السؤال
لا أدري لماذا؟
وضعتُ لي أهدافًا، ورسمت الخطط والبرامج، والمقدار اليومي؛ لكني لم أفلح.
يا ليتها كانت مرَّة أو مرَّتين، لكانت دروسًا أتعلَّم منها النجاح؛ لكن المشكلة حينما تكون عادة.
مرَّت عليَّ الآن أربع سنوات ونصف وأنا أدور في حلْقة مفرغة، كلَّ بداية
فصل أضع لي أهدافًا علميَّة وعمليَّة، من علم شرعي بفنونه، وتزكية للنفس
بالطاعات وقيام الليل، و..و..و..و ... إلخ، وأهداف اجتماعية، ثم في الآخر
أفشل فيها كلها، وأعود بخفَّي حنين.
يا الله! ما أقسى الحياةَ!
لماذا؟
هل كنت مثاليًّا - كما يقول أحد الإخوة - أم كنتُ عاليَ الهمَّة كما اعتقدَ؟... لا أدري.
كان هدفي الأعظم أن أكون على خُطى حبيبي محمَّد - صلَّى الله عليه وسلَّم -
وأن أكون مثله داعيةً إلى الله، وعالمًا بشريعة ربِّه وعابدًا.
لماذا؟... لا أدري.
لماذا لم أتغير، وأنا هو أنا؟ وأنا الذي أسعى للتَّغيير وأدعو الغير للتغْيير، لماذا؟... لا أدري.
هل أنا أمشي في طريق لا يصلح لي مع أني أحبه وأعشقه ومستعد للتَّضحية من أجلِه؟
لماذا؟... لا أدري.
ملِلت وكللتُ وتعبتُ وتعست.
لماذا دائمًا تأتيني خواطر وأفكار تشغلني عمَّا أنا فيه، وتأخذ عليَّ وقتي؟
لماذا؟... لا أدري.
أكنت مثاليًّا ووضعتُ شيئًا فوق قدراتي وإمكاناتي؟... لا أدري
أكنت قليل الإخلاص وعندي حب للشُّهرة؟... لا أدري.
لماذا لم أستفد من أخطائي التي سبق أن مررْتُ بها مع هذا الفشل الذَّريع؟
لماذا؟ ولماذا؟ ولماذا؟
لكن، ألا يكون قدر الله شاء ألا أكون وأنا شئتُ أن أكون؟... لا أدري.
وَعَيْشُ المَرْءِ فِي هَمٍّ وَغَمٍّ بَلاءٌ لَيْسَ يُشْبِهُهُ بَلاءُ |
أتمنى أن تساعدوني وأن تدلُّوني على طريق الحقِّ فقد بلغت الحلقوم.
الجواب
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
مرحبًا بك - ابنَنا عبدَالله - في موقعك "الألوكة".
ونسأل الله أن يمنَّ عليْك بالتَّوفيق والسداد في أمورِك كلها.
لك منِّي تحيَّة بالغة على جهودِك السَّابقة في سبيل الوصول إلى العِلْم
الشرعي، فقد أصغَيْتَ إلى وصيَّة السَّادة العلماء في بذْل الجهد الكبير
للتعلُّم، وتوجَّهت بكلِّ همَّتك لذلك - كما ذكرْتَ - قال الحكمي في
المنظومة الميميَّة في الوصايا والآداب العلميَّة:
وَاجْهَدْ بِعَزْمٍ قَوِيٍّ لا انْثِنَاءَ لَهُ لَوْ يَعْلَمُ المَرْءُ قَدْرَ العِلْمِ لَمْ يَنَمِ |
وقد كان سلفُنا - رحِمهم الله أجمعين
- يتفانَون في حفْظِ العلم ونقله، ببذل أوقاتِهم وأموالِهم وقوَّتهم، دون
أن يضنُّوا من ذلك بشيء، والواجب على طالب العِلْم أن يتحيَّن الفرص
ويكيِّف نفسَه معها، لا أن يريد تكييف الفرَصِ على حسْب حاله هو، قال
أحدهم:
إِذَا كَانَ يُؤْذِيكَ حَرُّ المَصِيفِ وَيُبْسُ الخَرِيفِ وَبَرْدُ الشِّتَاوَيُلْهِيكَ حُسْنُ زَمَانِ الرَّبِيعِ فَأَخْذُكَ لِلْعِلْمِ قُلْ لِي: مَتَى؟! |
قالَ ابن عبَّاس - رضي الله عنه -: "ذَلَلْتُ طالبًا فعززت مَطْلوبًا".
وقال أيضًا: "ما حَدَّثَني أحَدٌ قَط حَدِيثًا فاستفْهَمته، فلقد كنتُ آتي
باب أُبي بن كعب وهو نائم، فأقيل على بابه، ولو علِم بمكاني لأحبَّ أن
يُوقَظَ لي؛ لمكاني من رسولِ الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم - ولكنِّي
أكره أن أُملَّه".
وقالَ يونُس بْنُ يزيد: قالَ لي ابن شهاب: "يا
يونس، لا تكابر العِلْم، فإنَّ العلم أودية، فأيَّها أخذتَ فيه، قَطَعَ
بِكَ قَبْلَ أنْ تبلغه، ولكن خُذْهُ معَ الأيامِ واللَّيالي، ولا تأخذ
العِلْمَ جُمْلَة؛ فإنَّ مَنْ رامَ أخْذَهُ جُمْلَة، ذهب عنه جُمْلَة،
ولكِنَّ الشَّيء بَعْدَ الشَّيءِ مع اللَّيالي والأيَامِ".
وقام
رجلٌ إلى ابن المبارك، فقال: يا أبا عبدالرحمن، في أَيِّ شيء أجعل فَضْلَ
يومي، في تعلُّمِ القرآن، أو في طلب العلم؟ فقال: "هل تقرأ من القرآن ما
تُقِيمُ به صلاتك؟" قالَ: نعَمْ، قَالَ: "فاجْعَلْهُ في طَلَبِ العلْمِ
الَّذي يُعْرَفُ بِه القُرْآن".
وعن فَرْقد إمام مسجد البَصْرة
قَالَ: دَخَلوا على سُفْيانَ الثَّوري في مَرَضِه الَّذِي مَات فِيه،
فَحدَّثه رَجُلٌ بِحديثٍ فأعْجَبَه، فضَرَبَ يَدَه إلى تَحْتِ فِرَاشِه،
فأخْرَجَ ألْوَاحًا له، فكَتَبَ ذَلِك الحدِيث، فقالوا له: على هذه الحال
منك؟ فقال: "إنَّهُ حَسَنٌ، فقَد سَمِعْتُ حَسنًا، وإنْ مِتُّ، فقَدْ
كَتَبْتُ حَسنًا".
إبراهيم بن الجرَّاح التميمي مولاهم - تلميذ
أبي يوسف وآخِر مَن روى عنه - قالَ: أتيتُ أبا يوسف أعُوده، فوجدتُه مغمًى
عليه، فلمَّا أفاق قالَ لي: يا إبراهيم، أيُّهما أَفْضَلُ في رَمْي
الجِمَارِ، أنْ يَرْميَها الرَّجُلُ راجِلاً أو راكبًا؟
فقلت: راكبًا، فقال: أخطأتَ.
قلتُ: ماشيًا، قالَ: أخطأتَ.
قلت: قُلْ فِيها - يَرْضى الله عنك.
قَالَ: أمَّا ما يُوقف عنده للدُّعاء، فالأفضل أن يرميَه راجلاً، وأمَّا ما كان لا يوقَف عنده، فالأفضل أن يرميَه راكبًا.
قالَ أبو حاتم: قالَ لي أبو زُرعة: ما رأيتُ أحْرَصَ على طَلَبِ الحديث
منك يا أبا حاتم! فقلت: إنَّ عبدالرحمن - يعني ولده - لحريص، فقال: مَنْ
أشبه أباه فما ظَلَمَ.
قَالَ الرَّقام - أحمد بن علي - سألتُ
عبدالرحمن عن اتِّفاق كثرة السَّماع له وسؤالاته من أبيه، فقال: ربَّما كان
يأكُل وأقرأ عليه، ويمشي وأقرأُ عليه، ويدخل الخلاء وأقرأ عليه، ويدخل
البيت في طلَب شيء وأقرأ عليه، قالَ علِي بن إبراهيم: وبلغني أنَّه كان
يَسْأَلُ أباه أبا حاتم في مرضِه الذي توُفِّي فيه، عن أشياءَ من عِلْمِ
الحديث وغيره، إلى وقت ذهاب لسانه، فكان يُشير إليْه بطرفه: "نَعَمْ"
و"لا".
وعن عمر بن حفص الأشقر قالَ: كنَّا مع البخاري بالبَصرة
نكتب، ففقدْناه أيَّامًا، ثمَّ وجدْناه في بيتٍ وهو عُرْيان، وقد نفِد ما
عنده، فجمعنا له الدَّراهم حتَّى اشتريْنا له ثوبًا وكسوْناه.
وهذا يحيى بن معين، كان والدُه على خراج الرَّي فمات، فخلف ليحيى ابنِه ألف
ألف درهم، فأنفقه كلَّه على الحديث، حتَّى لم يبقَ له نعل يلبسه.
ولو نظر النَّاظر إلى حالِهم في طلب العلم، وما بذلوه من غالٍ ونفيس، وما وقع لهم من صِعَابٍ - لوجد العَجَبَ العُجَاب.
وهذا ابن خِراش - عبدالرحمن بن يوسف بن خِراش الحافظ - يقول: شربت بَوْلي
في هذا الشأن - يعني: الحديث - خَمْسَ مَرَّات، قلتُ – أي: الخطيب -:
أحْسَبُه فَعَلَ ذَلك في السَّفَرِ اضْطِرارًا عند عدم الماء، والله أعلم.
وعن ابن ناصِر قالَ: كان السِّلَفي ببغداد كأنَّه شعلةُ نارٍ في التَّحصيل.
وفي ترجمة أبي الوفاء بن عقيل الحنبلي - رحمه الله - أنَّه قَالَ: "إني
لأجدُ من حِرْصي على العلم، وأنا في عَشْرِ الثمانين أشدَّ مما كنت أجدُه
وأنا ابنُ عِشرين سنة".
وقالَ ابن عَسَاكِر في ترجمة الفقيه
سُلَيْم بن أيوب الرَّازي: حُدِّثتُ عنْه أنَّه كان يُحاسِب نفسَه على
الأنفاس، لا يدع وقتًا يمضي عليْه بغير فائدة، إِمَّا ينسخ أو يُدَرِّس أو
يقرأ، ولقد حدَّثني عنه شيخُنا أبو الفراج الإسفراييني أنَّه نَزَلَ يومًا
إلى دارِه ورجع، فقال: قد قرأتُ جُزْءًا في طَرِيقي.
وقال: إنَّه كان يُحرِّك شَفَتَيه إلى أن يَقُطَّ القَلَم.
قالَ الإمام ابن القيم: وحدَّثني شيخُنا - يعني: ابنَ تيمية - قالَ:
"ابتدأني مرضٌ، فقال لي الطَّبيب: إنَّ مُطالعتك وكلامَك في العلم يزيد
المرض، فقلت له: لا أصبر على ذلك، وأنا أُحاكِمك إلى علمك: أليست النَّفس
إذا فرِحت وسُرَّت، قَوِيت الطبيعةُ، فدفعت المرضَ؟ فقال: بلى، فقلت له:
فإنَّ نَفْسِي تُسرُّ بالعلم، فتقوى به الطبيعةُ، فأجدُ راحةً، فقال: هذا
خارجٌ عن علاجنا". اهـ.
قالَ ابن القيم - رحمه الله - وهو يتكلَّم
عن عِشْق العلم: وحدَّثني أخو شيخِنا – يعني: أحمد بن تيميَّة -
عبدُالرحمن بن تيمية، عن أبيه - عبدالحليم - قالَ: "كان الجَدُّ أبو
البركات إذا دخل الخلاء، يقولُ لي: اقرأْ في هذا الكتاب، وارْفَعْ صَوْتَك
حتى أسمع". اهـ.
وإذا أردنا أن نتقصَّى أمثال هذا، لوجدنا منه
الكثير، وحسبُك ما حوتْه كتُب التَّراجم للأعْلام الكِبار وما فيها من
نفائس الأخبار والآثار.
فلا تيأَسْ بطول طلبِك للعلم، ولا تحدّه بسنٍّ ينتهي عنده، فها أنت رأيتَ العُلماء يطلبونه في أحلكِ الأوقات؛ بل وحتَّى الممات.
وهذا الحسن بن زياد قد بدأَ طلَب العِلْم بعد أن تجاوز السبعين، وقد قيل فيه:
وَلَيْسَ لِلْعِلْمِ أَوَانٌ فِي الطَّلَبْ وَابْنُ زِيَادٍ بَعْدَ سَبْعِينَ طَلَبْ |
إرسال تعليق