إن المتأمل في حال موجة الإلحاد التي بدأت تنتشر و تسري عبر العالم، لا يسعه إلا أن يدرك بعض الخصائص الرئيسية لهذا المعتقد، ومن أبرزها أنه بالرغم من الثقة الشديدة التي يظهرها الملاحدة بأفكارهم، وادعائهم الدائم والمتواصل، بتقديمهم لسلطة العقل، و تحرر تفكيرهم من الموروث السائد في المجتمعات، حتى أصبحنا نرى أنهم أعطوا لنفسهم مسؤولية حمل لواء الإنسانية، و العقلانية، و الفكر الحر، لمحاربة الجهل و الخرافات. إلا أنه في الحقيقة ، إلحاد سلبي للغاية، هدام بامتياز، لا يُقعد ولا يُؤصل ولا يُؤسس لأي مبدأ مستقل في إثبات صحة الأفكار، فغالبية هؤلاء الملحدين لا يستطيعون أبدا، الإتيان بتبرير-ولو كان خاطئا- لقرارهم هذا، والبرهنة على صحة اعتقادهم. بل وفي الغالب يلجؤون إلى قلب الطاولة على المؤمن وإلزامه هو بالتبرير على وجود الله تبارك و تعالى، ويكتفي الملحد بالرفض و النفي و التشنيع على الأدلة و نقاش الفرعيات.
في حقيقة الأمر، إن قضية إلزام المؤمن بالإثبات، ليست بالطارئة أو الحديثة، فقد صاغ برتراند راسل الفيلسوف الإنجليزي الملحد برهاناً عجيباً؛ مفاده أن وجود الله عز وجل مجرد فرض عقلي، لا يمكن إثباته، ولا نفيه. واستعمل في حجته هذه، مثال إبريق الشاي الصيني، السابح في مدار فلكي دائري، بين الأرض و المريخ، فهذا افتراض لا يمكن إثباته، ولا نفيه، وكذلك الإيمان بالله تعالى. فبالتالي، فالمدعي بالوجود هو المطالب بالإثبات. وقد انتصر لهذه الفكرة، عراب الملاحدة المعاصر ريتشارد دوكنز، وسماها ” طريقة عبئ البرهان”، واستعمل بدل مثال إبريق الشاي، مثال وحش السباغيتي الطائر؛ الذي ادعى أحد مشاهير الملاحدة العرب بكل وقاحة عبر قناة فضائية، أنه دين يتبعه اللآلاف عبر العالم !!
أقول بكل صدق، أن هذه الأفكار في غاية التفاهة والسذاجة. الملحد هنا يريد أن يصور لنا وكأن الحياة، كانت تجري مجرى عاديا و بشكل جد طبيعي، حتى قام شخص بادعاء وجود إله عليم حكيم ، قدير خالق للكون و متصرف فيه، ثم تبعه آخرون، خالفوا الرأي السائد و العام، و بالتالي عليهم عبئ الإثبات . ولا أدري هل وصل مستوى الدجل عند الملاحدة، إلى درجة أنهم بدأوا يخترعون أفكارا خاطئة، ثم انتهى بهم الأمر إلى تصديق كذبهم و خداعهم !. فالواقع يقول أن الأصل في الناس هو الإيمان بالله، فعدد المؤمنين في العالم يتجاوز بأضعاف عدد الملاحدة، وظاهرة الدين موجودة منذ ظهور الإنسان؛ بل وأثبتت الدراسات الحديثة، أن الإنسان يولد مؤمنا بالله تعالى بالفطرة، و أن الأطفال بإمكانهم أن يتوصلوا لوحدهم، لحقيقة وجود الله تعالى دون أي نوع من أنواع التلقي. (1)
إن المغالطة المنطقية التي سقط فيها راسل و أتباعه، هي تسويتهم بين المختلفات، وهذا ما أدى بهم إلى الوقوع في أخطاء استدلالية واضحة. فالإبريق العائم في الفضاء، مجرد فرضية، لا دليل عليها عقليا ولا واقعيا، لبيان صحتها. بينما الإيمان بالخالق، له أدلة عديدة في الكون، تدعو المتأمل فيه إلى الإيمان بوجود مبدع له؛ بل ولو سألت مؤمنا حول وجود الله تعالى، لساق عشرات الأدلة العقلية، والواقعية حول صحة فكرته، عكس صاحب الإبريق. ثم أنك لو ضربت طفلا صغيرا، ولم يرى ضاربه، و قلت له ” لا شيء ولا أحد ضربك”، لما صدقك. بل واعتقد مباشرة، أنك مجنون !. فمن هو القول الشاذ الملزم بالبرهنة عليه إذن ؟ هل هو القول المحترم لمبدئ السببية العقلي الضروري؛ بأن خالقا مبدعا خلق هذا الكون وصممه لغاية معينة ؟، أم القول الخارج عن مبادئ العقل والتجريب؛ بأن اللاشيء خلق شيئا؟؟. ثم إن هذا الدليل، يمكن قلبه على الملاحدة؛ وذلك بالقول أن التطور الدارويني، مجرد فرضية، لا دليل عقلي و لا تجريبي عليها، تقابلها أي فرضية عقلية أخرى.
و هناك نقطة أخرى مهمة : تخيل معي عزيزي القارئ أنك نمت يوما، كأي شخص عادي، نوما عاديا هنيئا، وحينما استيقظت فجأة، وجدت نفسك ملقى على أرض جزيرة في عرض البحر، خاوية لا طير يطير، و لا وحش يسير فيها !. هل ستجد الأمر عاديا لا يستحق التفكير؟ أم أنك ستطرح بعض الأسئلة الجوهرية من قبيل : أين أنا؟ كيف وصلت إلى هنا؟ لماذا جئت إلى هنا؟ ما المطلوب مني أن أفعل؟ إلى أين مصيري؟ … طبعا من البديهي، أنك ستطرح كل هذه الأسئلة، لأنها من مكونات وعي الإنسان؛ وهي التي تشكل إدراكه و شخصيته و صفاته. فبدأت تطرح هذه الأسئلة، ثم أكملت طريقك على شاطئ الجزيرة، فوجدت شخصا جالسا، ولديه جهاز لاستماع الموسيقى. فهرعت نحوه، وسألته كل أسئلتك السابقة، فما كان منه إلا أن أجابك “لا يهمني أن أعرف المهم أن هذه الموسيقى رائعة جدا”… أكيد ستصاب بالجنون من إجابته! و ستكون فكرة على أن هذا الشخص، إنما هو عبد لشهوته، وليس بإنسان واع، طالما لا يدرك غايته من الوجود على أرض هذه الجزيرة؛ لأن استماعه لتلك الموسيقى لن يطول أبد الدهر، فسيأتي يوم تنتهي فيه صلاحية جهازه .
فهكذا الأمر تماما، فيما يخص حياتنا الدنيا هذه، فلا خلاف بين المؤمن و الملحد. إن كل شهوات الدنيا وملذاتها لا تكفي لإشباع فكر إنسان يعلم بكل يقين، أنه ولد ليكون الموت مصيره النهائي…هكذا هي الأسئلة الوجودية الكبرى، لا تقبل التأجيل و لا التجاهل، فالموت حتمي و الشعور بالغائية من الفطرة الانسانية. فمن أين جئنا إذن؟ ولماذا نحن هنا؟ وإلى أين نحن ذاهبون؟ هذا هو السؤال الأكبر في المسألة الوجودية، التي هي أعظم و أكبر القضايا على الإطلاق في حياتنا، فهي إذن لا تحتمل إلا الجواب الشافي الوافي، والآن وحالا ، هذه طبيعة إلحاح الأسئلة الوجودية على العقل البشري، وكأن هذا العقل مُصمَّم لطرح هذه التساؤلات و للبحث عن إجابتها، وتكون هذه غاية ما يريده من العالم. فمن المطالب بتقديم أجوبة لهذه الأسئلة؛ الملحد أم المؤمن أم اللأدري؟
الذي يؤمن بوجود الله، والذي يُنكر وجوده، والذي لا يدري؛ كل واحد من هؤلاء مُطالب بمنتهى البساطة بطرح منطقي متكامل، وبما أن ادعاء وجود الله له من الوجاهة والأدلة والقرائن، الشيء الكثير، وآحاد هذه الأدلة، قد يوّلد يقينا لا يبق معه إلا التسليم لله، ولماّ كان كل ذلك من الأدلة التي يمتلكها المؤمن بالخالق، صار من البديهي أن ينتقل عبء الدليل إلى المنكر- منكر وجود الله – و إلى اللاأدري! وهذا ما يفعله القاضي المنصف حين يطلب دليل نفي من المتهم، خاصة لو كانت تحت يده عدة إثباتات أو حتى قرائن؛ فمثلا في قصة سيدنا يوسف عليه السلام مع امرأة العزيز التي راودته عن نفسه، شهد شاهد من أهلها وجاء بقرينة تدل على أنها هي التي راودته عن نفسه، وبالتالي انتقل عبء الدليل ليكون على المنكر(2) . فهل بإمكان الملحد الإثبات والتدليل على صحة معتقده؟
نستنتج إذن، أن هذه المغالطة ناشئة عن عجز الملاحدة عن إقامة الدليل على إلحادهم، وعن عدم الرغبة في الإيمان بوجود الله أصلا؛ ولا يوجد مثال أفضل من توماس نايغل فيلسوف الوعي الأمريكي الملحد ( الذي أعتبره شخصيا أكثر ملحد موضوعي متجرد من أهوائه الشخصية) الذي قال بصريح العبارة، أنه بالرغم أن المنهج الطبيعي منهج قاصر جدا لتأسيس فكر إلحادي مستقل، أو حتى لنفي أدلة الايمان، إلا أنه ببساطة، لا يريد أن يوجد كائن ذو صفات مثل صفات الله. والسبب في ذلك أن هذا سيكون تعديا على خصوصيته، فالله عز وجل مطلع على كل أفكاره وقراراته، ويعلم بها قبل أن يفكر فيها أصلا. وقال أيضا ” أريد للإلحاد أن يكون صحيحا ، ويزعجني أنه يوجد الكثير من الناس العباقرة المثقفين من المؤمنين”. وهنا نطرح سؤالا مهماُ، هل قضية ” أنا لا أرغب في وجود الإله ” هي قرار منطقي علمي، يكفي لرفض فكرة الإيمان وتبني الإلحاد، أم مجرد تفكير رغبوي، ليس له أي علاقة بمنطق ولا برهنة تجريبية ؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1: http://www.telegraph.co.uk/news/religion/3512686/Children-are-born-believers-in-God-academic-claims.html
2: من وحي أحد مقالات : مدخل اللاأدرية. للدكتور هيثم طلعت
المصدر مركز يقين
2: من وحي أحد مقالات : مدخل اللاأدرية. للدكتور هيثم طلعت
المصدر مركز يقين
إرسال تعليق