0

لماذا نحج؟


ينبغي للمؤمن الحريص على عمله، الراجي الحصول على أفضل الثمرات منه: أن يسأل نفسه قبل العمل سؤالين: لماذا؟ وكيف؟ فإذا صلى، سأل نفسه: لماذا أصلي؟ وكيف أصلي؟ وكذلك إذا زكَّى، وإذا برَّ والديه، وإذا عامل الناس بالحُسنى، ونحو ذلك؛ وذلك ليحقق أمرين، هما سبب صلاح العمل أو فساده: الأول: تحقيق الإخلاص لله تعالى، وهو جواب: (لماذا؟)، والثاني: تحقيق الاتِّباع للنبي صلى الله عليه وسلم، وهو جواب: (كيف؟).

ولذا كان على الحاج أن يسأل نفسه - وهو مُقبل على هذه الرحلة العظيمة إلى الله - هذين السؤالين: لماذا يحج؟ وكيف يحج؟ ليحقق الإخلاص وأفضل النيات في حجه، وليحج على الكيفية التي أقرَّها رسول الله صلى الله عليه وسلم وشرَعَها، ومقالنا هذا يهتمُّ بالإجابة على السؤال الأول: (لماذا نحجُّ؟)، أما الكيفية فلها مقال ومقام آخر.

إنَّ كثيرًا من الحُجَّاج يَنشغلون قبل سفرهم إلى الحج، بتجهيز الأشياء التي تجعل رحلتهم سهلة، دون منغِّصات أو مكدِّرات، من أوراق وإجراءات، وأموال وثياب... ونحوها، ويجهِّزون الحقائب بكل ما ينبغي أخذه؛ حتى لا يعطِّل أو يؤخِّر سفرَهم شيءٌ، ويظل الحاج قبل سفره - أيامًا ولياليَ - مشغولاً، يفكر فيما ينبغي أخذه من أغراض، وما ينبغي عمله من إجراءات، ويسأل هذا ويسأل ذاك.

وهذا الاستعداد مطلوب ولا شك؛ فالإسلام يطلب من المسلم أن يَكفي نفسه وأسرته الحاجة إلى الناس، ويطلب منه الاستعداد لأي أمر ذي بال أفضل استعداد، وفي رحلة الحج أمَرَ الله - تبارك وتعالى - عباده بالتزود لها، فقال تعالى: ﴿ الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا ﴾ [البقرة: 197]، فأمر بالزاد، ولكنه سبحانه بيَّن لعباده أن أهم ما ينبغي التزود منه في هذه الرحلة هو التقوى، فقال تعالى: ﴿ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ ﴾ [البقرة: 197]، وهو أكثر ما يغفل الناس عنه قبل السفر للحج، وللأسف.

والإخلاص هو أساس التقوى وعمودها، فلا يحقق التقوى إلا من كان مخلصًا؛ ولذا سمى الله كلمة الإخلاص: (كلمة التقوى)، فقال تعالى: ﴿ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى ﴾ [الفتح: 26]، قال مجاهد: ﴿ كلمة التقوى ﴾: الإخلاص، وقال عطاء بن أبي رباح: "هي لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير" اهـ، وقال الله عن الهدايا والضحايا: ﴿ لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ ﴾ [الحج: 37]؛ أي: إخلاصكم في ذبحها له سبحانه؛ لتكون وقاية بينكم وبين عقابه.

ويستطيع الحاج - ببعض التفكر والتدبر في مقصده من هذه الرحلة - أن يستحضر نيات كثيرة، يُجيب من خلالها عن سؤال: (لماذا نحجُّ؟)، فيُحصِّل من خلالها الإخلاص والتقوى، ويَجني أفضل الثمرات؛ فيرجع من حجه وقد ذاق ألوانًا من أسرار هذه العبادة.

ومن أهم وأعظم النيات التي ينبغي للحاج أن يقصدها في رحلته المباركة إلى الله، ثلاثة:
الأوَّل: الفرار إلى الله:
بمعنى أن يقصد ترك أهله ووطنه، وعمله، وماله، وأصدقائه، وأقربائه، وكل من يحب، وما يحب، فرارًا إلى الله.

وهو فرار ليس بالدائم، فهو ﻻ محالة عائد إلى هؤلاء مرة أخرى، إن قدَّر الله له بقاء. ولكنه يعود بقلب جديد، وعمل سديد، وعزم شديد، يعود وقد أعاد ترتيب حياته، وعرف أولوياته، يعود بقلب ألِفَ العبادة وأحبَّها، وصارت له مثل الماء والهواء.

يقول الله تعالى: ﴿ فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ ﴾ [الذاريات:50]، قال ابن عباس: فِرُّوا منه إليه، واعملوا بطاعته، وقال سهل بن عبدالله: فِرُّوا مما سوى الله إلى الله، وقال آخرون: اهربوا من عذاب الله إلى ثوابه، بالإيمان والطاعة.

فلا يتحقَّق (الفرار إلى الله) بترك الوطن والأهل.. ونحوه، دون الفرار من حظوظ النفس وأهوائها، إلى مُراد الله ورضوانه، فالفرار يكون بتمام الإقبال على الله، واﻷنس به، واستحضار عظمته في القلب في كل عمل، ومحاولة إشغال القلب به وحده، فيفرُّ من تذكر أي شيء من أجله، ولوﻻ أن الله فرض عليه الاطمئنان على أهله وأوﻻده، ما كلَّمهم ولا تواصَلَ معهم؛ ولذا يكون هذا التواصل بقدر، وبما يحقق الغرض فقط، فيكون القرب من النَّاس لحاجة، والفرار من كل شيء إلى الله هو الأصل.

ولذا قالوا: من صحَّ فراره إلى الله، تذوق ألوانًا من أسرار العبادات، فسَكَنَ قلبُه واطمأنَّ، وزالت وحشة فؤاده، وذهب ضيق صدره، ورُزق حياة طيبة مطمئنة، لو ملك ما في الأرض جميعًا ليَشتريها ما استطاع الحصول عليها؛ قال تعالى: ﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ﴾ [النحل: 97]، والذي سمَّاها ﴿ حَيَاةً طَيِّبَةً هو الله، فلك أن تتخيل كيف تكون طِيبَة هذه الحياة؟! هذا في الدنيا، وأما في الآخرة: ﴿ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [النحل: 97].

وحينما يعود الإنسان من هذه الرحلة، بهذا القلب الذي ذاق حلاوة القرب من الله، تتغير أشياء كثيرة في حياته، ويدرك - بعين قلبه - أخطاءه ومعاصيَه، فيعدل من مسيرة حياته، ويضبط بوصلتها على الصراط المستقيم، الذي يُرضي الله - تبارك وتعالى.

وينبغي العلم أن الفرار إلى الله لا يتحقق في الحج فقط، فهو يتحقق في الصلاة والاعتكاف، وغيرها من العبادات، وإنما كان الحج فرصة عظيمة لتحقيق هذا المعنى؛ لأن جميع الظروف مهيأة، والقلب مجتمع شمله، والصحبة صالحة، وكل ما حولك يدفعك - غالبًا - إلى التفكر في الله، والانشغال به.

الثاني: الهجرة إلى الله:
ومن النيات العظيمة في هذه الرحلة: قصد الهجرة إلى الله، والهجرة من الهَجْر، قال صلى الله عليه وسلم: ((والمهاجر: مَن هجر ما نهى الله عنه))، والهجرة في الحج بمعنى: هجر المعاصي والذنوب، وهجر أصحابها، وهجر بيئاتها، وهجر عوائدها، وهجر كل ما يؤدي إلى سخط الله وغضبه، فقد يُبتلى المسلم بمعصية دائمة، كلما تاب منها عاد إليها، وهو يسعى جاهدًا بكل سبيل إلى التخلص منها، ولا يستطيع، وقد تكون لهذه المعصية أسباب ومسببات، تسهِّل وقوعها، فإذا استطاع الإنسان أن يخلع نفسه من هذه الأسباب والمسببات، وهذه العوائد التي تصاحب وتسبب وقوع المعصية، سهل عليه تركها، والابتعاد عنها.

فقد يُبتلى مسلم بالتدخين مثلاً، وهو آفة عظيمة وخطيرة، قد يعظم خطرها على الفاحشة الكبرى (الزنا)؛ لأنها من المعاصي الظاهرة، التي يُجاهر أصحابها بها، وفي البخاري: قال صلى الله عليه وسلم: ((كلُّ أُمَّتي مُعافًى إلا المُجاهرين))، فربما ابتلي إنسان بالزنا فستر نفسه فتاب الله عليه، ويُبتلى آخر بالتدخين، فيجاهر به في كل مجلس، ومع كل أحد، وهو يعلم أنه حرام؛ لا يخالف في هذا أحد من علماء العصر.

وغالبًا ما تكون لهذه المعصية (التدخين) عادات تُصاحبها، كأن يستيقظ مبكرًا ليشرب فنجانًا من القهوة ومعه (سيجارة)، ويجالس فلانًا وفلانًا فيشرب معهم، ونحو ذلك من العادات والهيئات، التي تكون سببًا لوقوع المعصية.

فإذا هجر الإنسان هذه العادات وهذه البيئات، فإن تركه للمعصية يكون أيسَر، والانشغال عنها يكون أكثر.

ولذا كانت وصية العالم لقاتل المائة نفس - وهو يدله على طريق التوبة - أن يُهاجر من الأرض التي يعصي الله فيها، إلى أرض فيها قوم يعبدون الله، وهي وصية ناجحة ناجعة، فهجران أسباب المعصية وأهلها، من أكثر الأسباب التي تُعين الإنسان على ترك المعصية، وقد كانت هذه الهجرة إلى الله سببًا في حسن خاتمته، فحرَّك الله له الأرض الهامدة الجامدة.

والحج فرصة عظيمة لتحقيق مقصد الهجرة إلى الله، بهجر المعاصي، وأسبابها، وأهلها، والعادات المصاحِبة لها.

وهذا ما يلمسه الحاج في شعار الحج: "لبَّيك اللهم لبيك"؛ أي: جئتُك جئتك، يعني: تركت كل شيء لأجلك، ومتى شعر الملبي بهذا المعنى وهذا المقصد، وجَدَ للتلبية طَعمًا، وللنداء حلاوةً، ويشعر بعظم من يناجي وينادي.

الثالث: التبتُّل:
ومن المقاصد العظيمة التي يَنبغي استحضارها في هذه الرحلة: "التبتُّل إلى الله"، وهو يعني: الانقطاع لعبادته سبحانه؛ يقول تعالى: ﴿ وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا ﴾ [المزمل: 8]، قال ابن كثير: أي: أكثِر مِن ذِكره، وانقطع إليه، وتفرَّغ لعبادته إذا فرغت من أشغالك، وما تحتاج إليه من أمور دنياك، كما قال: ﴿ فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ ﴾ [الشرح: 7]؛ أي: إذا فرغت من مهامك، فانصب في طاعته وعبادته؛ لتكون فارغ البال.

فمع زحمة الحياة وهمومها، وانشغالاتها وضغوطها، وشتات القلبِ وتفرُّقه، والمأساة في التعامل مع الناس ودنياهم، يجد الإنسان نفسه مقصِّرًا في عباداته، يكابد المشاق في تحقيق الخشوع فيها، فيُصلي وهو يعاني مجاهدة النفس، واستحضار الذهن، وخشوع القلب، ويخرج الإنسان من صلاته وقلبه يعصره الألم، لما فقد من تركيز فيها، يقول: أهذه صلاة تعرض على الله؟

كل ذلك يجعل الإنسان يتوق إلى خَلوة حصينة، يخلو فيها مع ربه وإلهه، وسيده ومولاه، وحبيبه ومطلوبه، يتخلَّص فيها من كل شيء، ومن كل أحد، ويجتمع همُّ قلبه وكلُّ مشاعره وأحاسيسه، بل وكلُّ حواسِّه على الله وحده، مبتعدًا فيها عن الشواغل، منصرفًا عن كل ما سوى الله.

وقد كان من نصائح بعض شيوخنا أن نخرج كل فترة إلى أبعد مسجد في البلد الذي نعيش فيه، ننقطِع فيه لساعات، لا يعرف الإنسان فيه أحد، ولا يهتم له أحد، يُناجي ربه، ويخلو بسيده، يتفكر في ذنوبه وعيوبه، ويتوب منها، وينظر في أمر آخرته، وأين هو من الصراط المستقيم!

والتبتُّل الحقيقي يجمع أمرَين؛ كما قال ابن القيم - رحمه الله - في "مدارج السالكين": (التبتُّل يجمع أمرَين اتصالاً وانفِصالاً، لا يصحُّ إلا بهما، فالانفصال: انقطاع قلبه عن حظوظ النفس المزاحِمة لمراد الرب منه، وعن الْتِفات قلبه إلى ما سوى الله، خوفًا منه، أو رغبةً فيه، أو مبالاةً به، أو فكرًا فيه، بحيث يشغل قلبه عن الله، والاتصال: لا يصحُّ إلا بعد هذا الانفصال؛ وهو اتصال القلب بالله، وإقباله عليه، وإقامة وجهِه له، حبًّا وخوفًا ورجاءً، وإنابةً وتوكُّلاً) اهـ.

والحج فرصة عظيمة للتدرب الحقيقي على الانقطاع والتبتُّل لله - تبارك وتعالى - ليعود الإنسان بتفريغ البال والفكر لما يُرضي الله، فكأنه انقطاع عن الناس، وانحياز إلى جانب الله، وهو المعنى الحقيقي للتبتُّل؛ إذ ليس المقصود الانقطاع بالجسد والعُزلة عن الناس، بل المقصود الأسمى هو الانقطاع عن الانشغال بالدنيا، وتفريغ القلب لله سبحانه، مع مخالطة الناس.

وختامًا: ليست هذه هي كل النيات والمقاصد من هذه الرحلة المباركة، فهناك نيات كثيرة، يستطيع الحاج استحضارها قبل سفره؛ مثل: الحصول على أعلى الأجور، فمن رحمة الله أن جعل الطاعة في المسجد الحرام بمائة ألف، وفي مسجد حبيبه المصطفى صلى الله عليه وسلم الحسنة بألف قياسًا على الصلاة، وهذا ما ذهب إليه ابن عباس رضي الله عنهما، ومنها: مغفرة الذنوب والرجوع عاريًا من الذنوب كما ولدتْه أمه عارًيا منها؛ لما روي في الصحيحين: ((مَن حجَّ لله فلم يَرفُث ولم يَفسق، رجع كيوم ولدته أمُّه)).

ومنها: خدمة الحجاج في طريقهم وسفرهم، وأثناء تأدية المشاعر، ليأخذ من أجرهم.

ومنها: الإنفاق على الحجاج في عرفة وغيرها، وهناك الكثير والكثير من المقاصد يستطيع الحاج أن يستحضرها في رحلته للحج.

ولكن لا بد لهذه النيات من الاستعانة بالله - تبارك وتعالى - أولاً، ثم العمل الجاد لتحقيقها، والعودة بأفضل الثمرات من خلالها.

أسأل الله أن يتابع لنا بين الحج والعمرة، وأن يتقبل منا إنه سميع قريب، والحمد لله رب العالمين.


إرسال تعليق

 
Top