ونحن ننقل شهادة توماس كارليل (1) من كتابه (الأبطال)، ونفهم قيمة النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- في رأي كارليل حين ندرك أن هذا الكتاب كان استعراضا لتاريخ البطولة والأبطال في العالم، وكيف نظر الأقوام إلى صورة البطل، فاستعرض كيف نظروا إلى البطل في صورة إله، ثم في صورة رسول، ثم في صورة شاعر أو قسيس أو فيلسوف.. وهكذا.
لكن اللافت للنظر أنه حين استعرض (صورة البطل الرسول) لم يختر غير محمد -صلى الله عليه وسلم.
ولقد كانت محاضرته عن محمد - صلى الله عليه وسلم - كما يرى المستشرق الإنجليزي الكبير مونتجمري وات- نقطة تاريخية فارقة في معرفة الغرب الصورة الحقيقية.
(الأبطال= Heroes and Hero Worship and the Heroic in History):
العار
"لقد أصبح من أكبر العار على أي فرد متمدين من أبناء هذا العصر؛ أن يصغي إلى ما يظن من أن دين الإسلام كذب، وأن محمدا - صلى الله عليه وسلم - خداع مزور، وآن لنا أن نحارب ما يشاع من مثل هذه الأقوال السخيفة المخجلة؛ فإن الرسالة التي أداها ذلك الرسول ما زالت السراج المنير مدة اثني عشر قرنا، لنحو مائتي مليون من الناس أمثالنا، خلقهم الله الذي خلقنا (2)، أفكان أحدكم يظن أن هذه الرسالة التي عاش بها ومات عليها الملايين الفائقة الحصر والإحصاء كذبة وخدعة؟، أما أنا فلا أستطيع أن أرى هذا الرأي أبدا، ولو أن الكذب والغش يروجان عند خلق الله هذا الرواج، ويصادفان منهم مثل ذلك التصديق والقبول، فما الناس إلا بله أو مجانين، وما الحياة إلا سخف وعبث وأضلولة، كان الأولى ألا تخلق" (3).
كذب وزور وباطل
"ما أسوأ مثل هذا الزعم، وما أضعف أهله وأحقهم بالرثاء والمرحمة... ولعل العالم لم ير قط رأيا أكفر من هذا ولا ألأم! وهل رأيتم معشر الإخوان أن رجلا كاذبا يستطيع أن يوجد دينا عجبا؟! والله! إن الرجل الكاذب لا يقدر أن يبني بيتا من الطوب، فهو إذا لم يكن عليما بخصائص الجير والجص والتراب وما شاكل ذلك، نعم.. وليس جديرا أن يبقى على دعائمه اثني عشر قرنا (4) يسكنه مائتا مليون من الأنفس... كذب والله ما يذيعه أولئك الكفار؛ وإن زخرفوه حتى خيلوه حقا، وزور وباطل، وإن زينوه حتى أوهموه صدقا، ومحنة والله ومصاب أن ينخدع الناس شعوبا وأمما بهذه الأباطيل" (5).
قوة الدين
"لقد قيل كثير في شأن نشر محمد - صلى الله عليه وسلم - دينه بالسيف، فإذا جعل الناس ذلك دليلا على كذبه - صلى الله عليه وسلم، فذلك أشد ما أخطئوا وجاروا، فهم يقولون: ما كان الدين لينتشر لولا السيف. ولكن ما هو الذي أوجد السيف؟ هو قوة ذلك الدين، وأنه حق، والرأي الجديد أول ما ينشأ يكون في رأس رجل واحد، فالذي يعتقده هو فرد -فرد ضد العالم أجمع- فإذا تناول هذا الفرد سيفا وقام في وجه الدنيا فقلما والله يضيع! وأرى -على العموم- أن الحق ينشر نفسه بأية طريقة حسبما تقتضيه الحال، أو لم تروا أن لنصرانية كانت لا تأنف أن تستخدم السيف أحيانا، وحسبكم ما فعل شارلمان بقبائل السكسون! وأنا لا أحفل إذا كان انتشار الحق بالسيف أم باللسان، أو بأية آلة أخرى، فلندع الحقائق تنشر سلطانها بالخطابة أو بالصحافة أو بالنار، لندعها تكافح وتجاهد بأيديها وأرجلها وأظافرها، فإنها لن تهزم إلا ما كان يستحق أن يهزم، وليس في طاقتها قط أن تقضي على ما هو خير منها، بل ما هو أحط وأدنى" (6).
ذهب الحطب والنار لم تذهب
"لقد جاء الإسلام على تلك الملل الكاذبة والنحل الباطلة فابتلعها، وحق له أن يبتلعها؛ لأنه حقيقة خارجة من قلب الطبيعة، وما كاد يظهر الإسلام حتى احترقت فيه وثنيات العرب، وجدليات النصرانية، وكل ما لم يكن بحق، فإنها حطب ميت أكلته نار الإسلام، ذهب والنار لم تذهب" (7).
ما هو إلا صوت الإنسانية
"في الإسلام خلة أراها من أشرف الخلال وأجلها، وهي التسوية بين الناس، وهذا يدل على أصدق النظر وأصوب الرأي، فنفس المؤمن راجحة بجميع دول الأرض، والناس في الإسلام سواء، والإسلام لا يكتفي بجعل الصدقة سنة محبوبة بل يجعلها فرضا حتما على كل مسلم، وقاعدة من قواعد الإسلام، ثم يقدرها بالنسبة إلى ثروة الرجل، فتكون جزءا من أربعين من الثروة، تعطى إلى الفقراء والمساكين والمنكوبين، جميل والله كل هذا، وما هو إلا صوت الإنسانية، صوت الرحمة والإخاء والمساواة، يصيح من فؤاد ذلك الرجل محمد - صلى الله عليه وسلم - ابن القفار والصحراء" (8).
النظر الثاقب
"ولكني شديد الإعجاب بالنظر الذي ينفذ إلى أسرار الأمور، فهذا أعظم ما يلذني ويعجبني، وهو ما أجده في القرآن، وذلك -كما قلت- فضل الله يؤتيه من يشاء" (9).
شرارة السماء
"كأنما وقعت من السماء شرارة على تلك الرمال، التي كان لا يبصر فيها فضل ولا يرجى فيها خير، فإذا هي بارود سريع الانفجار، وما هي برمل ميت، وإذا هي قد تأججت واشتعلت، واتصلت نارها بين غرناطة ودلهي، ولطالما قلت: إن الرجل العظيم كالشهب من السماء وسائر الناس في انتظاره كالحطب، فما هو إلا أن يسقط حتى يتأججوا ويلتهبوا" (10).
المتوقد العظيم.. المملوء رحمة -صلى الله عليه وسلم
"ويزعم المتعصبون من النصارى والملحدون أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يريد بقيامه إلا الشهرة الشخصية، ومفاخر الجاه والسلطان، كلا وايم الله! لقد كان في فؤاد ذلك الرجل الكبير ابن القفار والفلوات، المتوقد المقلتين، العظيم النفس، المملوء رحمة وخيرا وحنانا وبرا وحكمة وحجى وإربة ونهى- أفكار غير الطمع الدنيوي، ونوايا خلاف طلب السلطة والجاه" (11).
أشرف المحامد وأكرم الخصال
"أرى في محمد ( - صلى الله عليه وسلم - ) آيات على أشرف المحامد وأكرم الخصال، وأتبين فيه عقلا راجحا، وفؤادا صادقا، ورجلا قويا عبقريا، لو شاء لكان شاعرا فحلا، أو فارسا بطلا، أو ملكا جليلا، أو أي صنف من أصناف البطل" (12).
مضاء العزم
"كان رجلا ماضي العزم، لا يؤخر عمل اليوم إلى غد، وطالما كان يذكر يوم تبوك إذ أبى رجاله السير إلى موطن القتال، واحتجوا بأنه أوان الحصيد وبالحر، فقال لهم: الحصيد؟ إنه لا يلبث إلا يوما. فبماذا تتزودون للآخرة؟ وأما الحر؟ نعم، إنه حر، ولكن جهنم أشد حرا" (13).
عبقرية التوازن
"ولم يك متكبرا، ولكنه لم يكن ذليلا ضرعا... يخاطب بقوله الحر المبين قياصرة الروم وأكاسرة العجم، يرشدهم إلى ما يجب عليهم لهذه الحياة وللحياة الآخرة، وكان يعرف لنفسه قدرها" (14).
لهذا أحبه
"وإني لأحب محمدا - صلى الله عليه وسلم - لبراءة طبعه من الرياء والتصنع، ولقد كان ابن القفار هذا رجلا مستقل الرأي، لا يعول إلا على نفسه، لا يدعي ما ليس فيه" (15).
الإخلاص الشديد والجد المر
"وما كان محمد - صلى الله عليه وسلم - بعابث قط، ولا شاب شيئا من قوله شائبة لعب ولهو، بل كان الأمر عنده أمر خسران وفلاح، ومسألة فناء وبقاء، ولم يك منه إزاءها إلا الإخلاص الشديد والجد المر، فأما التلاعب بالأقوال والقضايا المنطقية، والعبث بالحقائق فما كان من شأنه قط" (16).
حقيقة تدمغ كل باطل
"وعلى ذلك فلسنا نعد محمدا - صلى الله عليه وسلم - هذا قط رجلا كاذبا متمنعا، يتذرع بالحيل والوسائل إلى بغية، أو يطمح إلى درجة ملك أو سلطان، أو غير ذلك من الحقائق، وما الرسالة التي أداها إلا حق صراح، وما كلمته إلا صوت صادق، صادر من العالم المجهول، كلا، ما محمد ( - صلى الله عليه وسلم - ) بالكاذب ولا الملفق، وإنما هو قطعة من الحياة قد تفطر عنها قلب الطبيعة، فإذا هي شهاب قد أضاء العالم أجمع، ذلك أمر الله، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم، وهذه حقيقة تدمغ كل باطل وتدحض حجة القوم الكافرين" (17).
من صميم قلب الطبيعة
"لقد كان منفردا بنفسه العظيمة وبحقائق الأمور والكائنات، لقد كان سر الوجود يسطع لعينيه بأهواله ومخاوفه ومباهره، ولم يكن هنالك من الأباطيل ما يحجب ذلك عنه، فكأنه لسان حال ذلك السر يناجيه: هأنذا. فمثل هذا الإخلاص لا يخلو من معنى إلهي مقدس، وما كلمة مثل هذا الرجل إلا صوت خارج من صميم قلب الطبيعة، فإذا تكلم فكل الآذان برغمها صاغية، وكل القلوب واعية، وكل كلام ما عدا ذلك هباء وكل قول جفاء.." (18).
__________________1- توماس كارليل (Thomas Carlyle): (1795- 1881م): كاتب إسكتلندي، ناقد ساخر، ومؤرخ، من مؤلفاته: الأبطال، (وقد عقد فيه فصلاً رائعًا عن النبي فنقله إلى العربية الأستاذ على أدهم)، والثورة الفرنسية. انظر: نجيب العقيقي: المستشرقون 2/53.
2- يواجه هنا في تلك الجمل الاعتراضية التعصب والتكبر الغربي تجاه الشعوب الشرقية.
3- توماس كارليل: الأبطال، ص53.
4- هذا إلى زمان توماس كارليل.
5- توماس كارليل: الأبطال، ص53.
6- توماس كارليل: الأبطال، ص71.
7- السابق، ص73، 74.
8- السابق، ص80.
9- السابق، ص75.
10- توماس كارليل: الأبطال، ص83.
11- السابق، ص64.
12- توماس كارليل: الأبطال، ص76.
13- السابق، ص79.
14- السابق، ص79.
15- السابق، ص79.
16- السابق، ص80.
17- توماس كارليل: الأبطال، ص55.
18- السابق، ص64.
إرسال تعليق
Click to see the code!
To insert emoticon you must added at least one space before the code.