0
رسالة الإسلام رسالة خالدة، لا يبليها مرور الزمان، ولا ينقص قيمتها توالي الأيام، إذ هي الرسالة التي أراد الله أن تكون مشكاة للبشرية، تهتدي بنورها، وتستضيء بتعاليمها، وتسير على مقتضى تخطيطاتها وأوامرها. وهي الرسالة التي تستمد أسسها من السماء، وتجعل الإنسان يسير في هذه الحياة الدنيا على بصيرة من أمره، مهتديا بالهدي الإلاهي، ومبتعدا عن التخبط في ميادين الوهم والزيغ والضلال .
والرسالة الإسلامية إلى ذلك كله رسالة إلى الإنسانية كافة، يهتدي بهديها الأبيض والأسود، وتلتقي فيها مختلف الشعوب والأمم والجماعات والأفراد، (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) [سبأ: 28].
لقد أتى رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم بهذه الرسالة من ربه، ليهدي بها قوما أضلتهم العماية، وأغوتهم أضاليل الأهواء، فهي كما عبر عن ذلك الصحابي الجليل عندما قابل نجاشي الحبشة حيث قال: (( أيها الملك كنا قوما أهل جاهلية، نعبد الأصنام ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الرحم، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله لنا رسولا كما بعث الرسل من قبلنا، وذلك الرسول منا، نعرف نسبه وصدق أمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنعبده ونوحده، أمرنا بالصلاة والزكاة والصيام، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الأرحام، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنة فصدقناه وآمنا به، واتبعناه على ما جاء به )).
لقد اعتنت الرسالة الإسلامية أول ما اعتنت به، بتثبيت العقيدة في النفوس، وتركيز الإيمان  بالله، وبوحدانيته وبوجوده، وبكماله المطلق، وأنه سبحانه مصدر هذا الوجود، ومبدع هذا الكون، فجميع ما في الكون إنما هو إشعاع منه تعالى، منه أتى، وإليه يعود، إذ هو الحقيقة المطلقة. وهو المدبر للعوالم كلها، علويها وسفليها، غائبها وحاضرها، (لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأرض يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [الحديد: 2-3]
و الإسلام عندما يرفع من قيمة الإنسان بالتوحيد، ويعلي قدره بالإيمان ، ويكرمه بالخلافة في الأرض، يأمره بأداء رسالته في الحياة ليعالج مشاكلها المختلفة، ويسخرها في الطبيعة لمصلحته، ومصلحة الإنسانية جمعاء.
ونظرة الإسلام إلى الحياة نظرة شاملة كاملة، لا تعتني بجانب دون جانب، ولا تهتم بحالة دون أخرى، لأن رسالة الإسلام، وهي آخر رسالة من السماء إلى الأرض، وصاحبها خاتم النبيين والمرسلين، لابد أن تكون محيطة بجميع ما تتطلبه الحياة وتقدمها ، ولا بد أن تكون مهتمة بجميع مشاكلها وقضاياها، وإلا فإنها ستكون غير صالحة، وبالتالي لا تجد فيها الإنسانية علاجات مشاكلها المستجدة على تعاقب الأيام والأعوام والقرون .
ومن هنا كانت الرسالة الإسلامية رسالة خالدة، لأن مبادئها الإسلامية مبادئ ثابتة، ولأنها أتت بأصول تستمد منها الإنسانية، وتأخذ منها قالبها مهما تطورت أحوال الزمان والمكان .
ورسالة الإسلام رسالة إلاهية، يبلغ الرسول عنها ما أنزل إليه من ربه؛ (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ) [المائدة: 67]، فهي ليست من إنتاج عقل الرسول، ولا من وحي نفسه، وإنما هي وحي يوحى إليه، فهي منهاج إلاهي، حسب الرسول فيها التبليغ بمنتهى الصدق، والصدق بغاية الإخلاص. و لذلك كانت رسالة خالدة لأن تعاليمها مستوحاة من الذي يعلم السر وأخفى، ولأن أوامرها مستمدة من الذي خلق الكون والإنسان، وخط له المنهاج الذي ينبغي أن يسير فيه، والوجهة التي عليه أن يتجه إليها، حتى لا تزيغ به الأهواء، وتتعدد عليه السبل .
ثم إن رسالة الإسلام رسالة مرنة، لأنها في الواقع مستمدة من القرآن، من المبادئ والأصول المرنة، ما يجعلها صالحة لكل ظرف ولكل مكان، لأن الذي أمر بها وهو الحق سبحانه عزت قدرته، أحاط بالكون علما، فهو العليم بالمكنونات، وهو الخبير بكل ما هو آت، فلا تخفى عليه سبحانه خافية، والكون كله في قبضته فسبحانه من إله تعالت صفاته وتقدست أسماؤه. سبق في علمه ما يكون عليه الكون، وما تتطور فيه الحضارات على مقتضى علمه وإرادته، فأفسح المجال للعقل الإنساني، لأداء رسالته الحضارية، وجعل دينه الحق، الذي ارتضاه لعباده، دينا تؤيده العقول، ولا تضيق به ابتكارات العلوم. ولا يزيده مرور الأيام وتعاقب الأزمان إلا مرونة وصلابة، ولا تزيد البشرية معه إلا انصياعا وانقيادا واعترافا بوحدانية المدبر الحكيم.
وإذا كان القرآن الكريم والسنة النبوية يعتبران المصدر الحقيقي لرسالة الإسلام، فإن المصدرين الآخرين اللذين اتفقت عليهما الأمة الإسلامية، وهما الإجماع والقياس، يعتبران في الحقيقة من أهم المميزات اللاتي يمتاز بها الإسلام، واللاتي فسح الله بهما المجال للعقل الإنساني ليقرر المصالح العامة، ما فيه خير الإنسانية، وما اقتضته التطورات الحضارية، وما جد في الحياة من مشكلات سواء في ميدان التشريع أو الاقتصاد أو الاجتماع .
وإن المتتبع لأصول أدلة الشرع الإسلامي ليقف إعجابا بالأحكام التي استنبطها العلماء المسلمون من المبادئ والأسس الأولى ليحافظوا على المقاصد الشرعية التي ترعى المصالح العامة لبني الإنسان، وليدفعوا كل مفسدة يتضرر منها الخلق سواء في حياتهم العاجلة أو الآجلة .
إن العمل بالمصالح المرسلة، ليعتبر من أفسح المجالات التي أتى بها التشريع الإسلامي، واليسر الذي أتت به رسالة الإسلام، إذ (( مقصودها المحافظة على مقصود الشرع، بدفع المفاسد عن الخلق ورعاية مصالحهم )) والتغلب على المشاكل التي تحدث بتطور الزمان، والقضايا التي تجد بتقدم الحضارات .
ومن هنا كان الإسلام دين الحضارة الإنسانية، لأن مبادئه لا تضيق أمام تطور الأحداث ولأن أصوله صالحة لأن يستمد منها في كل العصور والأزمان .
إن رسالة الإسلام ليست بالرسالة المتحجرة العقيمة ولا بالرسالة التي اقتصرت مهمتها على تنظيم العلاقة بين العبد وربه، ولكنها رسالة أتت لإصلاح المجتمع في شتى مناحي الحياة فيه، فعلى مقدار ما كانت مهتمة بتزكية النفوس الإنسانية وتطهيرها حتى تصبح قريبة من ربها، بمقدار ما اهتمت بالمصالح الحياتية لبني الإنسان، سواء في حياتهم الاجتماعية أو الاقتصادية أو السياسية، زيادة على ءاداب السلوك الذي نعبر عنه بمكارم الأخلاق .
ونظرة خاطفة في القرآن الكريم، وتصفح خفيف لمحكم آياته، تعطيان الدليل على أن رسالة الإسلام كانت رسالة هادفة إلى تحقيق السعادة لبني الإنسان، سواء في ميدان الروح أو ميدان المادة، في ميدان الدين أو ميدان الدنيا، لأن الإسلام هو دين الله الخالد، يعتبر بحق دين التوازن في الحياة، فتعاليمه كلها متوازنة، ونظراته وأحكامه جميعها متعادلة، فهو إذ يهتم بالجانب الروحي في بني الإنسان يهتم بالجانب المادي فيه، لأن الله، وقد سخر الطبيعة بجميع ما فيها للإنسان، أراد منه أن يستفيد منها في حياته الدينية والدنيوية، ما يساعده على إصلاح شأنه، وتقوية عزائمه والسير قدما بحضارته، وبسط روح المحبة والعدالة والتضامن بين جميع إخوانه.   
فالإسلام ليس بالدين المغلق المنكمش على نفسه، وليس بالدين الروحاني الذي أمر أتباعه أن يتخلوا عن مباهج الحياة وزينتها،  ويفروا إلى الصومعات والخلوات، ليتعبدوا فيها، وإنما قال في كتابه الكريم: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ) [الأعراف: 32] وقال على لسان رسوله: (( اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا ))، وهذه التعاليم الإسلامية على اختلافها وتعددها تلاحظ مدونة مسطرة في الكتاب المنزل من السماء، وفي السنة النبوية  الطاهرة التي احتفظ بها في الأسانيد الصحاح .
كما تتجلى واضحة حية في سيرة الرسول: أعماله وسلوكه، وجميع تصرفات حياته، فلقد كانت حياته صلى الله عليه وسلم وتصرفاته وأخلاقه، تطبيقا لتعاليم القرآن، حتى أن عائشة رضي الله عنها أجابت لما سئلت عن أخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كان خلقه القرآن"، وهذه ميزة أخرى يمتاز بها الإسلام، فتعاليمه وأخلاقه لم تكن تعاليم نظرية متخيلة، مثل بعض الأفكار والنظريات التي تخيلها أو كتبها بعض الفلاسفة أو المتنبئين الذين لم يستطيعوا أن يبرهنوا على صلاحيتها في حياتهم أو سلوكهم، وإنما كانت التعاليم التي أتى بها تعاليم، برهن على صلاحيتها بأن يطبقها في حياته وسلوكه العملي وكان صحابته الكرام يرونها بأعينهم وكأنها تمشي على رجلين. وظهر أثرها واضحا كذلك عندما طبقها صحابته الكرام، والصالحون من أبناء الأمة الإسلامية على اختلاف الدهور والعصور. فالوصايا الأخلاقية والتعاليم الاجتماعية، والإصلاحات الاقتصادية  والسياسية، كل ذلك تجلى في سيرة الرسول وسيرة صحابته الراشدين، حيث كان عصرهم يدعى بحق عصر القرآن وعصر تعاليم القرآن، وحيث كان مجتمعهم مجتمعا قرآنيا، لا تجد فيه انحرافا ولا تلاحظ فيه أي اضطراب أو تضاد .
و بعد، فلقد كان بودي أن أتحدث بنوع من التفصيل عن رسالة الإسلام في الميادين الاجتماعية  والأخلاقية والاقتصادية والسياسية وغيرها من الجوانب التي اهتم بها الإسلام، ولكني لم أستطع ذلك في مثل هذه العجالة، فلأرجئ هذا الموضوع إلى مناسبة أرجو أن تكون قريبة، ولأكتف بما كتبت مساهمة في ذكرى مرور أربعة عشر قرنا على بعثة الرسول محمد عليه السلام، سائلا الباري عزت قدرته أن يمدنا بقوة منه، حتى نسير في هدى سيدنا رسول الله، ونتبع خطاه ونقتبس من أنواره ما ينير أمامنا السبل، ويهدينا إلى المحجة البيضاء ، (رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ) [آل عمران: 8] صدق الله العظيم.

إرسال تعليق

 
Top