لا طبقات في هذا الدين، ولكن أخوة عامة،
وإذا كانت خديجة أول من آمن وهي من البيوتات الرفيعة، فإن أول من استُشهد
“سُميَّة” أم عمار وهي من البيوتات المستضعفة التي لا يُؤبه لها…
د. محمد الغزالي
كانت أم المؤمنين “خديجة” سيدة ثاقبة
البصيرة، خبيرة بأغوار الرجال، تعرف طبائعهم فلا يخفى عليها معدن نفيس، ولا
يخدعها طلاء مزور! ولعل اشتغالها بالتجارة كوّن لديها هذه الملكة فالتجار
من أعرف الناس بطوايا النفوس!
وفي ميدان عملها التجاري عرفت خديجة محمدا
–عليه الصلاة والسلام- وخطبته لنفسها، ولم يكن محمد مجهولا لدى العرب،
كانت خلائقه الزاكية موضع إجماع وحب، وكثيرا ما تكون زكاة الباطن كصباحة
الوجه أساسا لتقدير عام أو عنوانا لا يختلف فيه اثنان..
لكن خديجة بعد زواجها ازدادت خبرة برجلها
وأدركت أي أفق من الكمال قد بلغه! فلما أخبرها بما عرض له في غار حراء قاست
المستقبل على الماضي، وأقسمت أن مثله لا يضيع، وأنه يستحيل أن يخذل الله
رجلا قد أفاء عليه خلال النبل والشرف كلها، فقالت: (والله لا يخزيك الله
أبدا، إنك لتصدق الحديث وتصل الرحم وتحمل الكلّ وتكسب المعدوم وتقري الضيف
وتعين على نوائب الحق وتؤدي الأمانة).
إن الله لا يخزي في الدنيا ولا في الأخرى صاحب هذه السيرة! ذلك إنسان مُحصن من عدوان الشيطان “إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ” (الحجر: 42).
بين خديجة وسُميَّة
وخديجة من سروات قريش، أي من قمة المجتمع
العربي، وهي أول من آمن من النساء، لكن الإسلام دين عام ينتظم البشر
أكابرهم وأصاغرهم، فإذا كنت أفئدة بعض الأغنياء تهوي إليه، فإن جماهير من
الفقراء تدخل فيه وتستبشر به، السادة والعبيد جميعا لهم مكان واحد فيه،
فأبو بكر المرموق يعتنقه، وبلال المملوك يعتنقه، ثم يجيء عُمَر العظيم
فيقول: أبو بكر سيدنا وأعتق سيدنا!!
لا طبقات في هذا الدين، ولكن أخوة عامة،
وإذا كانت خديجة أول من آمن وهي من البيوتات الرفيعة، فإن أول من استُشهد
“سُميَّة” أم عمار وهي من البيوتات المستضعفة التي لا يؤبه لها.
واختبار الله لعباده فنون، إنه يختبر
بالشهرة والخمول وبالثروة والعدم وبالصحة والمرض، والمهم هو الآخرة، عن
عثمان بن عفان _وهو من قمة قريش- قال بينما أنا أمشي مع رسول الله بالبطحاء
إذا بعمار وأبيه وأمه يعذبون في الشمس ليرتدوا عن الإسلام!
قال أبو عمار: يا رسول الله، الدهر هكذا؟ فقال: (صبرا آل ياسر، اللهم اغفر لآل ياسر، وقد فعلت) وفي رواية أخرى (صبرا آل ياسر فإن موعدكم الجنة) حسنه صححه الألباني.
وجاء قادة الجاهلية ليُسروا بمنظر
التعذيب، وكان بينهم أبو جهل الذي غاظه تجلد المرأة وصبرها على ما ينزل
بها، فطعنها بحربته في أسفل بطنها طعنة مزقت رحمها وأودت بحياتها فكانت أول
شهيدة في الإسلام.
وطال المدى على توقع العقاب الإلهي حتى
كانت غزوة بدر، وخرج الفرعون الصغير ليقاتل المؤمنين وهناك وكل القدر اثنين
من فتيان الإسلام ظلا يناوشانه بسيفيهما حتى صُرع!
كم أشعر بالإعجاب لأول امرأة أسلمت، ولأول امرأة استشهدت.
_______________________________________________
المصدر: بتصرف يسير عن كتاب قضايا المرأة، محمد الغزالي، دار الشروق، ط8، 2005، ص:89
إرسال تعليق