تكفير اليهود والنصارى بعضهم البعض
فَالْيَهُودُ كَذَّبُوا بِدِينِ النَّصَارَى، وَقَالُوا لَيْسُوا عَلَى
شَيْءٍ، وَالنَّصَارَى كَذَّبُوا بِجَمِيعِ مَا تَمَيَّزَ بِهِ الْيَهُودُ
عَنْهُمْ، حَتَّى فِي شَرَائِعِ التَّوْرَاةِ الَّتِي لَمْ يَنْسَخْهَا
الْمَسِيحُ، بَلْ أَمَرَهُمْ بِالْعَمَلِ بِهَا، وَكَذَّبُوا بِكَثِيرٍ
مِنَ الَّذِينَ تَمَيَّزُوا بِهِ عَنْهُمْ، حَتَّى كَذَّبُوا بِمَا جَاءَ
بِهِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنَ الْحَقِّ.
لَكِنَّ النَّصَارَى – وَإِنْ بَالَغُوا فِي تَكْفِيرِ الْيَهُودِ
وَمُعَادَاتِهِمْ عَلَى الْحَدِّ الْوَاجِبِ عَمَّا ابْتَدَعُوهُ مِنَ
الْغُلُوِّ وَالضَّلَالِ – فَلَا رَيْبَ أَنَّ الْيَهُودَ لَمَّا كَذَّبُوا
الْمَسِيحَ صَارُوا كُفَّارًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى لِلْمَسِيحِ: {إِنِّي
مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا
وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [آل عمران:
55] .
وَقَالَ تَعَالَى: {قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ
أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ
فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ
فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا
ظَاهِرِينَ} [الصف: 14] .
وَكُفْرُ النَّصَارَى بِتَكْذِيبِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، وَبِمُخَالَفَةِ الْمُسْلِمِينَ أَعْظَمُ مِنْ كُفْرِ
الْيَهُودِ بِمُجَرَّدِ تَكْذِيبِ الْمَسِيحِ، فَإِنَّ الْمَسِيحَ لَمْ
يَنْسَخْ مِنْ شَرْعِ التَّوْرَاةِ إِلَّا قَلِيلًا، وَسَائِرُ شَرْعِهِ
إِحَالَةٌ عَلَى التَّوْرَاةِ، وَلَكِنْ عَامَّةُ دِينِ النَّصَارَى
أَحْدَثُوهُ بَعْدَ الْمَسِيحِ، فَلَمْ يَكُنْ فِي مُجَرَّدِ تَكْذِيبِ
الْيَهُودِ لَهُ مِنْ مُخَالَفَةِ شَرْعِ اللَّهِ الَّذِي جَاءَ بِكِتَابٍ
مُسْتَقِلٍّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لَمْ يُحِلْ شَيْئًا مِنْ شَرْعِهِ عَلَى
شَرْعِ غَيْرِهِ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ
الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى
لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [العنكبوت: 51] .
وَالْقُرْآنُ أَصْلٌ كَالتَّوْرَاةِ وَإِنْ كَانَ أَعْظَمَ مِنْهَا ;
وَلِهَذَا عُلَمَاءُ النَّصَارَى يَقْرِنُونَ بَيْنَ مُوسَى وَمُحَمَّدٍ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَمَا قَالَ النَّجَاشِيُّ مَلِكُ
النَّصَارَى لَمَّا سَمِعَ الْقُرْآنَ: إِنَّ هَذَا وَالَّذِي جَاءَ بِهِ
مُوسَى لَيَخْرُجُ مِنْ مِشْكَاةٍ وَاحِدَةٍ.
وَكَذَلِكَ «قَالَ وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ، وَهُوَ مِنْ أَحْبَارِ نَصَارَى
الْعَرَبِ، لَمَّا سَمِعَ كَلَامَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، فَقَالَ لَهُ: إِنَّهُ يَأْتِيكَ النَّامُوسُ الَّذِي يَأْتِي
مُوسَى، يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعًا، حِينَ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ، فَقَالَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَوَمُخْرِجِيَّ هُمْ؟
قَالَ: نَعَمْ، لَمْ يَأْتِ أَحَدٌ بِمِثْلِ مَا أَتَيْتَ بِهِ إِلَّا
عُودِيَ، وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ أَنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا» .
وَلِهَذَا يَقْرِنُ سُبْحَانَهُ بَيْنَ التَّوْرَاةِ وَالْقُرْآنِ، فِي
مِثْلِ قَوْلِهِ {فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا
لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا
أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا} [القصص: 48]
وَيَعْنِي التَّوْرَاةَ وَالْقُرْآنَ، وَفِي الْقِرَاءَةِ الْأُخْرَى
(قَالُوا سَاحِرَانِ) أَيْ مُحَمَّدٌ وَمُوسَى.
{وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ – قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ
عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ
صَادِقِينَ} [القصص: 48 – 49] .
فَلَمْ يَنْزِلْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ أَهْدَى مِنَ التَّوْرَاةِ وَالْقُرْآنِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا
يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ
بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ
الظَّالِمِينَ} [القصص: 50] .
وَهَؤُلَاءِ النَّصَارَى، ذَكَرَ كَاتِبُ كِتَابِهِمْ فِي كِتَابِهِ:
أَنَّهُ لَمَّا سَأَلَهُ سَائِلٌ أَنْ يُفَحِّصَ لَهُ فَحْصًا بَيِّنًا
عَمَّا يَعْتَقِدُهُ النَّصَارَى الْمَسِيحِيُّونَ الْمُخْتَلِفَةُ
أَلْسِنَتُهُمُ الْمُتَفَرِّقَةُ فِي أَرْبَعِ زَوَايَا الْعَالَمِ، مِنَ
الْمَشْرِقِ إِلَى الْمَغْرِبِ، وَمِنَ الْجَنُوبِ الى الشَّمَالِ،
وَالْقَاطِنُونَ بِجَزَائِرِ الْبَحْرِ، وَالْمُقِيمُونَ بِالْبَرِّ
الْمُتَّصِلِ إِلَى مَغِيبِ الشَّمْسِ، وَإِنَّ الْأُسْقُفَّ دِمْيَانَ
الْمَلِكَ الرُّومِيَّ اجْتَمَعَ بِمَنِ اجْتَمَعَ بِهِ مِنْ
أَجِلَّائِهِمْ وَرُؤَسَائِهِمْ، وَفَاوَضَ مَنْ فَاوَضَ مِنْ
أَفَاضِلِهِمْ، وَعُلَمَائِهِمْ، فِيمَا عَلِمَهُ مِنْ رَأْيِ الْقَوْمِ
الَّذِينَ رَآهُمْ بِجَزَائِرِ الْبَحْرِ قَبْلَ دُخُولِهِ إِلَى قُبْرُصَ،
وَخَاطَبَهُمْ فِي دِينِهِمْ وَمَا يَعْتَقِدُونَهُ وَيَحْتَجُّونَ بِهِ
عَنْ أَنْفُسِهِمْ، قَالَ الْكَاتِبُ عَلَى لِسَانِ الْأُسْقُفِّ:
إِنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّا سَمِعْنَا أَنْ قَدْ ظَهَرَ إِنْسَانٌ مِنَ
الْعَرَبِ اسْمُهُ مُحَمَّدٌ يَقُولُ إِنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ، وَأَتَى
بِكِتَابٍ، فَذَكَرَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ عَلَيْهِ مِنَ اللَّهِ، فَلَمْ
نَزَلْ إِلَى أَنْ حَصَلَ الْكِتَابُ عِنْدَنَا، قَالَ فَقُلْتُ لَهُمْ
إِذَا كُنْتُمْ قَدْ سَمِعْتُمْ بِهَذَا الْكِتَابِ، وَهَذَا الْإِنْسَانِ
وَاجْتَهَدْتُمْ عَلَى تَحْصِيلِ هَذَا الْكِتَابِ الَّذِي أَتَى بِهِ
عِنْدَكُمْ، فَلِأَيِّ حَالٍ لَمْ تَتَّبِعُوهُ وَلَا سِيَّمَا وَفِي
الْكِتَابِ يَقُولُ: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ
يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85]
.
أَجَابُوا قَائِلِينَ: لِأَحْوَالٍ شَتَّى، قَالَ: فَقُلْتُ وَمَا هِيَ؟
قَالُوا: مِنْهَا أَنَّ الْكِتَابَ عَرَبِيٌّ، وَلَيْسَ بِلِسَانِنَا
حَسْبَ مَا جَاءَ فِيهِ، يَقُولُ: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا
عَرَبِيًّا} [يوسف: 2] .
وَقَالَ: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء: 195] . وَقَالَ فِي
سُورَةِ الشُّعَرَاءِ: {وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ –
فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 198 –
199] .
وَقَالَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا
مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ
الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ}
[البقرة: 151] . وَقَالَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ: {لَقَدْ مَنَّ
اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ
أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ} [آل عمران: 164] . وَقَالَ
تَعَالَى فِي سُورَةِ الْقَصَصِ: {لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ
نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [القصص: 46]
وَقَالَ فِي سُورَةِ السَّجْدَةِ: {لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ
نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} [السجدة: 3] .
وَقَالَ فِي سُورَةِ يس: {لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ} [يس: 6] .
قَالُوا: فَلَمَّا رَأَيْنَا هَذَا عَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يَأْتِ
إِلَيْنَا، بَلْ إِلَى جَاهِلِيَّةِ الْعَرَبِ، الَّذِينَ قَالَ إِنَّهُ
لَمْ يَأْتِهِمْ رَسُولٌ وَلَا نَذِيرٌ مِنْ قَبْلِهِ، وَإِنَّهُ لَا
يَلْزَمُنَا اتِّبَاعُهُ ; لِأَنَّنَا نَحْنُ قَدْ أَتَانَا رُسُلٌ مِنْ
قَبْلِهِ، خَاطَبُونَا بِأَلْسِنَتِنَا، وَأَنْذَرُونَا بِدِينِنَا الَّذِي
نَحْنُ مُتَمَسِّكُونَ بِهِ يَوْمَنَا هَذَا، وَسَلَّمُوا إِلَيْنَا
التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ بِلُغَاتِنَا، عَلَى مَا يَشْهَدُ لَهُمْ
هَذَا الْكِتَابُ الَّذِي أَتَى بِهِ هَذَا الرَّجُلُ حَيْثُ يَقُولُ فِي
سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ
قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} [إبراهيم: 4] .
وَقَالَ فِي سُورَةِ النَّحْلِ: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا} [النحل: 36] .
وَقَالَ فِي سُورَةِ الرُّومِ: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ
رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} [الروم: 47] .
فَقَدْ صَحَّ فِي هَذَا الْكِتَابِ، أَنَّهُ لَمْ يَأْتِ إِلَّا فِي
الْجَاهِلِيَّةِ مِنَ الْعَرَبِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَمَنْ يَبْتَغِ
غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ
مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85] .
فَيُرِيدُ بِحَسَبِ مُقْتَضَى الْعَدْلِ قَوْمَهُ الَّذِينَ أَتَاهُمْ
بِلُغَتِهِمْ، لَا غَيْرَهُمْ مِمَّنْ لَمْ يَأْتِهِمْ بِمَا جَاءَ فِيهِ.
وَنَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَدْلٌ، وَلَيْسَ مِنْ عَدْلِهِ أَنْ يُطَالِبَ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ أُمَّةً بِاتِّبَاعِ إِنْسَانٍ لَمْ يَأْتِ
إِلَيْهِمْ، وَلَا وَقَفُوا لَهُ عَلَى كِتَابٍ بِلِسَانِهِمْ، وَلَا مِنْ
جِهَةِ دَاعٍ مِنْ قِبَلِهِ.
هَذِهِ أَلْفَاظُهُمْ بِأَعْيَانِهَا فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ، وَهَذَا
الْفَصْلُ لَمْ يَتَعَرَّضُوا فِيهِ لَا لِتَصْدِيقِهِ وَلَا
لِتَكْذِيبِهِ، بَلْ زَعَمُوا أَنَّ فِي نَفْسِ هَذَا الْكِتَابِ أَنَّهُ
لَمْ يَقُلْ إِنَّهُ مُرْسَلٌ إِلَيْهِمْ، بَلْ إِلَى جَاهِلِيَّةِ
الْعَرَبِ، وَإِنَّ الْعَقْلَ أَيْضًا يَمْنَعُ أَنْ يُرْسَلَ إِلَيْهِمْ.
فَنَحْنُ نَبْدَأُ بِالْجَوَابِ عَنْ هَذَا، وَنُبَيِّنُ أَنَّهُ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَ أَنَّهُ مُرْسَلٌ إِلَيْهِمْ، وَإِلَى
جَمِيعِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ، وَأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ قَطُّ أَنَّهُ لَمْ
يُرْسَلْ إِلَيْهِمْ، وَلَا فِي كِتَابِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ.
وَأَنَّ مَا احْتَجُّوا بِهِ مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي غَلِطُوا فِي
مَعْرِفَةِ مَعْنَاهَا، فَتَرَكُوا النُّصُوصَ الْكَثِيرَةَ الصَّرِيحَةَ
فِي كِتَابِهِ، الَّتِي تُبَيِّنُ أَنَّهُ مُرْسَلٌ إِلَيْهِمْ، مِنْ
جِنْسِ مَا فَعَلُوهُ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالزَّبُورِ
وَكَلَامِ الْأَنْبِيَاءِ، حَيْثُ تَرَكُوا النُّصُوصَ الْكَثِيرَةَ
الصَّرِيحَةَ، وَتَمَسَّكُوا بِقَلِيلٍ مِنَ الْمُتَشَابِهِ الَّذِي لَمْ
يَفْهَمُوا مَعْنَاهُ.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْكَلَامَ فِي صِدْقِ مُدَّعِي الرِّسَالَةِ وَكَذِبِهِ
مُتَقَدِّمٌ عَلَى الْكَلَامِ فِي عُمُومِ رِسَالَتِهِ وَخُصُوصِهَا،
وَإِنْ كَانَ قَدْ يُعْلَمُ أَحَدُهُمَا قَبْلَ الْآخَرِ لَكِنَّ هَؤُلَاءِ
الْقَوْمَ ادَّعَوْا خُصُوصَ رِسَالَتِهِ، وَذَكَرُوا أَنَّ الْقُرْآنَ
يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ. فَنُجِيبُ عَمَّا ذَكَرُوهُ عَلَى حَسَبِ
تَرْتِيبِهِمْ فَصْلًا فَصْلًا فَنَقُولُ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ:
الْكَلَامُ فِيمَنْ خَاطَبَ الْخَلْقَ بِأَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ
إِلَيْهِمْ، كَمَا فَعَلَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَغَيْرُهُ مِمَّنْ قَالَ إِنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ، كَإِبْرَاهِيمَ
وَمُوسَى، وَنَحْوِهِمَا مِنَ الرُّسُلِ الصَّادِقِينَ، صَلَوَاتُ اللَّهِ
وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ، وَآلِ كُلٍّ مِنَ الصَّالِحِينَ،
وَكَمُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ وَالْأَسْوَدِ الْعَنْسِيِّ، وَنَحْوِهِمَا
مِنَ الْمُتَنَبِّئِينَ الْكَذَّابِينَ، يَنْبَنِي عَلَى أَصْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ نَعْرِفَ مَا يَقُولُهُ فِي خَبَرِهِ وَأَمْرِهِ
فَنَعْرِفَ مَا يُخْبِرُ بِهِ وَيَأْمُرُ بِهِ، وَهَلْ قَالَ إِنَّهُ
رَسُولُ اللَّهِ إِلَى جَمِيعِ النَّاسِ، أَوْ قَالَ إِنَّهُ لَمْ يُرْسَلْ
إِلَّا إِلَى طَائِفَةٍ مُعَيَّنَةٍ لَا إِلَى غَيْرِهَا؟
وَالثَّانِي: أَنْ يُعْرَفَ هَلْ هُوَ صَادِقٌ أَوْ كَاذِبٌ؟
وَبِهَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ يَتِمُّ الْإِيْمَانُ الْمُفَصَّلُ وَهُوَ مَعْرِفَةُ صِدْقِ الرَّسُولِ وَمَعْرِفَةُ مَا جَاءَ بِهِ.
وَأَمَّا الْإِيْمَانُ الْمُجْمَلُ، فَيَحْصُلُ بِالْأَوَّلِ، وَهُوَ
مَعْرِفَةُ صِدْقِهِ فِيمَا جَاءَ بِهِ، كَإِيْمَانِنَا بِالرُّسُلِ
الْمُتَقَدِّمَةِ، وَقَدْ نَعْلَمُ صِدْقَهُ أَوْ كَذِبَهُ وَهَؤُلَاءِ
بَدَءُوا فِي كِتَابِهِمْ هَذَا بِمَا ذَكَرَهُ الرَّسُولُ، مِمَّا
زَعَمُوا أَنَّهُ حُجَّةٌ لَهُمْ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ اتِّبَاعِهِ،
وَعَلَى مَدْحِ دِينِهِمُ الَّذِي هُمُ الْيَوْمَ عَلَيْهِ بَعْدَ
النَّسْخِ، وَالتَّبْدِيلِ، ثُمَّ ذَكَرُوا حُجَجًا مُسْتَقِلَّةً عَلَى
صِحَّةِ دِينِهِمْ ثُمَّ ذَكَرُوا مَا يَقْدَحُ فِيهِ وَفِي دِينِهِ ;
فَلِهَذَا قَدَّمْنَا الْجَوَابَ عَمَّا احْتَجُّوا بِهِ مِنَ الْقُرْآنِ،
كَمَا قَدَّمُوهُ فِي كِتَابِهِمْ.
المصدر المسيح كلمة الله
Top
إرسال تعليق