0
السلام على من اتبع الهدى . أما بعد :

حين بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم بالإسلام، في القرن السادس من الميلاد، كانت البشرية بأجمعها في أمرٍ مريج، ووضع مضطرب. ولم يسلم من هذا الاضطراب والاختلاف اليهود والنصارى، بل على العكس، نالهم منه قسط وافر، أفضى إلى سفك الدماء، وقتل الأبرياء، واستحكام العداوة والبغضاء بين مختلف الفرقاء. فوقع صراع مرير بين الموحدين، أتباع (آريوس) والمثلثين أباع (بولس)، ثم أعقبه صراعٌ أشد حول ماهية المسيح، عليه السلام، بين آباء كنيسة الاسكندرية القائلين بـ(الطبيعة الواحدة) (monophysita)، وآباء كنيسة أنطاكية القائلين بـ(الطبيعة المزدوجة) الذين عرفوا بالملكانية الأرثوذكسية (orthodoxa ثم أعقبه صراع ثالث حول (الإيقونات). وتمخضت هذه الصراعات الخطيرة عن نتائج وخيمة على الإنسانية، وفوضى فكرية عارمة، استدعت أن يبعث الله تعالى رسولاً منه، ببينة تزيل الإشكال، وترفع الخلاف، فكان محمد صلى الله عليه وسلم .

بُعث محمدٌ صلى الله عليه وسلم في جزيرة العرب، بين قوم وثنيين، مشركين، فدعاهم إلى عبادة الله وتوحيده. وكان في الجزيرة أيضاً جيوب يهودية، ونصرانية، فاتصل بهم ودعاهم إلى دين أبيهم إبراهيم، وكتب إلى الزعامات النصرانية في العالم آنذاك، مثل هرقل (610-641م)، إمبراطور الروم، والمقوقس، زعيم القبط، والنجاشي، ملك الحبشة، يدعوهم ، ومن تحت سلطتهم، إلى (كلمة سواء)، واتفاق مشترك، يتضمن ثلاث قضايا أساسية متلازمة :

الأولى : توحيد الله بالعبادة .

الثانية : نبذ الشرك بجميع صوره .

الثالثة : ترك الغلو، وتقديس الأشخاص .

{ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}

وبدا هذا العرض الكريم، والدعوة النقية، مشروعاً لجمع كلمة المؤمنين من أتباع الأنبياء، يتسم بالحق، والوضوح، والبساطة، والمتانة، في آن واحد، ويمثل مخرجاً حقيقياً من اللغط الدائر، والجدل العقيم، وأساساً متيناً لاستئناف السير على منهج الله، ودرب الأنبياء، خلف خاتمهم، وحفيد أبيهم إبراهيم، عند بيت الله الذي ابتناه إبراهيم .

وجاء النداء القرآني مغرياً لأسلافكم، معشر أهل الكتاب، واضعاُ إياهم أمام مسؤولية تاريخية حاسمة ، قائلاً لهم :

{ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ } [المائدة 5/15]

{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِّنَ الرُّسُلِ أَن تَقُولُواْ مَا جَاءنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءكُم بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [المائدة 5/19]

وفعلاً استجابت أعداد ضخمة من أسلافكم، لاسيما النصارى، لنداء الله، وفرحوا فرحاً عظيماً بالوحي الجديد من السماء، ولم تمنعهم عصبية أو كبرياء من قبوله . وتحولت شعوب كبيرة في بلاد الشام، والعراق، ومصر، والمغرب، وتركيا، طواعيةً، وبمحض إرادتهم وقناعتهم إلى الإسلام . ولم تزل هذه العملية تتكرر في مواقع كثيرة، وفي أزمنة متتابعة، إلى يومنا هذا، حتى بات الإسلام يمثل أكثر الأديان نمواً في العالم. وما ذاك إلا لأنه دين الله الحق، الموافق للفطرة، والعقل، والعلم ، كما أنه الوارث الحقيقي لما في الرسالات السماوية السابقة، المصدق لما فيها من حق، المصفي لها من البدع والإضافات البشرية الخاطئة، المكمل لما تحتاجه البشرية من أحكام وتشريعات.
المصدر العقيدة والحياة

إرسال تعليق

 
Top