الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ، أما بعد :
من
الطبيعي والسائغ أن يتخصص طائفة من الناس في العلوم الدينية، وأن يكون لهم
منزلة مميزة بحسب تفوقهم في هذا التخصص، كما هو الحال في جميع المجالات.
وقد وجد في جميع الديانات السابقة للإسلام، سواءٌ منها ما كان ذا أصل
سماوي؛ كاليهودية والنصرانية، أو كانت ديانات وثنية، منظومة كهنوتية، وسلم
هرمي لمن يسمون (رجال الدين) ومنحهم ذلك صلاحيات متفاوتة . والسؤال الذي
نطرحه في هذا المقام : هل كان هذا الترتيب الهرمي مما جاء به الأنبياء ؟
وما هي منزلة (رجال الدين) من الأحبار والرهبان، وما هي صلاحياتهم ؟
أجزم
قطعاً أن موسى عليه السلام، لم يصنع سلماً وظيفياً يقف على رأسه الحاخام
الأكبر، وأن عيسى عليه السلام، لم يؤسس للرتب الكنسية الثلاث:
الشَّمَّاسية، والقسوسية، والأسقفية، ولم ينشئ نظام الكهنوت (الأكليروس) ،
كما أن محمداً صلى الله عليه وسلم لم يفعل مثل ذلك .
وغاية
ما في الأمر، أن ينتدب طائفة من أصحاب النبي وحواريوه، فيعتنون بحفظ
أقواله، وأفعاله، والعمل بتوجيهاته، ويصبحون مرجعاً لمن حولهم، ويقومون
بتعليم الدين للجيل الذي بعدهم، وهكذا يزاول المتفوقون من الجيل الثاني
القيام بذات المهمة للجيل الثالث، وهكذا . ومن الطبيعي أن تسند المهمات
الدينية من تعليم، وإقامة الشعائر، والفتيا، ونحو ذلك، إلى هذه الطبقة
المتخصصة . كما أن من الطبيعي أن تحظى هذه الفئة المميزة بقدر كبير من
الاحترام، والتقدير، والمحبة، لما يفترض فيهم من الإخلاص، والتجرد، والرغبة
في نفع الناس .
إلا
إن واقع (رجال الدين) في التاريخ اليهودي، والنصراني، قد انحرف عن المسار
الطبيعي، العفوي، المشار إليه، وتحول إلى هيكلية معقدة، وأوضاع مبتدعة، لم
يأمر بها أنبياء الله، بل لو خرجوا ورأوها، لأصابتهم الدهشة، واستنكروها .
ومن صور الانحراف المتعلقة بالأحبار والرهبان ، ما يلي :
1-
الغلو فيهم، وتقديس ذواتهم، ورفعهم فوق منزلتهم البشرية، وعبادتهم : وقد
تم ذلك عن طريق صنع التماثيل والأيقونات للصالحين، بدعوى حفظ ذكراهم،
أولاً، ثم التوجه إليهم بالدعاء، وسائر صور العبادة، لاحقاً .
2-
منحهم العصمة في أقوالهم، والصوابية المطلقة في تصرفاتهم : جاء في التلمود
ما نصه:(من احتقر أقوال الحاخامات استحق الموت أكثر ممن احتقر أقوال
التوراة.. لأن أقوال علماء التلمود أفضل مما جاء في شريعة موسى ) الكنز
المرصود في قواعد التلمود: 51
وقد
اعتبرت الكنيسة من أسرارها المقدسة (سر السيامة) وهو انتقال سلطة يسوع
الروحية، إلى الرسل، جيلاً بعد جيل . ومنحت هذه العملية لقادة الكنيسة عن
طريق وضع الأيدي على الرؤوس، فتسري فيهم الخلافة الرسولية ! ثم زعمت
الكنيسة أن المجامع المسكونية التي يحضرها جميع الأساقفة، لها صفة العصمة،
بدعوى أن (روح القدس) يرعى قرارات المجمع، ويسددها! ثم انتقل الأمر إلى
ادعاء (عصمة البابا) وثار حوله لغط، ونزاع كثير.
ومن
آثار هذا الغلو، طاعة أولئك الأحبار والرهبان في تحليل الحرام، وتحريم
الحلال، والعبث بالشريعة . وقد وقع في غضون التاريخ اليهودي، من قبل
الأحبار، والحاخامات إضافات كثيرة، وآصار، وأغلال، أرهقت اليهود، وشددت
عليهم دينهم. كما وقع من (بولس) في الديانة النصرانية، إلغاء تام للشريعة،
واكتفاء بالإيمان النظري لتحقيق التبرر والخلاص . وبذلك خرج الأتباع عن ملة
إبراهيم، عليه السلام، التي تقوم على التوحيد الخالص لرب العالمين،
والاتباع للمرسلين .
وقد جاء محمدُ صلى الله عليه وسلم ليرد الأمور إلى نصابها، ويجدد ملة
إبراهيم، وينشر الشريعة الوسط لتنظيم شؤون الناس، دون إفراط ولا تفريط.
وصار العلماء من أمته حفظةً للشريعة، وحراساً لها، ليس لهم صفة كهنوتية
يستطيلون بها على الناس، بل هم أفراد عاديون، ومواطنون يمارسون مناشط
معيشية عامة؛ من التجارة، والزراعة،والصناعة، كسائر الناس، وليس لهم رتب،
ولا أزياء، ولا امتيازات خاصة، سوى ما وهبهم الله من العلم والإيمان،
المستمدَّين من أصلين معلنَين، مبذولَين لعموم الأمة، وهما الكتاب والسنة .
المصدر العقيدة والحياة
إرسال تعليق
Click to see the code!
To insert emoticon you must added at least one space before the code.