0

 يحمل القرآن الكريم لنا كل صور التسامح والرحمة، ويواجه كل صور التعصب والتشدد الديني، فالدين الخاتم الذي يحمل هذا الكتاب المقدس تعاليمه جاء ليواجه كل صور الغلو والتشدد في أمور العقيدة والشريعة والسلوك والمفاهيم والأخلاق.. وأول طريق الهداية هو أن نتعامل مع الآخرين بتسامح ورحمة، ونؤمن بحق الاختلاف في الفكر والعقيدة، وألا نصادر حريات الآخرين، فهذا هو حكم الله، وتلك هي سنته في خلقه التي سجلها لنا القرآن الكريم.


العالم والمفكر الإسلامي د. محمود حمدي زقزوق، عضو هيئة كبار العلماء ورئيس مركز الحوار بالأزهر، يحدثنا عن ملامح الحرية الفكرية، كما جاءت في كتاب الله فيقول: القرآن الكريم أبدع في تقرير هذه الحرية، وفرض على المسلمين احترام عقائد المخالفين؛ بل فرض على المسلمين الإيمان بالأديان السماوية السابقة، وجعل ذلك جزءاً لا يتجزأ من عقيدة المسلم.

حرية الاختيار

وتبدأ منظومة الحرية الفكرية في الإسلام ب«حرية العقيدة» وهي تعني ألا يُكره إنسان على عقيدة ما، وألا يضار بسبب عقيدة يؤمن بها، فالله عز وجل يقول: «لا إكراه في الدين، قد تبين الرشد من الغي، فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم».
وحرية الاعتقاد من أبرز حقوق الإنسان التي أقرها القرآن الكريم، والنصوص القرآنية التي تؤكد حق الإنسان في اعتناق العقيدة التي يطمئن لها قلبه ويستريح لها ضميره كثيرة ومتنوعة، فالله سبحانه وتعالى يعطي الإنسان حرية الاختيار حتى بين الإيمان والكفر: «فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر»، ويوجه رسوله الكريم إلى ترك حرية اختيار العقيدة للإنسان؛ بعد أن يوضح له طريق الحق والخير ويقول له: «أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين».
وما جاء به القرآن في مجال حرية الاعتقاد هو قمة الاحترام والتقدير لعقل الإنسان وضميره، فالله سبحانه وتعالى منح الإنسان عقلاً يميز به بين الحق والباطل، وأعطاه حرية الاختيار حتى بين قبول طاعة الله أو عصيانه، وبين الإيمان والكفر، والحرية على النقيض تماماً من العبودية، فالإنسان دائماً في موقف الاختيار؛ ولذلك فهو مسؤول عما يفعل ويتحمل نتيجة اختياره «من عمل صالحاً فلنفسه ومن أساء فعليها».
وعطاء القرآن في حرية الاعتقاد يتجلى في أسمى صوره في رفض أسلوب الإكراه على العقائد؛ حيث يحسم الخالق سبحانه وتعالى هذه القضية في وضوح تام: «لا إكراه في الدين»، فلا يجوز وفق تعاليم القرآن إرغام أحد على ترك دينه، واعتناق دين آخر فحرية الإنسان في اختيار دينه هي أساس الاعتقاد وإقرار الحرية الدينية في الإسلام يعني الاعتراف بالتعددية الدينية.

احترام العقل

وعن منهج القرآن في الدعوة إلى الإسلام، يؤكد عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر، أن تعاليم القرآن هنا تبرهن على احترامه لعقل الإنسان وإرادته واختياره، وتحديد هويته الدينية، فالدعوة إلى الإسلام تقوم على الاقتناع التام، ومنهجها ووسائلها تحدده الآية الكريمة: «ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن»، فهي دعوة لا تقوم على التقليد والإرغام.
ويضيف د. زقزوق: انطلاقاً من منهج القرآن في الدعوة كان الموقف الإسلامي الواضح والحاسم الذي يعطي لكل إنسان الحرية في اعتقاد ما يشاء، وأن يتبنى لنفسه من الأفكار ما يريد، وحتى ولو كان ما يعتقده أفكاراً إلحادية، فلا يستطيع أحد أن يمنعه من ذلك طالما أنه يحتفظ بهذه الأفكار لنفسه ولا يؤذي بها أحداً من الناس.. أما إذا حاول نشر هذه الأفكار التي تتناقض مع معتقدات الناس، وتتعارض مع قيمهم التي يدينون لها بالولاء، فإنه يكون بذلك قد اعتدى على النظام العام للدولة بإثارة الفتنة والشكوك في نفوس الناس، وأي إنسان يعتدي على النظام العام للدولة في أية أمة من الأمم يتعرض للعقاب، الذي يصل في معظم الدول إلى القتل فعقوبة المرتد في الشريعة الإسلامية ليست لأنه ارتد، ولكن لإثارته الفتنة والبلبلة وتعكير النظام العام في الدولة الإسلامية، أما إذا ارتد بينه وبين نفسه من دون أن ينشر ذلك بين الناس، ويثير الشكوك في نفوسهم، فلا يستطيع أحد أن يتعرض له بسوء، فالله وحده هو المطلع على ما تخفي الصدور.

شهادة التاريخ

وحقائق التاريخ تشهد للمسلمين- كما يقول د. زقزوق - بكل ما هو سامٍ ونبيل في مسألة الحرية الدينية فقد كان لحكام المسلمين وعلمائهم في كل العصور مواقف مشهودة تجسد الموقف الإسلامي الذي يشع سماحة ورحمة في التعامل مع غير المسلمين؛ ذلك أنه من الثابت تاريخياً وواقعياً أن المسلمين طبقوا عملياً ما جاءت به النصوص القرآنية في مسألة حرية الاعتقاد، ولم يلجأوا في يوم من الأيام إلى إكراه أحد على الدخول في الإسلام، وإنما كانوا إذا فتحوا بلداً من البلاد عرضوا على أهله الإسلام، فإن دخلوا فيه عن اقتناع فبها ونعمت، وإن أبوا إلا البقاء على دينهم وعقيدتهم، تركوهم وشأنهم وعاملوهم المعاملة العادلة التي جاء بها القرآن، وقررتها شريعة الإسلام.
والذي يرجع إلى سبب نزول قوله تعالى: «لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي» يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقبل من رجل دخل في الإسلام أن يجبر ولديه على ترك دينهما وعلى اعتناق الإسلام.

وصاية مرفوضة

وانطلاقاً من دستور القرآن الخالد بحرية الاعتقاد يؤكد د. زقزوق رفض الإسلام للجماعات المتشددة التي تحاول إكراه الناس على الإسلام، فالإسلام لم يجعل لأحد من دعاته حق إكراه الناس على أداء فريضة، ولا حق عقاب فرد على إهمال واجب من الواجبات الدينية؛ ولذلك فإن ما يفعله بعض المتدينين مع بعض الناس المقصرين في أداء التكاليف الدينية يخرج عن نطاق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وفق الضوابط والقواعد الشرعية.
ويضيف: لابد أن يعلم هؤلاء المتنطعون أن الناس جميعاً أمام الله سواء لا فضل لأحد على آخر إلا بالتقوى والعمل الصالح، والدين اقتناع داخلي لا يتفق مع الضغط الخارجي أو الإكراه، فالإكراه في الدين يولد منافقين لا مؤمنين، والله سبحانه - وهو هادينا إلى سواء السبيل - ليس في حاجة إلى نفاق المنافقين، ولتأكيد ذلك قرر القرآن الكريم مبدأ حرية العقيدة من خلال النصوص السابقة، وبين أنه ليس هناك سلطان بشري على عقائد الناس، وحتى النبي صلى الله عليه وسلم ليس له سلطان على الناس في معتقداتهم وفي ذلك يقول القرآن: «ما على الرسول إلا البلاغ»، ويقول أيضاً: «لست عليهم بمسيطر».

حرية يكفلها القرآن

المفكر الإسلامي د. محمد عبد الغني شامة، أستاذ الثقافة الإسلامية بجامعة الأزهر، يؤكد كفالة القرآن لحرية الفكر والعقيدة؛ بل يفرضها الله على المؤمنين به تكليفاً، ويلزمهم بها تجاه غيرهم ديناً وعقيدة وسلوكاً، فقد بدأ أولاً بتعليم الرسول صلى الله عليه وسلم هذا المبدأ الجديد على الإنسانية، حتى لا يدفعه حرصه على الإيمان إلى أن يأخذ الناس قسراً فيكرههم على اعتناق الإسلام، وهو ما يأباه الإسلام نصًّا وروحاً، فاعتناق الإسلام بالإكراه من دون اقتناع يعده الإسلام نفاقاً، والنفاق في الإسلام من الكفر الصريح، ولذا تقوم الدعوة إلى الإسلام على الرضا والاقتناع.
ويضيف د. شامة: لقد بين القرآن الكريم لرسولنا الخاتم محمد صلى الله عليه وسلم أن المسلم لا يكون إسلامه صحيحاً إلا إذا انتفى عنصر الإكراه في اعتناقه هذا الدين، ولهذا لم يتدخل الله في حمل الناس على الإسلام، يقول تعالى: «ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين»، ويقول: «لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي».. فإقرار الحرية في الاعتقاد يُشْعِر الناس بأنهم مسؤولون مسؤولية كاملة في اختيار عقيدتهم؛ إذ لا يتدخل أحد في إكراههم على اعتناق هذه العقيدة أو تلك، ولذلك فتبعة الاختيار ملقاة على عاتقهم هم، وما على الرسل، عليهم السلام، إلا أن يبلغوهم بما أنزل الله، وهم أحرار بعد أن سمعوا وحي الله فيما يختارون، فمهمة الرسول البلاغ فقط، يقول تعالى: «فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد»، ويقول: «وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شيء كذلك فعل الذين من قبلهم فهل على الرسل إلا البلاغ المبين»، ويقول: «فإن توليتم فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين».

إرسال تعليق

 
Top