إن مسألة وجود إله خالق حكيم من المسائل البدَهِيّة الفطرية التي لا تحتاج إلى بسط أدلة ولا إلى سرد حجج، فلا يصح في الأذهان شيء إذا احتاج النهار إلى دليل كما قال المتنبي، لكن، وبسبب وقوع فساد الفطرة السوية لدى أهل الإلحاد أصبح من الواجب علينا كمخلوقات مستخلَفة في الأرض كلفها الله بالعقل أن نعالج هذا الداء العضال المسمى بالإلحاد.
يقع النسق الإلحادي عموما في العديد من المآزق العقلية التي تبين تهافته، من بينها على سبيل المثال لا الحصر: مسألة القيمة الأخلاقية، والإرادة الإنسانية الحرة، و الأسئلة الفلسفية الكبرى من قبيل: من أنا ؟ ما الغاية من وجودي؟ ما المصير بعد الموت؟..إلخ
من هو باسكال؟
بليز باسكال (1623-1662م) فيلسوف ورياضي فرنسي اشتهر بنظرية الاحتمالات في الرياضيات، وهو من اخترع الآلة الحاسبة، وله عدة إسهامات في مجالَيْ الفيزياء والرياضيات وهو أحد أعمدة النهضة الأوروبية في القرن 17م.
أسهم باسكال بكتاباته النظرية، والعلمية، ومخترعاته في تقدم العلم في عصره وتشهد رسائله في الأصوات، والمخروطات واختراعه للآلة الحاسبة، وحساب اللانهاية Calcul de l’infini، وكذلك حساب التكامل والاحتمالات، ونظرية العجلة، كل ذلك يشهد بمكانته الكبيرة ومجهوداته الرائدة في مجال العلم والرياضة [1].
وقد كان بليز باسكال مؤمنا شديد التدين، اهتم بشعائر الدين، وأشار إلى أهميته في العديد من كتاباته، وهو بهذا جمع بين الجانب الروحي وبين التفلسف العقلي المجرد.
فلسفة بليز باسكال
حاول باسكال أن يتخذ من موقفه الفلسفي طريقا يوحد فيه بين المخلوق والخالق، أي بين الإنسان والله، ويجتهد في إبراز هذه الرؤية في مؤلفاته ولا سيما (الخواطر) أو (الدفاع عن الدين)، فسعى إلى رد الملحدين إلى الدين، وإقناع المارقين بالعودة إلى مرفإ الإيمان الهادئ الآمن الذي يساعدهم في حل مشكلاتهم، والتعرف على ذواتهم، وعلاج حالات القلق والضياع التي تنتابهم، وهكذا تطلعنا فلسفته على محاولة رائعة في مسرح الدفاع عن الدين، وبالتالي الدفاع عن الوجود الإنساني، وتوفير سبل السعادة والطمأنينة الروحية له [2].
والمنهج الباسكالي عقليٌّ، تأملي وتجريبي أيضا، يعتمد على الملاحظة والتجربة في مؤلفاته العلمية التي سجلت له سبقا علميا في عصره ووضعته في مَصافِّ رواد العلم والتجربة في القرن السابع عشر [3].
يعد باسكال -وبدون منازع- الجد الأكبر لمذهب الوجودية المعاصر خلال القرنين 17م و18م، فقد أثار مسألة الوجود الإنساني والمصير والعدم، كما أفصحت خطراته، وكتاباته الأدبية والفلسفية عن أفكار وجودية أصيلة كأفكار الضعف والقلق والضجر والشقاء الإنساني والصلة بين الإنسان وخالقه، أثار جميع هذه المسائل قبل أن يظهر الفلاسفة الوجوديون المعاصرون [4]. ولا ننسى أن بليز باسكال تأثر بشكل كبير بأبي الفلسفة الحديثة –رينيه ديكارت-، فهو يُدرج ضمن فلاسفة المدرسة العقلانية، هذه الأخيرة التي صاغت منهجا جديدا للعلم والفلسفة أحدث نقلة نوعية في تطور الحضارة الغربية.
حجة الرهان
يعتبر رهان باسكال وسيلة لإثبات وجود الله -سبحانه- بطريقة نفعية غير مبنية على الجدل، حيث يرى بليز باسكال أن الإنسان دون الله لا قيمة له، وهو غارق في التعاسة والبؤس، وليس الإنسان دون إله فقط بل البشرية قاطبة ترزح في حالة تعاسة رهيبة.
ابتدع باسكال -بحكم تخصصه الرياضي- طريقة ذكية عقلية غير برهانية أطلق عليها البعض “حجة المقامر”، حيث سعى من خلالها إلى بيان ضرورة وجود إله خالق حكيم مدبر لهذا الكون، وهي موجهة للذين جحدوا جميع الأدلة والحجج الساطعة العقلية والنقلية على وجود الله عز وجل.
و يذهب باسكال الى أن الرهان مسألة حتمية فيقول: (إذا ربحت فقد ربحت كل شيء، وإذا خسرت فإنك لا تخسر شيئا، فراهن إذا على أنه موجود ولا تتردد) [5].
يقوم رهان باسكال على اعتبار أن الإنسان يجد نفسه في قضية الإيمان بين موقفين:
1- فإذا هو أنكر الله وجحده، وكانت الحقيقة بخلاف ذلك، كان يعرض نفسه لأعظم الخسائر.
2- أما إذا هو آمن بالله، وكانت الحقيقة بخلاف ذلك، لم يخسر شيئا.
ولذلك استنتج باسكال أن موقف الإيمان يكون موقفا ليس فيه أي خسارة على الإطلاق، بل يوجد معه احتمال لتحصيل مغانم كثيرة، بينما موقف الإلحاد فهو موقف لا ربح فيه على الإطلاق، بل يوجد معه احتمال لتكبد أفدح الخسائر.
وبالمقارنة بين هذين الموقفين يترجح موقف الإيمان على موقف الإلحاد بكل تأكيد، ويكون من حق الإنسان في مقياس العقل أن يجنح إلى موقف الإيمان.
ورهان باسكال هذا ليس هدفه أن يقدم برهانا، بل يبين أنه ينبغي على العاقل أن يراهن على وجود الخالق، وهذه الحجة ترمي إلى أن أعقل فعل هو الذي يحقق أكبر مكسب ممكن، لذلك ينبغي أن نزيد من مكسبنا الممكن وأن نقلل من خسارتنا المحتملة، وأنسب وسيلة لتحقيق ذلك هي الإيمان بالخالق [6].
في ظل هذا الرهان الذي وضعه باسكال هناك أربع نتائج ممكنة:
- إذا كان الله موجودا وآمنت به = فسوف أفوز بالحياة الخالدة وهذا ربح كبير.
- إذا كان الله موجودا ولم أومن به = فالخسارة ستكون فادحة و سأنال عذابا أبديا في الجحيم، وهذه خسارة كبيرة.
- إذا كان الله غير موجود وآمنت به = فالخسارة ستكون قليلة مقارنة بالخلود في النار.
- إذا كان الله غير موجود ولم أومن به = فالربح هنا محدود.
و يرى باسكال أنه إذا كانت هناك أدنى فرصة لوجود الله -حتى ولو كانت فرصة منخفضة- فإن الأحمق فقط هو من سيراهن ضد وجود الله.
رغم أن باسكال انتهج نهجا براغماتيا في واحدة من أكبر القضايا الوجودية وهي مسألة وجود الخالق، إلا أنه نجح في وضع النسق الإلحادي في مأزق حقيقي، وبَيَّن تهافته بطريقة رياضية محكمة بعيدا عن الجدليات الفارغة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــالمراجع:
[1] : الأخلاق عند بليز باسكال و فلسفة الإنسان، راوية عبد المنعم عباس، ص: 33
[2] : نفس المرجع، ص: 251
[3] : نفس المرجع، ص: 49
[4] : الأخلاق عند بليز باسكال و فلسفة الإنسان، راوية عبد المنعم عباس، ص: 10
[5] : خواطر، بليز باسكال، ص: 84
[6] : الفلسفة الأسس، نايجل واربرتون، ص: 97، إصدارات مركز نماء للبحوث والدراسات.
المصدر مركز يقين
إرسال تعليق