سؤال يدور عليه تاريخ البشر.. من لدن آدم حتى اليوم.. بل إلى قيام الساعة!!..
حضارة نبغت ونشرت العلم وأنارت الحياة في شتى المجالات.. ماذا يضير بعضهم في ذلك فيجتهدوا غاية الاجتهاد في طمس هذه الحقيقة؟!!
دين عظيم يأخذ بيد الإنسان إلى الخير والحق والجمال.. ماذا يضير بعضهم فيشوّهوه وينشروا كراهية نبيه وكتابه المقدس بين البشر؟!!
لماذا يحرص بعضنا على الكذب ونشر الشر؟!!
الحقيقة الجليّة التي يحفظها التاريخ في أرشيفه بأمانة
ويعتِّم عليها الغربيون في إعلامهم بشدة كشف عنها فيلسوف غربي فكانت سببًا
في إسلام بطل قصتنا هذه.. تتمثل هذه الحقيقة في أن الحضارة الغربية قامت
على أكتاف الحضارة الإسلامية والتي لولاها لظلت أوروبا حتى الآن تغط في
سبات عميق.. إنه الفيلسوف بوخاردت السويسري الجنسية الألماني الأصل،
الإيطالي المولد.
ولد بطل قصتنا في عام 1908م بمدينة فلورنسا الإيطالية لأبوين
نصرانيين أطلقا عليه اسم تيتوس بوخاردت، وحينما شب عن الطوق وجد نفسه
منجذبًا إلى دراسة العلوم الميتافيزيقية، وإلى الغوص والتعمق في البحث عن
كل ما يحيط بالديانات السماوية.. ميول بوخاردت هذه صادفت انتشار نظريات
المذهب الوجودي في أوروبا حيث هيمنت أفكاره على عقول شبابها بينما اصطدمت
ذات الأفكار بفطرة بوخاردت السليمة.
في تلك المرحلة المفصلية من حياته وقف تيتوس يتأمل بعمق
النظريات الفلسفية التي انتشرت آنذاك وشغلت العالم بأفكارها الجديدة.. وجد
تيتوس أن معظم تلك النظريات الفلسفية يعتنق الفردية ويعتمد على مناهج
تجريبية لم يثبت نجاحها بعد.. في البدء وجد نفسه غارقًا في بحور من الحيرة
وهو يبحث عن بديل يتسق مع فطرته السليمة، بيد أنه سرعان ما شعر بالفرح وأحس
بالراحة النفسية عندما وجد ضالته المنشودة في كتابات الفيلسوف رينيه جينو،
ذلك المستشرق المعروف الذي أسلم عام 1912م وتسمى باسم عبدالواحد يحيى.
بدأ تيتوس بوخاردت يقرأ في شغف كتب جينو التي اكتسبت شهرة
واسعة وتميزت بالدفاع عن الإسلام في وجه حملات التشويه التي كان يشنها
أعداؤه ضده، وهو دفاع مستميت يؤكد مدى إيمان جينو العميق بالإسلام وعشقه
الصادق لقيمه وتعاليمه.
في البدء لم يكن بوخاردت يدري اعتناق جينو للإسلام، وإنما كان
يقرأ كتبه باعتبارها نتاجًا طيبًا لدراسات علمية لفيلسوف متخصص في
الدراسات الإسلامية.. أوضحت مؤلفات جينو لبوخاردت حقائق كثيرة كانت خافية
عنه وكشفت له عن مدى تأثر الغرب بالثقافة الإسلامية.. وعندما علم بوخاردت
تلك الحقائق حزت في نفسه كثيرًا حقيقة إنكار معاهد الغرب ومثقفيه لهذا
التأثير وتزييفهم الصارخ للتاريخ خوفًا من أن يعلم الناشئة حقيقة أن حضارة
أوروبا لم تقم إلا على أكتاف العلماء المسلمين، والتي لولاهم لكانت أوروبا
تعيش في سبات جهلها العميق حتى الآن.
تطابق أفكار جينو الراجحة مع قناعات تيتوس الراسخة جعلته
يعتنقها دونما حاجة إلى تفكير عميق، إذ إنهما ينتميان إلى المدرسة
الكلاسيكية، كما أن لديهما اهتمام شديد بالانحراف الحضاري الحديث الذي
تعيشه أوروبا، وبسبب ما سبق ذكره وجد تيتوس بوخاردت في نفسه رغبة شديدة في
اعتناق الإسلام فأشهر إسلامه عن قناعة تامة مفادها أنه هو دين الله القويم
وأن ما سواه لا يعدو كونه أباطيل من صنع البشر.. عقب إسلامه أطلق بوخاردت
على نفسه اسم إبراهيم تيمنًا بالشيخ إبراهيم الطبيب والرحالة السويسري الذي
سبقه إلى الإسلام بما يزيد على القرن والذي مات ودفن في القاهرة.
وللتعمق أكثر في الشريعة والحضارة الإسلامية، انتقل إبراهيم
بوخاردت في ثلاثينيات القرن العشرين إلى العالم العربي وتحديدًا إلى مدينة
فاس المغربية حيث قضى فترة ثرية تعتبر المرحلة الأكثر تأثيرًا في نفسه إذ
تركت بصماتها واضحة في منهاجه الفكري وإنتاجه العلمي، حيث استقى من العلماء
المغاربة الكثير من ثقافته الإسلامية، وردًّا للجميل عبّر إبراهيم بوخاردت
عن امتنانه لمدينة فاس ولأبنائها ولعلمائها بأن خصّها بتأليفه لكتاب قيّم
تحدث فيه عن معالم المدينة الفريدة، وأشار إلى موقعها المميز كما وصفها
بأنها منارة سامقة من منارات الفكر الإسلامي.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن مؤلفات الفيلسوف والمفكر الإسلامي
إبراهيم بوخاردت تتميز بدقتها الشديدة وبتعريفها الشمولي للإرث الحضاري
الإسلامي الفريد، وما ميزها عن نظيراتها من المؤلفات حقيقة أن رسالتها
موجهة إلى مثقفي الغرب وناشئته باعتبار أنهم مضللون لا يعلمون عن حضارة
الإسلام إلا معلومات محرّفة صاغها القساوسة والمنصّرون خوفًا من أن يكتشف
بنو جلدتهم فضل الحضارة الإسلامية على الإنسانية بعامة وعلى أوروبا على وجه
الخصوص.
بذل إبراهيم بوخاردت مجهودات كبيرة حاول من خلالها تعريف
الغرب بالقيم النبيلة والفنون الراقية الجميلة التي تتميز بها الحضارة
الإسلامية عن غيرها من الحضارات، باعتبار أنها الحضارة الإنسانية الوحيدة
التي خلقت توازنًا مذهلًا بين مطالب الإنسان المادية وحاجته الروحية.
وتعدّ مؤلفات إبراهيم بوخاردت عن حضارة الإسلام من أهم وأبرز
الكتب التي تدرس في العديد من الجامعات الأوروبية وما أكسبها هذه المكانة
حقيقة أنها وليدة إخلاص فيلسوف أوروبي مسلم متمكّن استطاع أن يمد القارئ
والدارس غير المسلم بمؤلفات منهجية ثمينة وكتب حبلى بأفكار رصينة تتحدث عن
تقدم الحضارة الإسلامية ورقيها، قدّمها إلى العالم الحديث بأسلوب ممتع
وباهر لا يملك أمامه القارئ إلا أن يتفاعل مع كاتبه الذي يمتلك إلى جانب
ناصية المعرفة الحقة رشاقة التعبير المتفرد والمفردة الأنيقة.
وفي عام 1984م رسم الموت المشهد الختامي لحياة المستشرق
السويسري المسلم والعلامة البارع إبراهيم بوخاردت.. توفي بطل قصتنا في
مدينة لوزان السويسرية عن عمر تجاوز 76 عامًا قضى معظمها مدافعًا عن
الإسلام معرّفًا بأحكامه وفنونه، عبر كتب قيّمة ومحاضرات ثمينة ومقالات
متنوعة شكّلت كلها معينًا أمينًا لكل راغب في التعرّف إلى الإسلام وحضارته
بصدق وموضوعية لا مكان فيهما للتدليس الذي هو ديدن الفريق الآخر المعادي
للحق وللإسلام والمسلمين..
أسلم روحه لله بعد أن اجتهد في الحصول على رضا الله
بعد أن اجتهد في الدفاع عن الإسلام.. دين الحق الذي آمن به ووصل إليه بعد طول بحث..
فهل ستحتاج مثله إلى طول بحث وسنوات معاناة حتى تصل إلى ما وصل إليه في النهاية؟!!
لماذا؟!
ألا يستفيد العاقل الأريب مما انتهى إليه الآخرون فلا يضيع عمره في تجريب المجرب وبحث المبحوث؟!
اغتنم عمرك في طاعة الله.. لا في الشكوك والمعاناة..
اسألوا الله الهداية.. فبالله نهتدي إلى الله.
---------------------------
المصادر:
العشّي، عرفات كامل (2001)؛ رجال ونساء أسلموا؛ القاهرة: المكتب المصري الحديث.
الموسوعة الحرة (إبراهيم بوخاردت): https://ar.wikipedia.org/wiki
عبد الصمد، محمد كامل (1995)؛ الجانب الخفي وراء إسلام هؤلاء؛ ثلاثة أجزاء؛ القاهرة: الدار المصرية اللبنانية للنشر.
إرسال تعليق