شنّ
أعداء الإسلام حملات واسعة تهدف إلى التشكيك في الشريعة الإسلامية ، وذلك
من خلال الطعن في شخص النبي صلى الله عليه وسلّم ، وتناول سيرته بالثلب
والتجريح تارة ، والكذب والتدليس تارة أخرى .
واليوم
نجد أنفسنا أمام لون آخر من أساليبهم الملتوية في تشويه هذه السيرة العطرة
، وذلك عن طريق التشكيك في بعض ما جاء في شريعة الإسلام من ممارسات
وعبادات ، وتصويرها على غير حقيقتها .
وفي
هذا الإطار ، أثارت كتابات المستشرقين ومن سار على منوالهم شبهات حول
تقبيل الحجر الأسود ، واعتبروا ذلك نوعاً من الطقوس الوثنية التي سرت إلى
الدعوة المحمدية تأثراً منها بالبيئة التي نبعت فيها ، وقد يفسّر بعضهم ذلك
بأنه نوعٌ من المجاملة لقوم النبي صلى الله عليه وسلم في أسلوب العبادة
السائد بينهم .
ولن
نتعرّض لتفسيرهم الأخير هذا لوضوح منابذة رسول الله صلى الله عليه وسلم
للشرك والمشركين منذ اللحظة الأولى التي أعلن فيها دعوته ، وسنقتصر على
بيان تلبيسهم فيما يتعلق بتعظيم المسلمين للحجر الأسود ، وإظهار وجه
الحقيقة في ذلك .
وإذا كان هؤلاء المستشرقون يعدّون تقبيل الحجر الأسود عبادة له من دون الله ، فلابد إذاً أن نبدأ ببيان حقيقة العبادة وماهيّتها .
إن
من يعبد شيئا مهما كانت طبيعته فإنه يعتقد أن له سلطة غيبية ينعكس تأثيرها
على الواقع ، وبالتالي فإن العابد يتقرّب إلى معبوده رجاء للنفع أو دفعاً
للضرّ ، وهو في الوقت ذاته يعتقد أن التقصير في حق هذا المعبود أو ترك
عبادته يترتّب عليه حصول الضرر ووقوعه كنوع من العقاب ، ومثل هذا مشاهدٌ
حتى في واقع الناس اليوم من أتباع الديانات الوثنية المنتشرة في أرجاء
الأرض ، إذ يلاحظ في أتباع تلك الديانات خضوعاً لمعبوداتهم رغبةً في جلب
المنافع المختلفة ، أو دفع المضارّ من القحط والجفاف ونحوه ، مع تعلّق
قلوبهم بهذا المعبود خشية منه ورهبة من سلطانه .
وهذه
السلطة الغيبية قد تكون في نظرهم سلطة ذاتية ، بمعنى أن العابد يرى
استقلال معبوده بالنفع والضرّ ، وهذا كالذين يعبدون الشمس والكواكب
لاعتقادهم بتأثيرها على نواميس الكون وتسييرها للخلائق ، أو أن تكون السلطة
غير ذاتية بأن يعتقد أن معبوده يشكّل واسطة بينه وبين قوّة علوية لها
قدرة ذاتية مستقلة في النفع والضرّ ، فيؤدي ذلك إلى عبادته رجاء شفاعته عند
من يقدر على النفع والضرّ ، كما هو الحال مع كفار قريش الذين كانوا
يعتقدون أن الأصنام والأوثان التي يعبدونها تقربهم إلى الله جلّ وعلا ،
وتشفع لهم عنده ، يقول الله عزوجلّ مبينا ذلك : { والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى إن الله } ( الزمر : 3 ) ، وفي موضع آخر : { ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله } ( يونس : 18 ) .
وبناء
على ما سبق ، فإن المسلمين لم يعبدوا الحجر الأسود ، لأنهم لا يرون أن
أحداً يملك الضرّ والنفع غير الله تعالى ، فهم ينفون وجود أية سلطة ذاتية
في المخلوقات مهما كانت ، كما أنهم يرون أن علاقة المخلوق بالخالق علاقة
مباشرة ليس فيها وسيط ، وأن العباد لا يحتاجون إلى شفيعٌ يقصدونه بالتقرّب
دون الله عزوجل ، بل إنهم يعدّون ذلك من الشرك الأكبر المخرج من ملة
الإسلام ، لأنهم يرون أن العبادات لا يجوز صرفها لأي مخلوق ، سواء أكان
ملكاً مقرّباً أم نبيّاً مرسلاً ، فضلاً عن كونه حجراً لا يضرّ ولا ينفع .
ويقرّر ذلك الصحابيّ الجليل عمر بن الخطاب
في مقولته الشهيرة : " إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ولولا أني رأيت
النبي صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك " ، فقد أراد أن يبيّن للناس أن
هذا الفعل هو محض اتباع للنبي صلى الله عليه وسلم ، وليس لأن الحجر ينفع أو
يضرّ ، وعليه فإنه لا قدسية لأحجار الكعبة بذاتها ، وإنما اكتسب الحجر
الأسود هذه المزية لأمر الله تعالى بتقبيله ، ولو لم يرد ذلك الأمر لم يكن
لأحد أن يقوم بتقديسه أو تقبيله .
ثم
إن رحى العبادة تدور على قضيّتين أساسيّتين : تمام المحبة مع غاية الذلّ
والخضوع ، فمن أحبّ شيئاً ولم يخضع له فليس بعابد له ، ومن خضع لشيء دون أن
يحبّه فهو كذلك ليس بعابد له ، ومعلوم أن تقبيل الحجر الأسود هو فعلٌ
مجردٌ من الخضوع والذلّ لذلك الحجر .
يضاف إلى ما سبق ، أن المسلم يعتقد فضيلة خاصة في الركن اليماني كما يعتقد فضيلة الحجر الأسود ، فقد ورد في مسند الإمام أحمد عن عبدالله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إن مسح الركن اليماني والركن الأسود يحط الخطايا حطاً ) ، ومع ذلك لا يرى المسلم مشروعيّة تقبيل الركن اليماني ، وإن كان يفعله بعض جهّال المسلمين.
ومن
المناسب أن نقول : إن من يعبد شيئا فلا شكّ أنه يرى في معبوده أنه أعلى
منه وأفضل منه ؛ لأن العابد لا يعبد من يرى أنه مثله أو أدنى منه منزلةً
وقدراً ، ونحن نعلم أن حرمة المؤمن أعظم من حرمة الكعبة ، بل أعظم من حرمة
الدنيا بأسرها ، كما جاء في الحديث الذي رواه أصحاب السنن عدا أبي داود عن عبدالله بن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لزوال الدنيا أهون عند الله من قتل رجل مسلم ) ، وجاء عن عبدالله بن عمر
رضي الله عنهما أنه قال في الكعبة : " ما أعظمك وأعظم حرمتك والمؤمن أعظم
حرمة عند الله منك ) ، فما سبق يبيّن لنا نظرة الشرع للمسلم في كونه أعظم
حرمةً من الكعبة بما فيها الحجر الأسود ، فكيف يصحّ أن يقال إن المسلمين
يعبدون هذا الحجر ؟!!.
ولنقف
قليلاً لنتدبّر ، ألم يكن العرب في جاهليّتهم يتخذون العديد من الآلهة من
مختلف الأشياء ، وهم مع ذلك لم يتخذوا الحجر الأسود إلها من دون الله ،
ولكنهم جعلوا له حرمة ومكانة باعتباره من البقايا الموروثة للكعبة التي
بناها إبراهيم و إسماعيل عليهما السلام ، فإذا كان هذا حال العرب في جاهليّتهم بمثل هذا الوضوح ، فأين عقول المستشرقين عندما نسبوا ذلك إلى المسلمين ؟! .
وفيما تقدّم كفاية لبيان ضحالة مثل هذه الأفكار ، والله الموفّق .
إرسال تعليق