0
مفهوم البعثة
أحداث البعثة
اهتمّ العلماء بسيرة النبي وبالأحداث التي مرّ بها في حياته، ومن هذه الأحداث بدء نزول الوحي عليه، وكان ذلك لمّا بلغ النبي -صلى الله عليه وسلم- الأربعين من عمره، وهو السن الذي يكون الإنسان فيه قد بلغ سن الكمال والرشد، وقد بدأت آثار النبوّة تظهر على النبي بالرؤيا الصادقة، فكان النبي لا يرى الرؤيا إلا وتتحقّق مثلما جاءت، وبقيت هذه الفترة مدة ستة أشهر، وبعد هذه الفترة نزل الوحي جبريل على النبي وأنزل عليه قرآناً وهو في غار حراء وكان عمره -صلّى الله عليه وسلم- حينها أربعين سنة قمرية، وستة أشهر، واثنا عشر يوماً.[١]

قال له جبريل -عليه السلام-: اقرأ، فقال النبي: ما أنا بِقارئ، وكرّرها على النبي ثلاث مرات، وبعدها قال له: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ)،[٢] فرجع النبي إلى زوجته خديجة خائفاً مرتجفاً، وأخبرها بما رأى وشاهد في غار حراء، ورؤيته لجبريل، فقالت له: "كلا والله لا يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل، وتُعين على نوائب الدهر"، ومدحته بصفات كثيرة وطمأنته، وذهبت به إلى ابن عمها ورقة بن نوفل لتُخبره بما حصل مع النبي؛ لأنه كان نصرانياً وعنده علم بالكتب السابقة، فقال لها: إن كان حقاً ما قلتِ فهو الناموس الأكبر الذي نزل على موسى، وإنه نبي هذه الأمة، وبعد فترة من هذا الحدث تأخّر نزول الوحي على النبي فاغتمّ لذلك وبقي ينتظر الوحي، وبقي النبي على هذه الحالة مدة طويلة، وبعد ذلك رآه جالساً على كُرسيٍ بين السماء والأرض وبشّره بالنبوة، فخاف النبي من رؤيته ورجع إلى خديجة وهو يقول: زمّلوني، دثّروني، فأنزل الله عليه قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ)،[٣] فكانت الآية نداءً للنبي أن يقوم لدعوة الناس إلى الإسلام.

ولمّا بدأ النبي بدعوته كان أول من أسلم معه زوجته خديجة، فصدّقته بما جاء به من ربّه، وناصرته لتُخفّف عنه ما يلاقيه وما يكرهه ممن رفضوا دعوته وكذبوا بها، ثم أسلم أبو بكر وحمل همّ الدعوة مع النبي وسخّر كل ما يملك لخدمة الدين والنبي، ثم أسلم علي بن أبي طالب وكان عمره عشر سنين، ثم أسلم زيد بن حارثة، فأسلم معه عثمان بن عفان، والزبير بن العوام، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وطلحة بن عبيد الله، فكان هؤلاء الثمانية من السابقين إلى الإسلام والتصديق بالنبي.[٤]



الدعوة السرية
بدأ النبي دعوته في مكة المكرمة، وقد مرّت الدعوة فيها بمرحلتين، الأولى: المرحلة السرّية، والثانية: المرحلة الجهرية، وكان لكل مرحلةٍ ظروفها الخاصة بها، ولكن في كلا المرحلتين واجهت الدعوة الكثير من المعاداة والمعارضة من المشركين للإسلام، فأما المرحلة السرّية فكانت مقتصرةً على أهل بيت النبي، بالإضافة إلى كل من توسّم النبي فيه الخير، فكان النبي يأخذهم إلى دار الأرقم؛ ليعلّمهم القرآن، ويخبرهم بِما ينزل عليه من الوحي؛ ليكونوا على اطّلاع بكل الأوامر الربانية، ولتعليم الناس المقاصد الربانية في بناء المجتمع، فانتشر الإسلام في مكة وخارجها، وكان الغاية من السرية في هذه المرحلة من مبدأ الأخذ بالأسباب لأجل ألا يعرّضوا أنفسهم للمواجهة مع قريش وهم قلّة مُستضعفة، ومن باب التدرّج في الدعوة والبدء بالأقرب والأهم، واستمرّت المرحلة السرية قرابة الثلاث سنوات، حتى أمر الله نبيّه بالجهر بها،[٦] وكان عدد الذين أسلموا مع النبي في هذه المرحلة أربعين رجلاً وامرأة واحدة، وكان معظمهم من الفقراء والمستضعفين.[٧]


الدعوة الجهرية
أمر الله نبيّه بالجهر بالدعوة بعد أن كان من الصعب على المشركين القضاء على الإسلام، خاصة أن غالبية الذين أسلموا من قبائل مختلفة، وأن معظمهم من أشراف القوم، ففي بداية هذه المرحلة جاء الأمر من الله للنبي بإيصال هذا الدين إلى أقربائه، لقوله تعالى: (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ)،[٨] وليكون أيضاً نوعاً من التدرّج في تبليغ رسالة الإسلام، وليكونوا معه ويحموه من باقي عشائر قريش، ثم جاءت الأوامر للنبي بتوسيع دعوته لتشمل قريش بكل عشائرها، فصعد النبي على جبل الصفا ونادى على كل بطون عشيرته ليخبرهم بأنه نبي، وقالَ: (أرَأَيْتَكُمْ لو أخْبَرْتُكُمْ أنَّ خَيْلًا بالوَادِي تُرِيدُ أنْ تُغِيرَ علَيْكُم، أكُنْتُمْ مُصَدِّقِيَّ؟ قالوا: نَعَمْ، ما جَرَّبْنَا عَلَيْكَ إلَّا صِدْقًا، قالَ: فإنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ فَقالَ أبو لَهَبٍ: تَبًّا لكَ سَائِرَ اليَومِ، ألِهذا جَمَعْتَنَا؟ فَنَزَلَتْ: (تَبَّتْ يَدَا أبِي لَهَبٍ وتَبَّ ما أغْنَى عنْه مَالُهُ وما كَسَبَ))،[٩] وأما عمّه أبو طالب فقد وقف معه وسانده في دعوته على الرغم من أنه لم يُؤمن، وترافق مع الأمر بالجهر بالدعوة الأمر بعدم التعرّض للمشركين بالقتال أو الصدام؛ كي لا يتم استئصال الدعوة وهي في بدايتها، قال تعالى: (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ).


مفهوم الوحي
يبلّغ الله أنبياءه رسالته وأوامره عبر طرقٍ عديدةٍ ذُكرت في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، ويمكن حصرها بثلاث طرقٍ ذكرها الله تعالى في قوله: (وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّـهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ)،[١٢]وهي:
  • الوحي: يُطلق الوحي على الكتاب، ويُطلق أيضاً على الإشارة، والرسالة، والكتابة، والإلهام، والكلام الخفي، وكل ما يلقيه الإنسان على غيره، ويُقال أوحى إليه أي كلّمه بكلامٍ خفي،[١٣] وأما الوحي بالمعنى الشرعي: فهو إخبار الله لمن اختارهم من عباده بكل ما أراد أن يُطلعهم عليه من أنواع الإعلام والهدى، وهذا الوحي يكون بطريقةٍ خفيّة سريّة وغير معلومة للبشر الآخرين، وهذا الوحي يأتي على عدّة أشكال، فقد يكون كلاماً بين الله وعبده؛ كموسى عليه السلام، وقد يكون إلهاماً يقذفه الله في قلب النبي فلا يستطيع دفعه، ولا يتطرّق إليه الشك به، وقد يكون عن طريق المنام، وقد يكون بواسطة جبريل -عليه السلام- وهو أمين الوحي، وهذا النوع هو أشهرها، والقرآن كله من قبيل هذا النوع، وقد جاء لفظ الوحي وأنواعه في القرآن في أكثر من سبعين موضعاً، كلها تدور حول معنى الإعلام الخفي السريع.[١٤]
  • كلام الله لنبيّه مُباشرة، وبِدون واسطة، فَيُكلِّمه من وراء حِجاب، وأما كيفيّة التكليم فهي من أُمور الغيب التي لم يأتي دليلٌ صريحٌ على بيانها، إذ يسمع النبي كلاماً مفهوماً ولكن من غير أن يرى ربّه، قال تعالى: (وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَىٰ تَكْلِيمًا).[١٥]
  • إرسال الله ملكاً من عنده لنبيّه، وقد يأتي هذا الوحيُ للنبيّ بصورته الملائكية التي خلقه الله عليها، وقد رأى النبي جبريل على صورته الملائكية في ليلة الإسراء والمعراج، أو قد يأتي بصورة رجل يراه النبي ومن عنده ويحسّون به، وقد ينزل الوحي على النبي دون أن يراه؛ حيث يأتيه على هيئة التنزّل الروحي على القلب.[١٦]


علامات نبوة النبي قبل وبعد البعثة
يمهّد الله تعالى لنبيه وللناس من حوله مسألة بعثته بعدّة مبشّرات أو معجزات تؤذن بقرب النبوّة إن كانت قبل البعثة، أو تدلّ على صدق النبي إن كانت بعد بعثته، ومن هذه العلامات:


علامات النبوة قبل البعثة
أرسل الله نبيّه محمد بعد انقطاع الرُسل لفترةٍ مؤقّتة، انتشر فيها الشرك، والخرافة، والجهل، فأنار الله بدعوته القلوب والعقول، ولكن قبل مبعث النبي كانت هناك علامات ودلائل تشير إلى نبوّته وتسمى بالإرهاصات، منها:
  • نزول البركة في بيت مُرضعته حليمة السعدية، كحصول الخير والبركة في المكان الذي ترعى به غنمها دون بقية الأماكن.
  • حادثة شق صدر النبي وتطهيره من حظ الشيطان، عندما جاءه ملكان فشقّا قلبه واستخرجاه وغسلاه بماء زمزم.
  • استسقاء جده عبد المطلب به في حالة القحط والجدب، وإجابة الله تعالى له.
  • تبشير الكتب السماوية به وإيرادها لصفاته، ومن أهم صفات النبي الواردة في الكُتب السماوية السابقة:[١٩]
    • ما جاء في سفر التثنية أن موسى -عليه السلام- أخبر قومه قبل موته بأن النبوّة ستشرق في جبل فاران، وسيخرج منها نبي كما جاءته على جبل الطور، وكان المقصود نبي الله مُحمد وذلك لأن جبل فاران هو مكة المُكرمة.
    • ما جاء في سفر النبي إشعيا، فقد توعّد فيه بني إسرائيل الذين يُحرّفون كتاب الله ولا يلتزمون بشريعته بالنبي الأُمّي صاحب الكتاب الخاتم، فيقول في الإصحاح التاسع والعشرين: "أو يُدفع الكتاب لمن لا يعرف الكتابة ويقال له: اقرأ هذا، فيقول: لا أعرف القراءة"، فأشار ذلك إلى لحظة نزول الملك جبريل عليه وهو في غار حراء الذي عرفه ورقة بن نوفل أنه الوحي أو الناموس الذي ينزل على الأنبياء فقط.
    • ما جاء على لسان هِرقل ملك الروم عندما سأل أبا سُفيان عن النبي، فوجد جميع الصفات التي ذُكرت عندهم في الكُتب السابقة مُطابقة لصفات النبي، مثل أن أتباعه من الضُعفاء، ولا يكذب، ويأمُر بعبادة الله وحده، وعدم الإشراك به، والصدق، والأمانة، وأنه ذو نسب في قومه، وأن أتباعه يزيدون ولا ينقصون، وأنه لا يغدر.
    • ما جاء على لسان النجاشي لما سمع من جعفر عن رأي الإسلام في المسيح ابن مريم، فنطق الشهادتين وقال لمن حوله: إنه النبي الذي بشر به عيسى ابن مريم.
  • سلام الحجر والشجر عليه أثناء سيره في مكة.
  • تظليله بالغمام في وقت الظهيرة أثناء رحلته إلى الشام.


علامات النبوة بعد البعثة
إن العلامات التي ظهرت على النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد بعثته كثيرة، وتُسمّى بالمُعجزات، منها:
  • القُرآن الكريم: وهذه أعظم علامة تدُل على صدق النبي، فهي المُعجزة الباقية إلى قيام الساعة، فهو كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل، أنزله على النبي مُحمد وتحدّى به العرب فلم يستطيعوا مُقابلة هذه المُعجزة أو الإتيان بمثلها.[٢٠]
  • وقوع الأصنام بمجرد إشارته إليها: فقد ذكر الصحابة أن النبي يوم فتح مكة كان كلّما أشار إلى صنمٍ من الأصنام التي حول الكعبة سقط مع أنه مثبّت بالرصاص والحديد.[٢١]
  • تسبيح الحصى في كفّه: روى عددٌ من الصحابة مجموعةً من الأحاديث تُبيّن تسبيح الحصى في يد النبي، فقد أخذ النبي ذات يوم سبع حصيات فسبّحن في يده، ووجه الإعجاز في ذلك أنه أمرٌ خارقٌ للعادة سماع صوت الجمادات، ومثلها تسبيح الطعام فقد ذكر الصحابة: (كُنَّا مع رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في سَفَرٍ، فَقَلَّ المَاءُ، فَقالَ: اطْلُبُوا فَضْلَةً مِن مَاءٍ فَجَاؤُوا بإنَاءٍ فيه مَاءٌ قَلِيلٌ فأدْخَلَ يَدَهُ في الإنَاءِ، ثُمَّ قالَ: حَيَّ علَى الطَّهُورِ المُبَارَكِ، والبَرَكَةُ مِنَ اللَّهِ فَلقَدْ رَأَيْتُ المَاءَ يَنْبُعُ مِن بَيْنِ أصَابِعِ رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ولقَدْ كُنَّا نَسْمَعُ تَسْبِيحَ الطَّعَامِ وهو يُؤْكَلُ)،[٢٢] وقد عدّ العلماء هذه المُعجزة أعظم من مُعجزة موسى في قلب العصا إلى حية.[٢١]
  • نبع الماء بين أصابع النبي: وقصة ذلك أن النبي أراد أن يُصلّي العصر فلم يجد الماء، فجيء له بإناء، وتوضّأ منه كُل من كان موجوداً، فقال بعض الصحابة: رأيت الماء ينبع من تحت أصابع النبي، وهذه المُعجزة تكرّرت مع النبي في أكثر من موطن.[٢١]
  • الإسراء والمعراج: فقد أُسري بالنبي من مكة المكرمة إلى المسجد الأقصى، وعرج إلى السماوات العلى ورجع إلى مكة في نفس الليلة، وقد شاهد النبي الكثير من المشاهد في هذه الرحلة، مثل البُراق وهي الدابة التي تحمل الأنبياء، ورأى في بيت المقدس عدداً من الأنبياء كإبراهيم، وموسى، وعيسى، وأصنافاً من نعيم الجنة، وألواناً من عذاب أهل النار، وفرَض الله عليه الصلوات الخمس، وقد فُرضت في بداية الأمر خمسين صلاة حتى خُفّفت فأصبحت خمساً في العمل وخمسين في الأجر.[٢١]

إرسال تعليق

 
Top