من اعتراضات الملحدين على وجود الخالق سبحانه قولهم بأن الإيمان بوجود الله سبحانه ونظريّة الخلق أو “التصميم الذكي” يُخَلِّف فراغا تفسيريّا؛ فيصبح كل ما في الكون مِن ظواهر مفسَّرا بوجود الله كسبب، فلا تعود هناك حاجة لسبْر الأسباب الماديّة للظواهر الطبيعيّة، والتسليم بوجود الخالق بالتالي يؤدّي لتعطيل العقل عن البحث عن التفسيرات العلمية الماديّة.
وسنناقش هذا الاعتراض من عدة وجوه:
أوّلا: النموذج التفسيري الصُّدفوي.. ألَا يخلّف فراغا في التفسير؟
بغضّ النظر عن براهين الوجود الإلهيّ
ومرجّحاته؛ فإنّ عدم قَبول وجود الله كتفسير للنظام الكونيّ الدقيق في كلّ
أبعاده ومستوياته، فيبقى أمامك خيار الصّدفة، كتفسير للكون.
وإذا فسّرنا الظواهر الكونيّة بأنّها نتيجة للصدفة، فهذا يخلّف فراغا
تفسيريّا أكثر حدّة؛ فالإيمان بوجود الله قد يفتح مجالا للتفسيرات الماديّة
باعتبارها طريقة الله في تسبيب الظواهر، فكيف إذا كانت الظواهر صدفيّة لا
“مصمّم” لها ولا إرادة ولا حكمة خلفها؛ فكيف نرجو بعد ذلك تفسير الظواهر
بأسبابها المادّيّة التي تظهر فيها بصمة الإتقان والحكمة والضّبط؟
إنّنا نجد إذن أن النموذج التفسيري الخَلقيّ التّصميميّ قد يقبل معه التفسيرات الطبيعيّة الماديّة، إذ لا تتعارض معه، في حين يُبدي النّموذج الصُّدفوي عدم قبول لأيّ تفسير مادّيّ فهو يُلغي أساسا وجود الحكمة والتّصميم والنّظام في الكون.
ثانيا: وهم التعارض بين التفسير الماديّ والميتافيزيقيّ للظّواهر:
الأشياء المتعارضة فيما بينها لا يمكن الجمع بينها بأيّ شكل؛ وما دام يصحّ عقلا واحتمالا أن تكون الظواهر الطبيعية نتاج أسباب ما ورائية وأخرى مادّيّة، فإنّه ليس هناك تعارض بين التفسير بالأسباب الطبيعية وتفسير الظواهر بوجود الله سبحانه.
ثالثا: التفسيرات المادّيّة توصل لحقيقة وجود الله:
إنّ التفسيرات الطبيعيّة للظّواهر لا تتوقف عند كونها لا تتعارض مع وجود الله سبحانه؛ بل هي دالّة عليه، فحين نتعرّف على ظواهر مثل توسّع الكون -مثلا-، ونبحث عن التفسيرات الفيزيائيّة لها، فإنّنا نتعرّف حينها على الضّبط الحرِج الذي خضع له توسّع الكون، وهذا يدلّ على علم وحكمة وإرادة وراء هذا الكون؛ وهكذا جلّ الظواهر التي يتبيّن لي أسبابها الطّبيعيّة صفات الخالق العليم لها.
رابعا: الإسلام والفراغ التفسيري:
لم يكن وجود الله يوما في الإسلام يُراد به نفي الأسباب المادّيّة [1]؛ ذلك أنّ الله أرشد للتفكُّر في الكون وأسباب الظواهر، كما بيّن بنفسه سبحانه بعض الأسباب المادّيّة.
ومن ذلك أنّه أرشد إلى التأمُّل في “الكيف”؛ قال تعالى: {أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} [الغاشية: 17-20]، وقال: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ۚ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ} [العنكبوت: 20].
ومن ذلك قوله سبحانه: {اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاء كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [الروم: 48]، فبيّن أنّ الرياح تثير السّحاب وهذا سبب ماديّ، ووراء ذلك كلّه إرادة الله سبحانه ومشيئته.
والذي يَفهم من القرآن أنّ الله لا يقرّ بالأسباب الماديّة فهو لا يعرف خاصيّة القرآن وهدفه؛ فإن القرآن قد أشار إلى الأسباب الماديّة، لكنّ هدف القرآن المركزيّ تحقيق تعظيم الله في القلوب والتعريف به سبحانه، فكان ما جاء في القرآن من الحديث عن الآيات الكونيّة يهدِف إلى الاستدلال على ألوهيّته سبحانه وكماله وقدرته.
في حين أنّ الإقرار بالأسباب الماديّة واضح مستقرّ في عقيدة الإسلام، “فحتّى المعجزة عندنا تحصُل من خلال أسباب خاصّة بها، وهي وإن كانت خارجةً عن المعهود من السببيّة، فإنّها لا تخرج عن مُطلق السببيّة” [2].
خامسا: الصّدفة.. هل هي تفسير معقول؟
تفسير الملاحدة والطّبيعانيّين للظواهر وأسبابها بالصُّدَفيّة “يُلزِمُهم بناء على معنى التفسير عندهم؛ فإن معناه تبرير وجود الظاهرة وفق أسباب علميّة معقولة -أي يمكن فهمُها أو comprehensible بتعبير Nicholas Maxwell- والصّدفة عصيّة على هذا المعنى، بل خارجة عنه متمرّدة عليه. إن كان الخلق عندهم تفسير من لا تفسير له، فهذا يصدُق بتمامه على الصّدفة” [3].
فادّعاء أن وجود الله محاولة لملء فجوات الجهل بأيّ تفسير مهما اتّفق يصدُق على الصّدفة، إذ الكونُ وإحكامه دالّ على موجِد له فضلا عن كون وجود الله أمرا ضروريا عقلا، في حين تتراءى لنا الصدفة في مأزق حقيقي.
ختاما: ينبغي التأكيد كذلك على أنّ هذا الاعتراضَ نفسَه لا يستقيم كاعتراض موضوعيّ؛ لأنّ وجود الله لا يمكن أن ينتفي حتّى لو خلّف فعلا فراغا تفسيريّا، فاليقين والضروريّ لا يرتفع لمجرّد الاحتمال، ثمّ -كما بيّنا- إنّ الصّدفة تخلّف فراغا تفسيريّا واضحا وتتعارض حتما مع التفسيرات الماديّة، وهو كذلك تفسير غير ماديّ، في حين أنّ الأسباب الماديّة لا تتعارض مع وجود الله -ومع الإسلام خاصّةً-، بل هي داعية دالّة على الإرادة والحكمة والغاية والإتقان في الكون.
[1] : بغضّ النّظر عن الخلاف في هذا الموقف، لأنه خلاف شاذ.
[2] : د. عبد الله الشهري، ثلاث رسائل في الإلحاد والعقل والإيمان، ص: 226.
[3] : المصدر السابق.
إرسال تعليق
Click to see the code!
To insert emoticon you must added at least one space before the code.