![]() |
تربى الملحد في ظلال الدين عشرات السنين، و هو في نقده للدين يتأثر بأخلاق من ينتقده
|
الكاتب/ د. هيثم طلعت
هل يمكن أن يحيا الجنس البشري بلا دين؟، هل يمكن التأسيس للقيمة و المعرفة و الغاية و الأخلاق في غياب الإله؟
لقد عاش الجنس البشري آلاف السنين تحت تأثير الدين، واستطاع الدين أن يوفر جميع أوجه الحياة الأخلاقية و القانونية و العقائدية…إلخ، و من ثَم فمن حقنا أن نتساءل عما إذا كان من الممكن إنتاج جيل ملحد إلحادًا كاملا؟
لكي تنجح هذه المحاولة لابد من التنشئة في عزلة تامة عن كل دين وعن كل فن وعن كل دراما للوجود الإنساني، وإلغاء كل ما يمكن أن يَستحضر النشء أمامه أي رؤيا لعالم آخر، وبالتالي إلغاء جميع الأعمال الفنية التي تُصور صراع الإنسان في العالم و تطلعه لعالم أفضل، لأن كل هذه الأمور ستؤدي إلى شعور الإنسان بالاغتراب في هذا العالم، وهو شعور ميتافيزيقي روحاني بحت.
في الواقع هذا أمر صعب في الوقت الراهن، لأن الملحدين يعيشون في ظلال الدين، و يمكننا أن نزعم أن كل أخلاق الملحد هي مجرد تأثر بالدين و مبادئه الأخلاقية الأساسية بطريقة صامتة غير محسوسة، و لكنها ثابتة، فقد تربى الملحد في ظلال الدين عشرات السنين، و هو في نقده للدين يتأثر بأخلاق من ينتقدهم.. إن جوهر الإنسان في أخلاقياته وليس في طبيعته المادية.. هذه حقيقة ثابتة.
إن أخلاق الملحد هي عطية الدين، هكذا علينا أن نزعم إلى أن ينشأ مجتمع إلحادي كامل.
جوهر القضية الأخلاقية
لكن بعيدًا عن زعمنا، سنحاول أن نتصور تصورًا إبستمولوجيًا[i].. صورة مبسطة للقيمة و الأخلاق من منظور مادي إلحادي مُجرد، بناءًا على رؤية الملحدين أنفسهم.
أثبت فلاديميير لينين -مؤسس الدولة البلشفية الملحدة- أن الأخلاق خدعة ميتافيزيقية، و قرَّر فريدريك إنجلز–أبو النظرية الماركسية– في كتابه “أصل العائلة والدولة والملكية الخاصة” أن النظام الأُسري نظام برجوازي، و أن شيوع النساء و إلغاء منظومة الزواج هو الحل الأقرب لروح الإلحاد المادي.
لكن لماذا لا نكون أكثر تفاؤلا، و نفترض أنه تم التأسيس للمجتمع الإلحادي الكامل بناءًا على أخلاق مثالية!، أخلاق كاملة كالتي نادى بها الدين، أخلاق أصلية واضحة وراسخة في الذهن البشري!
لكن في هذه اللحظة على دعاة الإلحاد أن يطلبوا من الناس مزيدًا من المثالية والتضحية، ربما أكثر مما طلب أي نبي من قومه باسم الدين، فليس ثَمة إغراءات ماورائية، و ليس ثمة تطلع أُخروي يبرر التضحية والالتزام بالمُثُل العليا، التي هي جوهر القضية الأخلاقية! و كما يقول المفكر الإنجليزي جون لوك: إذا كان كُل أمل الإنسان قاصرًا على هذا العالم، و إذا كنا نستمتع بالحيـاة هنا في هذه الدنيـا فحسب، فليس غريبًا ولا مجافيًا للمنطق أن نبحث عن السعادة، و لو على حساب الآباء والأبنـاء.”
إنها معضلة و أي معضلة، لكن سنتنزل مرةً أُخرى و نتصور أنه تم التأسيس للمجتمع الإلحادي الكامل، و نتصور أن هؤلاء الملحدين قرروا التضحية و تبني نموذج أخلاقي، إمعانًا في تحدي مجتمع المؤمنين، و قرروا أن يتركوا الشر والظلم، و قرروا أن يلتزموا بالأخلاق المثالية، هنا ستظهر المعضلة التي بلا حل، فداخل العالم الإلحادي لا يوجد معنى مادي للشر أو الظلم، فالشر أو الظلم هو وضع الشيء في غير محله، و محل الأحداث في عالم الإلحاد المادي، هو نفس المحل الذي تحدده القوانين الفيزيائية، و بما أنه لا توجد ذرة تخالف تلك القوانين، إذن كل حدث في الكون المادي قد وُضع في محله المادي، و لذلك المفترض ألا يوجد في المجتمع الإلحادي ولا في الكون المادي ظلم أوشر.
فالإنسان مُستوعب تماما في الطبيعة، قوانين الطبيعة هي قوانينه، تسري عليه الحتمية المادية الفيزيائية بمنتهى الأداتية المعرفية، فلا يمكن الاستقلال برؤية متجاوزة أو مغايرة لما تفرضه المادة، وإلا اعتبرنا أن للإنسان أصل آخر و مقدمة أُخرى ولانهار الإلحاد.
العقل وفقا لقوانين الحتمية المادية ليس إلا مادة مُتلقية طبيعية لا تتجاوز ذلك الإطار
|
قوانين الحتمية المادية
أيضًا العقل مادة مُتلقية طبيعية لا تتجاوز هذا الإطار، و الحالة النفسية الحاكمة في النموذج الإلحادي هي حالةً نفسيةً للمادة و ليس للروح، و بالتالي لايمكنُها أن تُخَطِّئ حالةً ماديةً أخرى, فحتى تناطحُ الذراتِ هو تصرفٌ لاخطأ فيه ما دام موافقًا للقوانين الفيزيائيةِ الصحيحة.
و طبقًا لهذه الرؤية الإلحادية المادية الحتمية فإنه في المرحلة التالية سيتنازل الإنسان عن مركزيته، فالإنسان من منظور مادي إلحادي ليس هو المركز، بل المركز هو الطبيعة المادية و قوانينها وحتمياتها، و بالتالي سيحل محل مركزية الإنسان مركزية الطبيعة باعتبارها المُطلق الأول، و هذا يعني انهيار المشروع الهيوماني (مشروع الإيمان بالإنسان)، و بذا يُصفَّى الإنسان على حد تعبير الدكتور عبد الوهاب المسيري[ii] لحساب الطبيعة، و سيتم استيعابه تمامًا و يسقط في هيمنة المادية الحتمية، و يصبح أي حديث عن الإنسان أو قيمه أو مركزيته هو حديث ملوث ميتافيزيقيًا، و يتحول الإنسان إلى حيوان مادي مجرد، و يعود للصراع الدارويني الذي دخل به التاريخ، و في هذا الإطار المادي التجريدي يصبح الحديث عن الهيومانية لغوًا فارغًا، و تتحول الشعارات إلى سخافة لا معنى لها، فما معنى حماية المعاقين أو المرضى الوراثيين أو تقديم يد العون لهم؟
إن محاولة من هذا القبيل تأتي ضد الانتخاب الطبيعي و البقاء للأصلح، و إذا كانت الرؤية الداروينية هي الرؤية الصحيحة، و كانت حتمياتها هي الأصل الثابت، فلن يستوعب الإنسان أصلاً فكرة حماية المعاق أو تقديم يد العون للضعفاء، بل إن تعقيم المعاقين –أي منعهم من الإنجاب- هو الحل الدارويني الأمثل و الأوحد.
أيضًا في الإطار المادي الحتمي الإلحادي كيف تتم المناداة بمفهوم الإنسانية الهيومانية، في عالم يحكمه البقاء للأصلح؟ بل إن أية محاولة لمعاندة هذا الإطار المادي هي محاولة فاشلة، لأنها تأتي ضد التطو، و ضد قوانين الحتمية المادية التي تسري على الوجود.
يقول الدارويني جيمس هِلْ James J. Hill: “إن الثروات تُحدَد تبعاً لقانون البقاء للأقوى.”، ويقول تايل Tille: “من الخطأ الشديد مجرد محاولة منع الفقر أو الإفلاس أو مساعدة الضعفاء أو محدودي الإنتاج..، مجرد مساعدة هؤلاء خطأ جوهري في النظرية الدروينية، لأنه يتعارض أساسا مع الانتخاب الطبيعي natural selection، و هو جوهر الداروينية.”.
و طبقا لهربرت سبنسرHerbert Spencer فإن: “فكرة وسائل الوقاية الصحية و تدخل الدولة في الحماية الصحية لمواطنيها وتلقيحهم تعارض أبسط بديهيات الانتخاب الطبيعي، و كذلك مساندة الضعفاء أو محاولة حماية المرضى و الحرص على بقائهم.”!
الأخلاق تسير عكس الطبيعة!
هذه هي الصورة التي يتيحها الإلحاد المادي، إنها المعادلة المستحيلة.. يستحيل أن يتم التأسيس للأخلاق داخل المنظومة المادية، لا يوجد داخل العالم المادي الهيوماني مايُفرح الإنسان أو يسليه، أو يؤسس لقيمه، أو يؤسس لمبادئه، أو يؤسس لأخلاقياته، يستحيل أن يوجد داخل المنظومة المادية ما يجعل الإنسان إنسانًا.
فالأخلاق والقيمة تمثلان ثغرة في النظام الطبيعي، فالأخلاق ثغرة معرفية كبرى في النسق الكوني، ولذا لا يمكن إخضاعها لقوانين الطبيعة و حتميات ماركس التاريخية، أو حتميات داروين العضوية أو حتميات دوركايم الاجتماعية، هذا الاختلاف بين الأخلاق و الطبيعة يُعبِّر عن نفسه في الاختلاف بين المؤشِّر في العلوم الطبيعية والمؤشِّر في العلوم الإنسانية.
الأخلاق تسير عكس الطبيعة أو بمعنى أدق لا علاقة لها بالطبيعة، فالأخلاق ثغرة في الزمان، فهي نتاج خلق و ليس تطور! و الله خلقها كاملة لأن الله لا ينتج ولا يشيد، وإنما يخلق، وهذا يؤكد أصالة ظهور الإنسان.
الأخلاق عقليا غير مربحة، بل ضارة، بل هي أكبر عبئ على صاحبها، وقد تساءل ماندفيل Bernard Mandeville،أستاذ علم الأخلاق الإنجليزي: ما أهمية الأخلاق لتقدم المجتمع و التطور الحضاري؟ و أجاب ببساطة:لا شيء بل لعلها تكون ضارة.
و لذا فالأخلاق لم تتم البرهنة عليها عقليًا إلى الآن، و الأخلاق و الدين هما أقدم الأفكار الإنسانية، و قد ظهرا سويًا مع الإنسان كل هذا يؤكد أصالة الظهور الإنساني و غائية الأخلاق التي يحملها، إنها اللحظة التي صنعت عصرًا جديدًا.
إن الإنسان يتحرك في الحياة و هو يعلم يقينًا أنه ليس مُفصل على طراز داروين، و لذا يرفض باستمرار إلحاح العلم المتزايد على أن الجنس الأبيض أفضل من الأسود، أو أن إبادة المعاقين و الضعفاء خيرٌ للجنس البشري، أو أن الإنسان حيوان مادي، و هذا يؤكد أن الإنسان لا يستطيع أن يرفض التكليف الإلهي بداخله، و أن الإلحاد لا يصلح لتحليل ظاهرة الوجود الإنساني!
في النموذج المادي تضيع ملحمة الوجود الإنساني و دراما الحياة الإنسانية، وتموت القيمة البشرية..
|
إرسال تعليق
Click to see the code!
To insert emoticon you must added at least one space before the code.