كانت الدعوة الإسلاميّة في بداية أمرها تتّخذ مجرى السرِّية؛ فقد بدأ الرسول -صلّى الله عليه وسلّم- بأمرٍ من الله بتبليغ الرسالة للأقربين سرّاً دون علم المشركين، وكان مَقرّ الدعوة التي استمرّت بشكل سرّي مدّة ثلاث سنين في مكّة المُكرَّمة، إلى أن جاء الأمر من الله -سبحانه وتعالى- بالجهر بتبليغ الرسالة دون قتال، قال -عزّ وجلّ-: (وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ)؛[١] وبهذا كان لا بُدّ أن تنتقل الدعوة من الطابع السرّي إلى الجهر بالدعوة؛ تحقيقاً للغرض الذي جاءت الدعوة من أجله.[٢]بدء دعوة الرسول
استمرّت الدعوة جهراً إلى حين الهجرة إلى المدينة المُنوَّرة، وبلغت مدّتها عشر سنوات؛ إذ بدأ -عليه الصلاة والسلام- بدعوته لأهله، وعشيرته من بني هاشم، وبني عبد المطلب، ثمّ جاءت الأوامر الإلهية بتوسيع دائرة الدعوة إلى قبيلة قريش كلّها، فما كان من قريش إلّا أن تصدّت لرسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- بكلّ ما تملكه من الأساليب؛ لتنفيره هو ومن معه، ومنعهم من إتمام الدعوة؛ وسبب هذه المعارضة ما جاء به الرسول -عليه السلام- من أوامر تُعارض أفكارهم، وعاداتهم، وعباداتهم؛ إذ أمرهم بترك عبادة الأصنام، وعبادة الله وحده، وأمرهم بترك العادات المذمومة، والتحلّي بمكارم الأخلاق، إلّا أنّ المشركين أعرضوا عن دعوته، وأضمروا له العداوة والبغضاء، فجاء الأمر الإلهيّ للرسول -صلّى الله عليه وسلّم- بالاستمرار بالدعوة، والإعراض عن المشركين، وعدم الاكتراث لهم؛ بقوله -تعالى-: (فَاصدَع بِما تُؤمَرُ وَأَعرِض عَنِ المُشرِكينَ).
صُور من إيذاء قريش للرسول
تعدّدت وقائع المشركين، ومحاولاتهم لاغتيال الرسول -عليه الصلاة والسلام-، والقضاء عليه، وعلى دعوته، ومن هذه المحاولات ما يأتي:إيذاء قريش الجسديّ للنبيّ
- محاولتهم مبادلة الرسول بعمارة بن الوليد: كان عمارة بن الوليد بن المغيرة من أجمل شباب قريش، فجاءت به قريش إلى أبي طالب؛ ليتّخذه ولداً له، ويُعطيهم مقابله الرسول -عليه السلام-؛ ليقتلوه؛ ظنّاً منهم أنّ أبا طالب سيوافق على طلبهم؛ لأنّه رفض الدخول في دين الإسلام، إلّا أنّ أبا طالبٍ صدّهم قائلاً:" والله لبئس ما تسومونني، أتعطونني ابنكم أغذوه لكم، وأعطيكم ابني فتقتلونه، هذا والله ما لا يكون أبدًا".
- محاولة عقبة بن أبي معيط: كان عقبة بن أبي معيط من كفّار قريش الذين لجؤوا إلى أشدّ الأفعال شناعةً؛ لمحاولة قتل الرسول -صلّى الله عليه وسلّم-، والتخلُّص منه؛ فقد باغت الرسول من خلفه وهو يُصلّي، ووضع ثوبه حول عنق الرسول، وخنقه خنقاً قويّاً إلى أن جاء أبو بكر -رضي الله عنه-، وأبعده عنه، وقال له: "أتقتلون رجلاً أن يقول ربّي الله وقد جاءكم بالبيّنات من ربّكم؟"
- محاولة دار الندوة: عقد كبار المشركين اجتماعاً في دار الندوة؛ ليتشاوروا فيما بينهم بشأن الرسول -عليه الصلاة والسلام-، وكيفيّة التخلُّص منه، فعرض أحدهم تفويض شابٍّ من كلّ قبيلة يتّسم بالقوة والغلظة لهذا الأمر، فيأخذ سيفاً، ويحاصروا بيت الرسول الكريم، ومن ثمّ يهجموا عليه هجمةً واحدة، ويقتلوه، فيتفرّق دمه بين القبائل، إلّا أنّ عليّاً بن أبي طالب -رضي الله عنه- افتدى رسول -صلّى الله عليه وسلّم-؛ حيث نام في فراشه، ونجا -عليه الصلاة والسلام- من القتل.
- محاولة سُراقة بن مالك: لحق سُراقة بن مالك بأثر الرسول الكريم، والصحابيّ الجليل أبي بكر الصديق عند هجرتهما إلى المدينة؛ طمعاً في الجائزة التي أعدّتها قريش لمَن يأتي بمحمد -عليه الصلاة والسلام-؛ حيّاً، أو ميّتاً، فحاول سُراقة جاهداً الوصول إلى الرسول الكريم، وصاحبه؛ حيث رَكب فَرَسه، وأخذ معه سلاحه، وسار؛ ليدرك محمداً -عليه الصلاة والسلام- قبل أن يدركه أحدٌ سواه، إلّا أنّه كان كلّما اقتربت فَرسه من مكان الرسول -عليه الصلاة السلام- ثَقُلت أقدامها في الرمال، وسقط عنها، ثمّ أكمل سيره حتى وصل إلى مكانٍ قريبٍ من الرسول، وصاحبه، وطلب منه الأمان؛ حتى لا تسقط فرسه مُجدّداً، وأن يُنجّيه الله ممّا هو فيه، فأعطاه الرسول -صلّى الله عليه وسلّم- الأمان، وكتب بينهم معاهدة، وأمره أن يُخفي الخبر عن قريش.
- محاولة عُمير بن وهب الجمحي: كان عُمير يجلس إلى جانب صفوان بن أمية في الكعبة، فاتّفقا على أن يذهب عمير إلى المدينة؛ لقتل محمد -عليه الصلاة والسلام-، ويبقى صفوان في مكّة؛ يحمي أهل عمير، ويُعيلهم لو حدث له مكروه، وعندما وصل إلى المدينة المُنوّرة، دخل على الرسول -عليه الصلاة والسلام- المسجد يرتدي سيفه، وقال له: أَنعم صباحاً، فأخبره الرسول -صلّى الله عليه وسلّم- أنّ الله أبدله تحيّةً خيراً منها؛ وهي السلام التي تُعَدّ تحيّة أهل الجنّة، ومن ثمّ سأله عن سبب قدومه، فأخبره عُمير أنّه جاء من أجل أسير له عندهم؛ ليُحسنوا إليه، فسأله الرسول عن السيف الذي في عنقه، فكان ردّ عُمير أنَّ هذا السيف لا يُغني شيئاً، وأنّه لم يأتِ من أجل القتال، إلّا أنّ الرسول -عليه الصلاة والسلام- كان يعلم سبب قدومه؛ بوَحي من الله، فأخبره بأنّه ما جاء إلّا لقتله، وذكّره بالذي دار بينه وبين صفوان بن أمية، وحينها أدرك عُمير صدق رسول الله، وأنّه نبيّ من عند الله، فنطق الشهادتَين، ودخل في الإسلام، وبعد ذلك أمر رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- أصحابه بتعليم عُمير أحكام الإسلام، وقراءة القرآن.
- محاولة أبو جهل قتل النبيّ: عقد أبو جهلٍ اجتماعاً مع قومه ذات يوم يخبرهم فيه عن أفعال النبيّ محمد -عليه الصلاة والسلام-؛ من تسفيهٍ لآلهتهم، وتعييب لدينهم، ورأى أنّ قتلَ الرسول خير فعل؛ للتخلُّص ممّا جاء به، وعاهدهم على قتله، فأتى إلى رسول الله وهو يُصلّي، وأخذ يراقبه من بعيد، وعندما سجد، ووضع جبهته على الأرض، أخذ أبو جهل حجراً يُحاول أن يرميَه عليه، إلّا أنّ الله منعَه، وأنقذ نبيّه الكريم من غدره، ونجّاه من شرّه.
- إيذاء عقبة بن أبي معيط للنبيّ: جاء عقبة بن أبي معيط بسلا جزورٍ؛ وهو ما يخرج من الناقة عند ولادتها، وما يحتوي عليه من قذارة ودماء، ووضعه فوق ظهر الرسول -عليه الصلاة والسلام- وهو ساجد في صلاته، فجاءت فاطمة -رضي الله عنها- وكانت فتاة صغيرة، فأزالته عنه، ودعت على من صَنع ذلك، ومن ثمّ رفع الرسول -عليه الصلاة والسلام- رأسه، ودعا عليهم قائلاً: (اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بقُرَيْشٍ، اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بقُرَيْشٍ، اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بقُرَيْشٍ، ثُمَّ سَمَّى: اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بعَمْرِو بنِ هِشَامٍ، وعُتْبَةَ بنِ رَبِيعَةَ، وشيبَةَ بنِ رَبِيعَةَ، والوَلِيدِ بنِ عُتْبَةَ، وأُمَيَّةَ بنِ خَلَفٍ، وعُقْبَةَ بنِ أبِي مُعَيْطٍ وعُمَارَةَ بنِ الوَلِيدِ قَالَ عبدُ اللَّهِ: فَوَاللَّهِ لقَدْ رَأَيْتُهُمْ صَرْعَى يَومَ بَدْرٍ، ثُمَّ سُحِبُوا إلى القَلِيبِ، قَلِيبِ بَدْرٍ، ثُمَّ قَالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: وأُتْبِعَ أصْحَابُ القَلِيبِ لَعْنَةً)، وقد قُتِل جميعهم في معركة بدر
- تهديد أبي جهل للنبيّ: هدَّد أبو جهل النبيَّ بأنّه إذا رآه يسجد عند الكعبة، فإنّه سيدوس على رأسه، فكان النبيّ -عليه الصلاة السلام- ذات يوم يُصلّي عند الكعبة، ويقرأ بسورة العلق؛ من قوله -تعالى-: (أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى عَبْدًا إِذَا صَلَّى)، إلى قوله -تعالى-: (كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِب )، وعندما سجد النبيّ -عليه الصلاة والسلام-، ذهب إليه أبو جهل، إلّا أنّه لم يستطع أن يحقّق وعيده، وبدأ بالرجوع، فبلغ ذلك الرسول -عليه الصلاة والسلام-، فقال: (لو فَعلَ لأخذتهُ الملائِكَةُ عيانًا)
- إيذاء المشركين للرسول يوم أحد: كان يوم أحد يوم بلاء للمسلمين؛ ففي هذا اليوم تعرّض الرسول الكريم لأشدّ أنواع العذاب الجسديّ؛ إذ توجّه الأعداء إليه، ورمَوه بالحجارة حتى وقع، وأُغمِي عليه، وشُقَّ وجهه، وجُرِحت شفته السُّفلى، وأُصِيب في جبهته، إلّا أنّ المؤمنين ثبتوا في وجه الأعداء، ووقفوا لحماية الرسول من نبال المشركين، حتى أنّ نسيبة؛ أم عمارة الأنصارية شاركت في القتال بالسيف يوم أحد، ورمَت النَّبل؛ دفاعاً عن الرسول -صلّى الله عليه وسلّم- حتى أُصِيبت في عنقها، فدعا لها رسول الله بالبركة، وبرفقته في الجنّة
- إيذاء أبي لهب وزوجته للنبيّ: تعرّض الرسول للكثير من الأذى من قِبل أبي لهب وزوجته؛ إذ كانت شريكة لزوجها في صَبّ الأذى على رسول الله، وإعلان تكذيب دعوته، وقد نزلت في أبي لهب وامرأته سورةُ المسد؛ بقوله -تعالى-: (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ*مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ*سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ*وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ*فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ)، ومن أفعال زوجته أنّها كانت تضع الشوك في الطريق الذي يمشي فيه الرسول -عليه الصلاة والسلام-، وكانت تضع الأوساخ على باب بيته، وكانت تؤذيه بلسانها، وتُفسد بينه وبين الناس بالنميمة، وعندما علمت أنّ الله توعّدها بالنار هي وزوجها، أتَت إلى الرسول بالحجارة تُريد رميَه بها، إلّا أنّ الله صرفَ نظرها عن الرسول -صلّى الله عليه وسلّم-.
تعدّدت صُور الإيذاء المعنويّ التي تعرّض لها الرسول الكريم، ومن هذه الصُّور:إيذاء قريش المعنويّ للنبيّ
- تطليق أولاد أبي لهب لابنتَي النبيّ: كان النبيّ -عليه الصلاة والسلام- قد زوّج ابنتَيه؛ رقيّة -رضي الله عنها- من عتبة بن أبي لهب، وأم كلثوم -رضي الله عنها- من عتيبة بن أبي لهب، وحين جهر النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- بالدعوة، أساء أبو لهب له، وأعلن عداوته، وبعد نزول سورة المسد، أمر أولاده بتطليق بنات النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم-، وكان ذلك قبل دخولهما عليهما.
- معايرة النبيّ بعدم إنجابه الذكور: تعرّض الرسول للمُعايرة من قِبل مُشركي قريش؛ بعدم إنجابه الذكور، فكان العاص بن وائل السهمي ممّن عاب الرسول بذلك، فكان يصفه بأنّه أبتر، ولا يوجد له ابن ذكر يحمل اسمه، فإذا مات انقطع أثره ونَسله بموته، فنزلت سورة الكوثر؛ دفاعاً عن الرسول، ومواساة له، قال -تعالى-: (إنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ*فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ*إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ)
- السخرية والاستهزاء به: استخدمت قريش وسيلة السخرية والاستهزاء؛ للتقليل من القوّة المعنويّة للمسلمين، وفتنتهم عن دينهم؛ فرمَوا الرسول بأقبح التُّهَم، وقد وصف الله -تعالى- المستوى المُتدنّي الذي وصل إليه المشركون في القرآن الكريم؛ بقوله: (إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ*وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ*وَإِذَا انقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُوا فَكِهِينَ*وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَـؤُلَاءِ لَضَالُّونَ*وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ)؛وعدّ الله -سبحانه وتعالى- سخرية المشركين واستهزائهم بالرسول ودعوته من الجُرم في حقّ الدين؛ إذ تجاوزت معصيتهم الشركَ بالله إلى جريمة الاستهزاء بالمسلمين، ومن شدّة كرههم للرسول كانوا لا يُنادونه باسمه، وإنّما ب(مُذمَّم) حتى أثّر ذلك في نفس الرسول، فقال الله -تعالى- مُواسياً له: (وَلَقَد نَعلَمُ أَنَّكَ يَضيقُ صَدرُكَ بِما يَقولونَ)،وأمره بالإكثار من التسبيح، والمحافظة على عبادته؛ حتى يذهب هذا الضيق عنه، فهو -سبحانه وتعالى- لن يتركه، ولن يخذله، قال -تعالى-: (فَسَبِّح بِحَمدِ رَبِّكَ وَكُن مِنَ السّاجِدينَ*وَاعبُد رَبَّكَ حَتّى يَأتِيَكَ اليَقينُ)
- الاتّهامات الباطلة له: اتّهم المشركون الرسول -صلّى الله عليه وسلّم- باتّهامات عديدة كلّها باطلة؛ فكانوا تارةً يصفونه بأنّه ساحر، وفي ذلك نزل قوله -تعالى-: (وَعَجِبُوا أَن جَاءَهُم مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَـذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ)، وتارةً بأنّه كاهن وشاعر، وأخرى بأنّه مجنون، وفي ذلك نزل قوله -تعالى-: (وَقالوا يا أَيُّهَا الَّذي نُزِّلَ عَلَيهِ الذِّكرُ إِنَّكَ لَمَجنونٌ)، واتّهموه كذلك بالإتيان بالأساطير، فنزل في ذلك قوله -تعالى-: (وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا)، كما اتّهموه بالكذب، فنزل فيهم قوله -تعالى-: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَـذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا). وأمثلة الاتّهامات الباطلة عديدة؛ فقد سمع الوليد بن المغيرة القرآن من الرسول -صلّى الله عليه وسلّم-، وكان حينها من أعلم الناس بالشعر، والبلاغة، وأكثرهم فصاحة، فأدرك حينئذٍ أنّ القرآن الكريم لا يمكن أن يكون شعراً، أو حتى من تأليف البشر، ووصفه بأنّه شديد الحلاوة، وأنّ بلاغته ليست كأيّ بلاغة، وعذوبة ألفاظه مختلفة تماماً عن الشعر، ووصفه أيضاً بقوّة تركيبه، وسُموّ معانيه، وعُلوّه على كلّ كلام، وعلى الرغم من ذلك؛ وخوفاً على مُلكه، وجاهه، فقد ادّعى أنّ القرآن الكريم سحر، فنزل في ذلك قوله -تعالى-: (إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ*فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ* ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ* ثُمَّ نَظَرَ* ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ*ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ*فَقَالَ إِنْ هَـذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ).
- تكذيب قومه له: واجه الرسول -عليه الصلاة والسلام- أشدّ أنواع التكذيب، والعناد؛ فقد وصفه المشركون بالكذب، إلّا أنّها كانت تهمة ضعيفة في حقّ الرسول؛ لأنّه كان معروفاً بالصدق والأمانة على مرّ العصور، وحتى قبل البدء بالدعوة، ومن القصص المشهورة الدالّة على صدقه قصة وضع الحجر الأسود؛ فحين كانت قريش تبني الكعبة، اختلفت القبائل فيما بينهم فيمَن يضع الحجر الأسود مكانه؛ حتى ينال شرف وضعه، حتى دخل الرسول -عليه السلام- من باب الصفا، فجعلوه حَكماً بينهم؛ لعلمهم بصدقه، وأمانته
- منعه من الدعوة: اتّبع المشركون صُوراً عديدة في سبيل مَنع نشر الدعوة؛ فكانوا يمنعون الناس من سماع القرآن الكريم، وكانوا يُثيرون الشغب والضوضاء عند تلاوته؛ حتى لايسمحوا لأحد بسماعه، فنزل في ذلك قوله -تعالى-: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَـذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) كما أنّ النضر بن الحارث كان قد تعلَّم أحاديث ملوك الفرس، وأحاديث رستم وإسفنديار؛ كي يجذب الناس إليه، فيُعرضوا عن سماع دعوة الرسول -صلّى الله عليه وسلّم-، إضافة إلى أنّه اشترى مُغنّية، وكلّما علم بمبادرة أحدهم للدخول في الإسلام، بعث إليه بها؛ لتُغنّي له، وتُطعمه، وتسقيه، فنزل فيه قوله -تعالى-: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّـهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَـئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ).
- إيذاء أصحابه وأتباعه: لجأ المشركون إلى تعريض أتباع الرسول من المستضعفين لأشدّ أنواع العذاب، وعرّضوهم للذلّ، والقهر، والاضطهاد؛ حتى يتراجعوا عن الإسلام؛ فتعرّض مصعب بن عمير -رضي الله عنه- للحرمان من الطعام والشراب من قِبل والدته إلى أن يَبس جلده، وتعرّض الصحابيّ صهيب الروميّ -رضي الله عنه- لأشدّ أنواع التنكيل والعذاب إلى أن فقد وعيه، وكان يتمّ جرّ الصحابيّ بلال بن رباح -رضي الله عنه- من قِبل الصبيان بحبلٍ وُضِع في عنقه إلى أن أثّر الحبل في عُنقه، وأُلقِيت على صدره صخرة عظيمة في وسط صحراء مكّة خلال أشدّ ساعات الحرّ وقت الظهيرة، كما أنّ الصحابيّ ياسر -رضي الله عنه- تعرّض للعذاب حتى الموت، وقُتِلت زوجته بطعنة في قُبلها، إلى جانب أنّهم تعرّضوا لحصار اقتصاديّ، واجتماعيّ من قِبل مُشركي قريش استمرّ مدّة ثلاث سنوات، وكان مغزاه عدم مخالطة المسلمين، وعدم الزواج منهم، وعدم دخول بيوتهم، ومنع وصول الطعام والشراب إليهم، وعلى الرغم من أنّ هذا الإيذاء المعنويّ استمرّ إلى أن لجأ المسلمون إلى أكل أوراق الشجر، وغير ذلك ممّا تعافه النفس من شدّة الجوع، إلّا أنّ النبيّ -عليه الصلاة والسلام- كان دائماً معهم، يُطمئن قلوبهم، ويُبشّرهم بالجنّة، وأنّ الله معهم، ولن يتركهم.
اتّبع الرسول -عليه الصلاة والسلام- طُرقاً عديدة؛ لمواجهة إيذاء قريش، وإنقاذ الدعوة، ومنها ما يأتي:كيفيّة مواجهة النبيّ لإيذاء قريش
- إخراج المُستضعَفين من المسلمين إلى بلد آمن يأمنون فيه على أنفسهم، ودينهم؛ فكانت فكرة الهجرة إلى الحبشة.
- نَشر الإسلام خارج مكّة؛ حتى يقوى شمل الإسلام، واستغلال المواسم، كموسم الحجّ، وغيره؛ للدعوة إلى الإسلام.
- البحث عن وطن قريب من مكّة يستوطن فيه النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم-، والمسلمون، ويُؤسّسون فيه دولة الإسلام والمسلمين.
إرسال تعليق