فإذا عرف هذا فاحتجاج هؤلاء بالآيات التي
ظنوا دلالتها على أن نبوته خاصة بالعرب، تدل على أنهم ليسوا ممن يجوز لهم
الاستدلال بكلام أحد على مقصوده ومراده، وأنهم ممن قيل فيه {فمال هؤلاء
القوم لا يكادون يفقهون حديثا} [النساء: 78] .
فليسوا أهلا أن يحتجوا بالتوراة والإنجيل والزبور على مراد الأنبياء وسائر
الكلام المنقول عن الأنبياء على مراد الأنبياء عليهم السلام – بل ولا
يحتجون بكلام الأطباء والفلاسفة والنحاة وعلم أهل الحساب والهيئة على
مقاصدهم.
فإن الناس كلهم متفقون على أن لغة العرب من أفصح لغات الآدميين وأوضحها،
ومتفقون على أن القرآن في أعلى درجات البيان والبلاغة والفصاحة، وفي القرآن
من الدلالات الكثيرة على مقصود الرسول صلى الله عليه وسلم التي يذكر فيها:
أن الله تعالى أرسله إلى أهل الكتاب وغيرهم ما لا يحصى إلا بكلفة، ثم مع
ذلك من النقول المتواترة عن سيرته صلى الله عليه وسلم في دعائه لأهل
الكتاب، وأمره لهم بالإيمان به، وجهاده لهم إذا كفروا به ما لا يخفى على من
له أدنى خبرة بسيرته صلى الله عليه وسلم، وهذا أمر قد امتلأ العالم به،
وسمعه القاصي والداني، فإذا كان الناس المؤمن به وغير المؤمن به يعلمون أنه
كان يقول: إنه رسول الله إلى أهل الكتاب، وغيرهم، وأن ظهور مقصوده بذلك
مما يعلمه بالاضطرار الخاصة والعامة، ثم شرعوا يظنون أنه كان يقول: إني لم
أبعث إلا إلى العرب، واستمر على ذلك حتى مات دل على فساد نظرتهم وعقلهم، أو
على عنادهم ومكابرتهم، وكان الواجب إذ لم يكن له معرفة معاني هذه الآيات
التي استدلوا بها على خصوص رسالته أن يعتقدوا أحد أمرين:
إما أن لها معاني توافق ما كان يقوله، أو أنها من المنسوخ فقد علمت الخاصة
والعامة: أن محمدا صلى الله عليه وسلم كان يصلي بعد هجرته إلى بيت المقدس
نحو سنة ونصف، ثم أمر بالصلاة إلى الكعبة البيت الحرام، والنصارى يوافقون
على أن شرائع الأنبياء فيها ناسخ ومنسوخ، مع أن ما ذكروه من الآيات ليس
منسوخا، ولكن المقصود: أن المعلوم من حال الرسول صلى الله عليه وسلم علما
ضروريا يقينيا متواترا لا يجوز دفعه، فإن العلم بأنه كان يقول: إنه رسول
الله صلى الله عليه وسلم إلى جميع الخلق معلوم لكل من عرف أخباره صلى الله
عليه وسلم سواء صدقه أو كذبه، والعلم بأنه كان يقول إنه رسول الله إلى جميع
الناس ممكن قبل أن يعلم أنه نبي أو ليس بنبي، كما أن العلم بنبوته وصدقه
ممكن قبل أن يعلم عموم رسالته، فليس العلم بأحدهما موقوفا على الآخر، ولهذا
كان كثير ممن يكذبه يعلم أنه كان يقول إنه رسول الله إلى جميع الخلق،
وطائفة ممن تقر بنبوته وصدقه لا تقر بأنه رسول إلى جميع الخلق.
والمقصود هنا: الكلام مع هؤلاء بأن العلم بعموم دعوته لجميع الخلق أهل
الكتاب وغيرهم هو متواتر معلوم بالاضطرار كالعلم بنفس مبعثه ودعائه الخلق
إلى الإيمان به وطاعته وكالعلم بهجرته من مكة إلى المدينة، ومجيئه بهذا
القرآن، والصلوات الخمس، وصوم شهر رمضان، وحج البيت العتيق، وإيجاب الصدق
والعدل، وتحريم الظلم والفواحش، وغير ذلك مما جاء به محمد صلى الله عليه
وسلم.
وإن قيل: بل في القرآن ما يقتضي أن رسالته خاصة، وفيه ما يقتضي أن رسالته
عامة وهذا تناقض. قيل: هذا باطل، ويعلم بطلانه قبل العلم بنبوته ; فإنه من
المعلوم لكل أحد آمن به، أو كذبه أنه كان من أعظم الناس عقلا وسياسة وخبرة،
وكان مقصوده دعوة الخلق إلى طاعته واتباعه، وكان يقرأ القرآن على جميع
الناس، ويأمر بتبليغه إلى جميع الأمم، وكان من طلب منه أن يؤمنه حتى يقرأ
عليه القرآن من الكفار وجب عليه أن يجيبه ولو كان مشركا، فكيف إذا كان
كتابيا؟ كما قال تعالى: {وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام
الله ثم أبلغه مأمنه ذلك بأنهم قوم لا يعلمون} [التوبة: 6] .
وكان قد أظهر أنه مبعوث إلى أهل الكتاب وسائر الخلق، وأنه رسول إلى
الثقلين: الجن والإنس، فيمتنع مع هذا أن يظهر ما يدل على أنه لم يبعث
إليهم، فإن هذا لا يفعله من له أدنى عقل لمناقضته لمراده، فكيف يفعله من
اتفقت عقلاء الأمم على أنه أعقل الخلق وأحسنهم سياسة وشريعة؟
وأيضا فكان أصحابه والمقاتلون معه بعد ذلك ينفرون عنه، وقد كان عادتهم أن
يستشكلوا ما هو دون هذا، وهذا لم يستشكله أحد، ثم بعد هذا فلو قدر أن في
القرآن ما يدل على أنه لم يبعث إلا إلى العرب، وفيه ما يدل على أنه بعث إلى
سائر الخلق، كان هذا دليلا على أنه أرسل إلى غيرهم بعد أن لم يرسل إلا
إليهم، وأن الله عم بدعوته بعد أن كانت خاصة، فلا مناقضة بين هذا وهذا،
فكيف وليس في القرآن آية واحدة تدل على اختصاص رسالته بالعرب؟ وإنما فيه
إثبات رسالته إليهم، كما أن فيه إثبات رسالته إلى قريش، وليس هذا مناقضا
لهذا، وفيه إثبات رسالته إلى أهل الكتاب كقوله تعالى: {ياأيها الذين أوتوا
الكتاب آمنوا بما نزلنا} [النساء: 47] .
كما فيه إثبات رسالته إلى بني إسرائيل كقوله: يا بني إسرائيل.
وليس هذا التخصص لليهود منافيا لذلك التعميم، وفي رسالته خطاب لليهود تارة
وللنصارى تارة، وليس خطابه لإحدى الطائفتين ودعوته لها مناقضا لخطابه
للأخرى ودعوته لها، وفي كتابه خطاب للذين آمنوا من أمته في دعوته لهم إلى
شرائع دينه، وليس في ذلك مناقضة بأن يخاطب أهل الكتاب ويدعوهم، وفي كتابه
أمر بقتال أهل الكتاب النصارى، حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون. قال
تعالى: {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم
الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية
عن يد وهم صاغرون} [التوبة: 29] .
ثم لم يكن هذا مانعا أن يأمر بقتال غيرهم من اليهود والمجوس ; حتى يعطوا
الجزية عن يد وهم صاغرون، بل هذا الحكم ثابت في المجوس بسنته واتفاق أمته.
وإن قيل: إنهم ليسوا من أهل الكتاب، فهذا كله مما يعلم بالاضطرار من دينه
قبل العلم بنبوته، فكيف ونحن نتكلم على تقدير نبوته، والنبي لا يتناقض
قوله؟ وإذا كان العلم بعموم دعوته ورسالته معلوما بالاضطرار قبل العلم
بنبوته، وبعد العلم بنبوته، فالعلم الضروري اليقيني لا يعارضه شيء، ولكن
هذا شأن الذين في قلوبهم زيغ من أهل البدع: النصارى وغيرهم يتبعون المتشابه
ويدعون المحكم، وبسبب مناظرة النصارى للنبي صلى الله عليه وسلم بالمتشابه،
وعدولهم عن المحكم أنزل الله تبارك وتعالى فيهم: {هو الذي أنزل عليك
الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم
زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله
إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا
أولو الألباب} [آل عمران: 7] .
فالتأويل: يراد به تفسير القرآن، ومعرفة معانيه، وهذا يعلمه الراسخون،
ويراد به ما استأثر الرب سبحانه وتعالى بعلمه من معرفة كنهه وكنه ما وعد به
ووقت الساعة، ونحو ذلك مما لا يعلمه إلا الله. والضلال يذكرون آيات تشتبه
عليهم معرفة معانيها، فيتبعون تأويلها ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويلها،
وليسوا من الراسخين في العلم الذين يعلمون تأويلها مع أن هؤلاء الآيات من
أوضح الآيات.
وهذا الذي سلكوه في القرآن هو نظير ما سلكوه في الكتب المتقدمة وكلام
الأنبياء من التوراة والإنجيل والزبور وغيرها، فإن فيها من النصوص الكثيرة
الصريحة بتوحيد الله وعبودية المسيح ما لا يحصى إلا بكلفة، وفيها كلمات
قليلة فيها اشتباه، فتمسكوا بالقليل المتشابه الخفي المشكل من الكتب
المتقدمة وتركوا الكثير المحكم المبين الواضح، فهم سلكوا في القرآن ما
سلكوه في الكتب المتقدمة، لكن تلك الكتب يقرون بنبوة أصحابها ومحمد صلى
الله عليه وسلم هم فيه مضطربون متناقضون، فأي قول قالوه فيه ظهر فساده
وكذبهم فيه إذا لم يؤمنوا بجميع ما أنزل إليه.
إرسال تعليق