0

ساعة الفتح.. لحظة بزوغ فجر الإيمان..

لحظة قد تحين بعد سنوات وسنوات من الانتظار

المثابرة والدأب والإخلاص هي مقدمات ومسوغات الوصول إليها.. بعد فضل الله..

بطل قصتنا سار في طريق البحث عن الحق حتى ما بعد الأربعين من عمره.. حياته قبل ذلك مسخرة للبحث عن الله..

لذا فقد أثابه الله.. منحه الجائزة.. هداه إلى الإسلام.. بل أصبح من أهم الدعاة إليه والمدافعين عنه..

ولد بطل قصتنا في إحدى ضواحي باريس لأبوين نصرانيين متزمتين.. نشأ على المذهب الكاثوليكي.. شغف بالرسم والشعر ودراسة اللاهوت فجمع بين ثلاثية الفكر والفن والدين.. شجعه والداه على قراءة الأناجيل ودراستها ليصبح مثلهما نصرانيًّا متعصبًا بيد أن الأناجيل قادته إلى التحول من النصرانية إلى الإسلام!! إنه الفنان والمفكر والمستشرق الفرنسي ألفونس إتيان دانيه الذي ندعوكم للتعرف إلى قصة إسلامه.

في الثامن عشر من عمره التحق ألفونس بإحدى مدارس الفنون والرسم الفرنسية في باريس الأمر الذي أدى إلى تنمية شخصيته الذاتية، والارتقاء بقدراته العقلية، بينما أسهم حبه للشعر في إكسابه رهافة الحس ورقة المشاعر.. كان كاتبًا ينفذ قلمه إلى أعماق النفس البشرية، وكان تشكيليًّا يلتمس حياة الناس البسطاء، ويصور همومهم، فتجرد قلمه كما تجردت ريشته من ملونات الاستشراق التي كانت واضحةً في أعمال غيره من المستشرقين.

هذه التغييرات التي حدثت لكيميائية نفسه جعلته يشك في صحة ما تتحدث عنه الأناجيل فيما يتعلق بالكثير من المسائل اللاهوتية، إذ رأى فيها تناقضات كثيرة، لم يجد لها عند القساوسة تفسيرًا يحترم العقل أو تبريرًا يتسق مع المنطق، ما دفعه إلى خوض غمار رحلة طويلة من البحث والتقصي عن الحقيقة، بدأها عندما بلغ الرابعة والثلاثين من عمره.

ما أن بلغت سنه الأربعين حتى أصبح بطل قصتنا علمًا على رأسه نار.. لقد تحققت له شهرة واسعة كفنان تشكيلي صاحب أعمال مميزة وكشاعر متفرد صاحب حس مرهف.. أصدر حينذاك ثلاثة دواوين من الشعر ومجموعة لوحات شديدة التميز أشهرها اللوحة التي حملت اسم "رمضان في الجزائر".. حتى تلك اللحظة ظل ألفونس على نصرانيته برغم الشكوك التي كانت تساوره حولها كدين سماوي يحترم العقل والعلم.

بدأ بطل قصتنا رحلة طويلة من الشك إلى اليقين استغرقت زهاء ستة عشر عامًا من التفكير والبحث والتقصّي.. عقب مرور 9 سنوات من بداية رحلته المصيرية سافر ألفونس إلى الجزائر حيث اختلط هناك بالمسلمين.. شغلته آنذاك كثيرًا وحيرته مقولات الأناجيل التي لم يستوعبها عقله المتفتح مثل مقولتهم بأن لله ثلاثة أقانيم (الأب والابن والروح القدس)، كما أنه لم يستسغ فكرة "الصلب"!! كانت حيرته تزداد كلما اطلع على الأناجيل، بل زادت من شكوكه حقيقة أن الأناجيل الأربعة قد اعتمدت من بين عشرات الأناجيل التي لا يعرف عنها بسطاء النصرانية شيئًا، والتي يناقض بعضها بعضًا.. بعد تفكير عميق وبحث مجهد توصل إلى قناعة تامة مفادها أن الأناجيل الموجودة حاليًّا ليست هي التي أوحى بها الله تعالى إلى نبيه عيسى –عليه السلام- وأنها اعتمدت على نسخ مكتوبة باللغة اليونانية القديمة وهي لغة تختلف عن لغة المسيح –عليه السلام-، الأمر الذي يعني أن آخرين ليسوا من حواريي المسيح –عليه السلام- هم الذين كتبوا هذه الأناجيل وحرّفوها بعد أن طمسوا النسخ الأصلية لإنجيل المسيح.

عند مقارنته لتناقضات الأناجيل المحرفة بما يتمتع به القرآن الكريم من صدق اقتنع ألفونس بأن القرآن لا يمكن له أن يكون كلام بشر، وإنما هو كلام الله تعالى خالق الكون والبشر وخالق كل شيء.. كما لمس ألفونس في القرآن الكريم الثبات في روايته فضلًا عن المبادئ والقيم النبيلة التي تفتقر إليها الأناجيل وغيرها من الكتب التي تقصها بعض الشعوب.. أكثر من هذا انبهر ألفونس بعظمة الإسلام الذي حرر الإنسان وجعل علاقته بربه علاقة مباشرة لا مكان فيها لكاهن أو قسيس أو بابا يبتزه بما أطلقوا عليه افتراءً "كرسي الاعتراف" أو "صكوك الغفران".

وفي إطار مقارنته القرآن الكريم بالأناجيل المحرفة وبقية الكتب شدّه ما رآه في آياته من دعوة إلى المساواة بين البشر، وما وجده فيه من تشجيع على طلب العلم والحث عليه، وما لمسه في أحكامه من عدالة تجعل منه منهجًا قويًّا أمينًا صالحًا لكل زمان ومكان، بالإضافة إلى أحكامه التي وجد فيها الحلول الناجعة لمشاكل كل الأمم في أي مكان عاشت وفي أي زمان سادت حضارتها.. تأمل ألفونس كذلك سيرة الرسول –صلى الله عليه وسلّم- من مصادر موضوعية لا تعرف الزيف والمكابرة فأعجب بها أيما إعجاب وشعر بمدى التضليل الذي أصابه فيما مضى بسبب افتراءات المستشرقين وأباطيل القساوسة وادعاءات المعادين للإسلام والملحدين بالله تعالى..

في السابق كان يقرأ صورًا متباينة لسيرة الرسول –صلى الله عليه وسلّم- تختلف كل منها عن نظيرتها بحسب اختلاف جنسية كاتبها وإن كانت تتفق جميعها في تشويه هذه السيرة العطرة التي لم يكتشفها على حقيقتها إلا بعد أن اطلع عليها من مصادرها الحقيقية الأصيلة الأمينة.. وما أدهشه في هذا الجانب حقيقة أن المسلمين في كل الأقطار الإسلامية يتفقون على صورة عظيمة واحدة لسيرة نبيهم –صلى الله عليه وسلّم- لا يغير فيها اختلاف البلدان واللغات والأجناس وهي سيرة اعترف بها لاحقًا غربيون غير مكابرين في شهادات غير مجروحة.

المقارنات السابقة بين الإسلام والنصرانية من جهة وبين السيرة المزيفة للرسول –صلى الله عليه وسلّم- التي غرسها في ذهنه أعداؤه والصورة الحقيقية التي تعلمها من المسلمين من جهة أخرى، كل هذه المقارنات دفعت ألفونس إلى إشهار إسلامه وتغيير اسمه إلى "ناصر الدين".

الصورة المزيفة التي رسمتها الكنيسة ونشرها المستشرقون في أذهان غير المسلمين عن الإسلام ورسولهم الكريم لم يقتصر تأثيرها فقط في دفع "ناصر الدين" إلى اعتناق الإسلام وإنما دفعته عقب إشهاره لإسلامه إلى الدفاع عن الإسلام وتقديمه في صورته الحقيقية للآخرين.. إجادته للغة العربية ساعدته على الاطلاع على سيرة السلف الصالح من المسلمين وعلومهم، الأمر الذي مكّنه من أن يثري المكتبة الانسانية بمجموعة من المؤلفات والأبحاث القيمة التي تتناول الإسلام والمسلمين، وتوضح أفضال هذه الشريعة الخالدة على البشرية جمعاء من خلال إبراز ما قدمته لها من خدمات جليلة.

من أبرز كتب ناصر الدين كتاب "الشرق كما يراه الغرب"، وكتاب "تاريخ حياة سيدنا محمد –صلى الله عليه وسلّم-" الذي كتبه باللغة الفرنسية بمشاركة صديقه الجزائري "سليمان بن إبراهيم الجزائري"، فضلًا عن دراسة قيّمة أعدّها بعنوان "أشعة خاصة بنور الإسلام"، سلّط عبرها الضوء على الكثير من المعاني الروحية التي دعا إليها الإسلام وما زال يدعو لها.

ويبقى أن نقول هنا إن كتب "ناصر صلاح الدين" التي سبق ذكرها تتميز عن غيرها من الكتب بدحضها للأباطيل والاتهامات المغرضة التي يروج لها أعداء الإسلام وقد أفادته في هذا الجانب دراساته "اللاهوتية" السابقة إذ مكّنته من كشف زيف الأناجيل المحرفة، بل تحدى في تلك الكتب علماء النصرانية من قساوسة ورهبان ومستشرقين أن يأتوا برسالة شاملة شمولية الدين الإسلامي، كما قارن في تلك الكتب بين مفهوم العبادات في الديانتين الإسلامية والمسيحية مؤكدًا حقيقة أن الصلاة في الإسلام صلاة صافية بالطمأنينة والسكينة والخشوع، وتخلو من الأمور الشائنة التي توجد في صلاة النصارى التي تغص بالصور الرخيصة والتماثيل الجامدة وتعج بالترانيم الجوفاء والموسيقى الصاخبة.

من جهة ثانية أشار ناصر الدين في كتبه إلى حقيقة أن الإسلام حرر البشرية من وساطات الكهنة واستغلالهم المريع، إذ يجعل العلاقة بين العبد وربه علاقة مباشرة، الأمر الذي دفع القساوسة إلى محاربة الدين الإسلامي في استماتة لأنه يهدد مصالحهم الدنيوية تلك المصالح الضيقة التي تستند إلى جهل بني جلدتهم والناتج من التحريف في أناجيلهم..

لكن وعلى الرغم من كل صنوف الأذى التي لقيها ناصر الدين من القساوسة والمستشرقين استمر يدافع عن الإسلام في شجاعة تستند إلى إيمان صادق لا يتزعزع وعزيمة مؤمن قوية لا تتضعضع إذ لم يوقفه عن أداء رسالته تهديد أو مرض حتى رجعت نفسه المطمئنة إلى ربها راضية مرضية في شهر ديسمبر عام 1929، فصلّى عليه كثير من الشخصيات الإسلامية، وممثّلون عن الحكومة الفرنسية في مسجد باريس الكبير، ثم تولت السلطات الفرنسية نقل جثمانه -حسب وصيته- إلى الجزائر، ودفن في مقبرة "الدشرة القبلية" في بوسعادة في ضريحه الذي بناه لنفسه.

فسبحان القادر على تحويل إنسان منعم في دين إلى إنسان مضطهد لدخوله دينًا آخر.. وبرغم ذلك يجاهد ويقاوم في سبيل هذا الدين المضطهد بسببه!!

تُرى.. ما الذي يجعل إنسانًا يقوم بذلك ويتحمل هذا العذاب؟

أليس لأنه تأكد من أنه الحق؟! أليس لأنه تأكد من أنه من عند الله؟!

أليس لأنه علم يقينًا أن البشر جميعًا لن ينفعوه لو كفر وكذب بهذا الدين الحق؟!

ببساطة.. هو دين الله.. وكفى!!

اسألوا الله الهداية.. فبالله نهتدي إلى الله.

----------------

المصادر:

الألفي، أسامة (2005)؛ لماذا أسلموا؟ القاهرة: أطلس للنشر والإنتاج الإعلامي.

محمود، عبد الرحمن (2005)؛ رحلة إيمانية مع رجال ونساء أسلموا؛ المكتبة الإسلامية الشاملة.

الموسوعة الحرة (ناصر الدين دينيه): https://ar.wikipedia.org/wiki

إرسال تعليق

 
Top