إلحادهم، في نوع من المواجهة مع الأفكار المؤسسة لهذه
التيارات، حتى أخذ الأمر شكلَ ظاهرة تثير الاهتمام الإعلامي وتحفز الجدل
بين الناس.
وما نود التوقف عنده في هذا السياق يتمثل
في سؤال رئيس: هل أولئك الذين يعرض الإعلام الفضائي رؤاهم الإلحادية،
أغلبهم ملحدون حقاً أم أنهم مدّعون للإلحاد لسبب أو لآخر؟ هذا السؤال ليس
هيناً، وإجابته ليست باليسيرة، وإن كنا سوف نغامر هنا ونجيب بالنفي
مبدئياً، ذاهبين إلى ضرورة التمييز بين نوعين من الإلحاد: أولهما هو
الإلحاد الفلسفي، الذي ولد من الصراع الممتد بطول التاريخ تقريباً، حول
الكيان القدسي الأسمى (الله)، خالق العالم والإنسان. وفي ظله طرحت أسئلة
جوهرية حول معنى الوجود، وأصل الخلق، ومصير الإنسان، وأصل الشر، وجدوى
الخير، ومغزى الحياة، وما بعد الموت… إلخ.
الإلحادالفلسفي
إنها الأسئلة الكبرى التي شغلت تاريخ
الفلسفة، وعبرت عن انشغال حقيقي بالمصير الإنساني، تحريراً لإرادته من فلك
الحتميات التي وضعها الكهنة قيداً على حريته، وراكمها السحرة طبقات ضاغطة
على عقله، وأحالها بعض رجال الفقه واللاهوت وسائل لإلغاء شخصيته.
في سياق هذا النوع من الإلحاد الذي عرفته
الثقافة الأوروبية الحديثة في سيرورة انعتاقها من الفكر التقليدي، خصوصاً
من الفلسفة المدرسية (التومائية) القائمة على العناق بين اللاهوت المسيحي،
والمنطق الأرسطي، تحدى فيورباخ الإيمان المسيحي، كما تحداه فرويد وماركس
ونيتشه ودوركهايم. ففي دراسته «جوهر المسيحية»، اعتبر فرويد أن المسيحية هي
البشرية، وأن اللاهوت هو الإنثروبولوجيا، وأن موضوع الدين، أي الله، مجرد
تعبير عن جوهر الإنسان، انعكاس له وإسقاط عليه، وهكذا لم يعد الدين سوى
أوهام إنسانية.
سيجموند فرويد
أما ماركس فرأى فيه مجرد تنهيدة لمخلوق
خاضع، وأفيوناً لشعوب مقهورة، وأن الحاجة للعزاء الديني، وهي الحاجة نفسها
للوعي الزائف، سوف تستمر ما دامت المجتمعات الطبقية قائمة، والطاغية يتحكم
وحده برقاب الجميع، تحت سلطان الدين.
أما فرويد فادعى مباشرة أن الدين محض
أوهام، تعبر عن رغبات بشرية قوية تتوق إلى الإشباع، وأنه بوصفه «عصاباً
استحواذياً شاملاً»، يقوم على قمع الدوافع الغرائزية وتحويلها روحانياً،
وقد آن الأوان للبشرية لأن «تبلغ سن الرشد»، وتتخلى عن نرجسيتها الطفولية،
وتتصالح مع كل الاستياءات الناجمة عن أشكال الحرمان والتحكم بالغرائز.
أما نيتشه فقد أمات الله صراحة لأجل تحرير
الإنسان، معاكساً مسار التاريخ الفكري. فبينما شهد التاريخ مراراً قتل
الإنسان قرباناً على مذبح الإله، قام نيتشه بقتل الله على مذبح الإنسان
قرباناً لحريته بعد طول جمود وعجز وموت وركود استمر طوال العهد المسيحي.
هكذا أنكر هؤلاء الله، لكنهم أعادوا في
سياق إنكارهم تأمل التاريخ البشري كله، وأنتجوا نظريات عدة كان بعضها
عميقاً في تفسير جوانب النشاط الإنساني سواء النفسية كالأحلام لدى فرويد،
أم الاقتصادية – الاجتماعية لدى ماركس، أو الاجتماعية – الدينية لدى
دوركهايم.
لا نقول هنا إن الإلحاد يمثل الموقف
العقلي (الإيجابي) بالضرورة، الذي أنتج وحده معرفة عميقة، بل إن عقولاً
أكبر، أنتجت من داخل الإيمان نظريات أعمق وأفكاراً أكثر إلهاماً من قبيل
كانط وفلسفته النقدية الباقية حتى اليوم، وغوته بمثاليته الجامعة بين
العقلانية النافذة، والروحانية الشفافة، وكذلك هيغل الذي لم يحل دفاعه عن
معجزات المسيح نفسها، من دون تقديمه لأحد أبرز الإبداعات الفلسفية عبر
التاريخ، وهو مفهوم الجدل المثالي، القائم على صراع الأفكار المتضادة، الذي
أنهى السطوة التاريخية للمنطق الصوري الأرسطي، القائم على الشكلية
والسكون، مكرساً الفكر الحديث. وصولاً إلى ماكس فيبر، عالم الاجتماع الديني
الأشهر، الذي أعاد اكتشاف المسيحية كجذر للرأسمالية الغربية، مسوقاً
لمفهوم جون كالفن عن المسيحي (كزاهد نشيط) يرى في الاستثمار والربح قرينة
على رضا الله وعنايته، خروجاً على فضائل المسيحية التقليدية، التي كانت
تقيس إيمان المسيحي بمدى انصرافه عن الدنيوي إلى الأخروي.
ولكننا نؤكد، في المقابل، خطورة الموقف
الإلحادي، بما يجعل منه مسؤولية كبرى تتحسب لها العقول المسؤولة، حتى تكاد
تفترش الطريق إليه بكل أنواع المعارف، التي تضيء جوانب الظاهرة الإنسانية
المعقدة.
مشكلة الإلحاد السوقي أنه عدائي بقدر ما هو استعلائي
الإلحادالسوقي
أما النوع الثاني فهو (الإلحاد السوقي)،
الذي يفتقر القائلون به إلى العمق والمسؤولية، ويعولون فقط على الاستفزاز
والغرابة، والتنطع في التعاطي مع الحقيقة الإلهية، ناهيك عن السخرية من
رجال الدين المسيحي والفقه الإسلامي، كما تجلى في بعض الحوارات الإعلامية
التي اتسم معظمها بالردح والاستهزاء بإيمان المشاهدين.
يخلو هذا النمط الإلحادي من أي استدلالات
منطقية، إذ يضع أربابه مقدمات صحيحة ولكنهم لا يصبرون عن الوصول بالبرهان
إلى نتائجه الأخيرة المستقيمة. وما يبدو من طبيعة المرحلة العمرية لأغلبهم،
أن التسرع هو سمتهم، وأنهم لم يبذلوا جهداً يذكر في تأمل الموقف الإنساني
برمته، فلا همّ حقيقياً لهم، ولا غايات واضحة لإلحادهم، سوى الاستعلاء على
(جموع المؤمنين)، باعتبارهم ذلك القطيع الكبير الذي يحسن التفرد في مواجهته
بالإلحاد، وكأن الأمر مجرد محاولة للبحث عن هوية ضائعة.
مشكلة هذا النوع من الإلحاد (السوقي) أنه
عدواني بقدر ما هو استعلائي، فالملحد الفلسفي لا يسرع إلى إعلان إلحاده،
ومن ذكرناهم سلفاً لم يسموا أنفسهم ملحدين أصلاً، بل وصفهم بذلك مؤرخو
الثقافة الذين أتوا بعدهم. كما كانوا يشعرون بالمسؤولية عن الإنسان، وضرورة
تخليصه مما اعتبروه (أوهاماً) تعطل العقل، وتقيد الحرية.
أما الملحد السوقي فلا يتورع عن إعلان
إلحاده، قبل أن يتأمل حيثياته، لأن الهدف هنا ليس الإلحاد في ذاته، بل
الإعلان عنه، بهدف تحقيق الشهرة والذيوع كما جرى فعلاً للبعض منهم. ولعل
هذا يذكرنا بمرحلة المراهقة لدى كثير من الناس، وهي مرحلة معروفة بالميل
إلى تأكيد الذات، ولو عبر ممارسات عبثية غالباً ما يندمون عليها بعد
النضوج، ومن ضمنها عادة التدخين التي تبدأ لدى الكثيرين لمجرد تقليد الأب،
تمرداً على سلطته التي يرونها قمعية، وأيضاً على طفولتهم التي غالباً ما
يحنون إليها في مراحل تالية من العمر، يكاد الشيب يقض مضاجعهم خلالها، فهل
يحن أولئك الملحدون (السوقيون) إلى الله، في مراحل نضجهم، بعد أن تزول
أسباب مراهقتهم، وتختفي الأضواء المسلطة على إلحادهم؟
وهنا يمكننا القول إن تلك الظاهرة، لا يجب
أن تثير مخاوف عميقة، لأنها ليست ضخمة، ولا راسخة، بل هامشية وعابرة في
تاريخ الإسلام العظيم. ليست ضخمة لأنها أسيرة فريق محدود من الناس، كانت
لديه سلفاً ميول شكّية ولكن عازته شجاعة الإعلان الصريح عنها حتى وجد
الفرصة المواتية لذلك. فمن المؤكد أن ثمة ملحدين كانوا موجودين في عالمنا
العربي منذ وقت طويل، ازدادت جرأتهم فقط في ظل سوءات بعض الحكومات
الإسلامية، على نحو هيأ لهم إمكان النيل من فكرة الدين نفسها، في ظل هوجة
النقد الواسعة لفكرة الحكم الديني أو لظاهرة الإسلام السياسي، ما يعنى أن
الإسلام، لم يخسر مريدين حقيقيين، بل ربما تخلص من أتباع ظاهريين أو رجال
منافقين.
__________________________________
المصدر: بتصرف يسير عن موقع الحياة http://bit.ly/1zrgZ38
إرسال تعليق