انبثقت الحضارة التي نعيش تحت ظلالها اليوم بعد مجموعة من التراكمات والإسهامات من مجموعة من الأمم والأعراق، إلا أن الغرب لازال يجد مشكلةً في أن يعترف بإسهامات الآخرين في بناء الحضارة المعاصرة، فما هي إذا المركزية الغربية؟ وماهي تناقضاتها مع دعاوى كونية القيم والثقافة الغربية؟
يمكن تعريف المركزية الغربية بأنها مجموعة من الممارسات الواعية أو غير الواعية، التي تركز على فرض الحضارة والمصالح الغربية عموما في جميع مجالات الحياة على حساب باقي الثقافات والحضارات والشعوب، وبكل الوسائل المشروعة وغير المشروعة [1].
يعود أصل فكرة التمركز الغربي إلى أرسطو، هذا الأخير الذي قسم العالم إلى قسمين: إغريق وبرابرة، أو أحرار الطبيعة وعبيد الطبيعة، مشيرا بتقسيمه هذا إلى أفضلية العالم الغربي عموما واليوناني على وجه الخصوص من الناحية العقلية والفكرية والإنتاج العلمي.
وقد أثر هذا الفكر تأثيرا بالغا في عقلية المستشرقين، فنجدهم في كتاباتهم يتحاملون تحاملا كبيرا على الشرق، فقد زعم المستشرق دي بور أن الفلسفة الإسلامية ما هي إلا فلسفة انتخابية جلُّ ما قامت به هو ترجمة منتجات اليونان دون أن تضيف شيئا للعلم والمعرفة [2].
وقوله هذا غير دقيق من وجهين: الأول أن الحضارات الإنسانية خاضعة لمبدإ التأثير والتأثر، وثانيا: أن التفكير العلمي والفلسفي تفكير تراكمي لا تجاوزي.
أما إسهامات العرب والمسلمين فهي كثيرة، نذكر منها إسهامات ابن زكريا الرازي في الطب، وابن الهيثم في البصريات، والخوارزمي في الرياضيات، وإضافاته الكبيرة في الجبر، كما أن الغرب لم يعرف الحمّام إلا بعد عودة الأوروبيين من الحروب الصليبية التي مكنتهم من اكتشاف ثقافة الاستحمام عند العرب والمسلمين عامة في القرن الثاني عشر الميلادي، وكل هذه الإضافات ساعدت الغرب في إنشاء حضارته المادية المعاصرة.
وفي هذا تقول المستشرقة المنصفة زيغريد هونكه في كتابها شمس العرب:
“إن أرقامَ العرب وآلاتِهم التي بلغوا بها حدا قريبا من الكمال، وحسابَهم وجبرَهم وعلمَهم في المثلثات الدائرية، وبصرياتِهم الدقيقة، كل ذلك أفضال عربية على الغرب ارتقت بأوروبة إلى مكانة مكنتها عن طريق اختراعاتها واكتشافاتها الخاصة من أن تتزعم العالم في ميادين العلوم الطبيعة منذ ذلك التاريخ حتى يومنا هذا” [3].
وقد ساهم فيلسوف الجدل هيغل في تنمية وتعزيز فكرة التمركز الغربي، حيث إنه يقتصر في تأريخه للحضارة البشرية على العصر اليوناني والروماني والأوروبي، وبهذا التصور تكون نظرة هيغل بعيدة عن الموضوعية، لأنه اعتبر أوروبا سواء اليونان والرومان قديما وألمانيا حديثا محور التاريخ، وفي المقابل يرى أن أفريقيا لا تاريخ لها، وهكذا تجاهل الحضارات الأخرى ومنها الحضارة الإسلامية.
حتى أنه ذهب إلى تمجيد الحضارة الجرمانية والقول بأفضلية العرق الأبيض، هذا التعالي العنصري الذي جلب الكوارث فيما بعد على الألمان والبشرية جمعاء [4]، حيث كانت أفكاره مجالا خصبا للنازية والفاشية لإضفاء الشرعية على أعمالهم الإجرامية في حق الإنسانية.
وحين توصل جون بول سارتر إلى قوله المشهور “الآخر هو الجحيم”، لم يكن قوله هذا مجرد حكم يصدره على آخر أراد أن يسلبه حريته وعلة وجوده، وإنما استظهر ما هو مخبوء في أعماق الذات الغربية، إذ لا موضع -حسب سارتر- للحديث عن محبة أو مشاركة أو تآزر بين الذوات، لأن حضور الذات أمام الغير هو بمثابة سقوط أصلي، ولأن الخطيئة الأولى -حسب ظنه- ليست سوى ظهوري في عالم وجد فيه الآخرون [5].
بينما يرى الفيلسوف الفرنسي روجيه غارودي في معرض نقده للمركزية الغربية أن الحضارة الغربية تحتوي جوانب لاإنسانية وإن ادعت الإنسانية، فيصل من خلال هذا إلى نتيجة خطيرة مفادها أن الأصوليات جميعها في العالم اليوم سواء أكانت إسلامية أم مسيحية أم يهودية أم غيرها هي نتيجة أو رد فعل على الأصولية الغربية [6]. ومن هنا تصح مقولة: أن التطرف ينشأ من تطرف مضاد، أو كما تقول القاعدة الفيزيائية: الضغط يولد الانفجار.
في هذا السياق نطرح إشكالية مفادها: كيف يمكن أن نوفق بين هذا الاستعلاء الغربي وتمجيد الذات واحتقار الآخر، وبين القول بكونية الحضارة الغربية ونهاية التاريخ؟
إن ما تمخض به عصر النهضة والتنوير من قيم جاءت بعد صراع مرير مع الكهنوت الكنسي فيه ما هو كوني يتفق عليه كافة البشر من العقلاء، وفيه ما هو خاص بالسياق الغربي الذي نشأ فيه، فإذا ما حاولنا أن نجعل ما هو خاص مكان ما هو كوني، هنا نقع في إشكالات جسيمة ومخاطر عظيمة، لأن هذا التجني على باقي الثقافات يقف حجر عثْرة أمام العديد من الشعارات التي يرددها الغرب اليوم ويحاول إشاعتها، كالحوار والتسامح وقَبول الآخر والمشترك الإنساني والتعايش…
وفي هذا الإطار يبين عالم الاجتماع الفرنسي سيرج لاتوش خطورة التمركزات الثقافية، وأنها تسوق قيما خاصة في ثوب الكونية بقوله: لو كانت الهند هي القوة العظمى في هذا القرن لكنا نصصنا في المواثيق الدولية على ضرورة إحراق المرأة حية مع جثة زوجها الميت كجزء من حقوق النساء، ولكان اهتمامنا بحقوق البقر أكبر من اهتمامنا بحقوق الإنسان [7].
وحول جدل الخصوصية والكونية، يفرق الفيلسوف المغربي طه عبد الرحمن في الكونية بين نوعين اثنين: ((كونية سياقية))؛ ومقتضاها أن الشيء، وإن أبدع في مجتمع ما، فقد يعاد إبداعه في مجتمع غيره، بحيث قد يخرج عن وجهه الإبداعي الأول، وينضاف إليه ما لم يكن في أصله إغناء له؛ والثاني ((كونية غير سياقية أو إطلاقية)) ومقتضاها أن الشيء متى أبدع في مجتمع، فلا يعاد إبداعه في مجتمع غيره، وإنما يؤخذ على وجهه الأصلي، وخير دليل على ذلك “حقوق الإنسان”، فهي لا تطبق على نفس النسق الذي أبدعها به الغرب في كل مكان من العالم، بل إن تطبيقاتها في دول الغرب نفسها تختلف باختلاف احتياجاتها الخاصة [8].
إن دعوى الكونية والنظرة الاستعلائية التي تخيم على الفكر الغربي أسهمَت في إنتاج العنف المنظم من قِبل الدول الغربية تحت ذريعة نشر التحضر والقيم الكونية، وبهذا الفكر ارتكبوا في الأمريكيَّتَيْن أبشع أنواع الإبادة الجماعية، كما لا ننسى الحملات الاستعمارية على دول إفريقيا لأهداف مادية واقتصادية توسعية.
لقد أسهمت الداروينية بشكل كبير في تعزيز هذه العنصرية الغربية تجاه الآخر وتكريس أفضلية الأنا، وذلك أنها مبنية على الصراع والبقاء للأقوى والأصلح، ومحو الأضعف، فالأقوى بإطلاق هو الأصلح والأنفع، بينما الأضعف سيكون مصيره إلى الزوال والفناء.
لقد رصد عبد الوهاب المسيري ثلاثة أفكار أساسية مشكلة للفكر العنصري الغربي في عصر التحديث:
- الحضارات غير الغربية أدنى بكثير من الحضارة الغربية على المستويات السياسية والاجتماعية والأخلاقية.
- الشعوب غير الغربية تختلف عرقيا عن الشعوب الغربية، وهذا الاختلاف وراثي.
- الحضارة والعرق هما شيء واحد، فإن التخلف الحضاري أمر وراثي وبالتالي حتمي.
في ختام هذا المقال المختصر، يمكننا القول إن فكرة التمركز الغربي وتمجيد الذات تتنافى مع القول بكونية الحضارة الغربية وأنها الحضارة الأخيرة والمطلقة، كما أنها تقطع حبل الأمل في بناء حوار حضاري بَنَّاء وهادف، وذلك أن مفهوم الكونية والعالمية يقتضي أن يشارك في بنائه وتأسيسه كافة الثقافات الإنسانية، سواء أكانوا عربا أم هنودا أم صينيين، وبالتالي فهو مفهوم يراعي الاختلاف والخصوصيات الثقافية، فالناس قد يتفقون على قيم كونية خالدة كالعدل والحرية والاحترام، لكنهم قد يختلفون في قيم نسبية تتناسب مع بيئة وسياق معينين، فلا يمكن تعميمها عن طريق القهر والسلطان.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المراجع:
[1] : المركزية الغربية وتناقضاتها مع حقوق الإنسان، عبد اللطيف الغامدي، ص: 28
[2] : انظر: تاريخ الفلسفة في الإسلام، أ.ت.دي بور، ص: 33
[3] : شمس العرب تسطع على الغرب، زيغريد هونكه، ص: 399
[4] : معرفة الماضي، إسحاق عبيد، ص: 84
[5] : نقلا عن مجلة الاستغراب، العدد العاشر: الذاتية والغيرية، شتاء 2018، ص: 9
[6] : الحضارة التي تحفر للإنسانية قبرها، روجيه غارودي، ترجمة عزة صبحي، ص: 95
[7] : l’occidentalisation du monde ،Latouche Serge P: 170
[8] : روح الحداثة، طه عبد الرحمن، ص: 66[9] : الفلسفة المادية وتفكيك الإنسان، عبد الوهاب المسيري، ص: 180
المصدر مركز يقين
إرسال تعليق