0
عبد المنعم العبيد

رواية الدم الحكيم للكاتبة الأمريكية فلانيري أوكونر (Flannery O’connor) نشرت عام 1952، وصنفتها صحيفة الجارديان ضمن قائمة أفضل 100 رواية في  القرن الماضي، وهي تتحدث عن معضلات الإيمان المسيحي وجدلية الإلحاد. وترجمها كاتب هذا المقال لتنشر نسختها العربية عام 2016 من قبل “عالم الأدب للترجمة والنشر”.

وصفت الكاتبة هذ الرواية بأنها كتبت بأسلوب “الكوميديا السوداء”، وقد يكون هذا شيئا لا يتفق معه بعض القراء إلا أنه من المهم أن يضع القارئ هذا الأمر في ذهنه قبل أن يباشر بالقراءة، لأن القصة لا يمكن أن تصدق على أنها رواية واقعية. فهي لا تصل إلى حد الخيال ولكن أحداثها صعبة التصديق. هذا يدل على مدى مهارة الكاتبة التي صاغت القصة بأسلوب ينسي القارئ هذه الحقيقة.

تدور أحداث القصة حول (هايزل موتس) وهو جندي عاد لتوه من الحرب وتغيرت معاني الإيمان بقلبه وأصبح ناقما على الدين. من خلال أحداث القصة يتعرف البطل على مجموعة من الشخصيات تمثل شرائح مختلفة من الناس، لكل واحد منهم تجربته الخاصه ومفهومه الخاص عن الإيمان والدين.

يتميز بطل القصة بأنه شخص صادق مع نفسه وليس شخصا على استعداد لنفاق المجتمع والانسياق معه، حيث أن مفهومه عن الدين هو مفهوم مطلق، ومن هنا تتضح الصورة التي أرادت الكاتبة أن ترسمها وهي حتمية اصطدام معتقد البطل المطلق بالواقع الذي يجب أن يعيشه المرء إذا لم يكن راهبا في صومعته.

وهذا الصراع يظهر واضحا منذ بداية القصة، فالبطل ليس على استعداد لأن يجعل قضية الإيمان بالمسيح أمرا هامشيا في حياته كبقية الناس، بل هدفه الرئيسي يتمحور حول الوصول إلى الحقيقة، والتي يحاول الوصول إليها بطرق غريبة وأحيانا مجنونة، ولديه اهتمام يكاد يصل لحد الهوس بالكتاب المقدس والمسيح.

ويعرض الكتاب أيضا لمحات من طفولة البطل وعلاقته مع أفراد عائلته، وتحديدا جده الذي كان يعمل مبشرا ويتضح أنه كان صاحب التأثير الأكبر في شخصيته.

من خلال تجول البطل عبر أرجاء القصة يتضح لنا كيف تعاملت كل شخصية مع معنى الإيمان في ضوء الواقع. فهناك الشخصية اللامبالية بالدين من الأساس، وهناك من اتخذ الدين بابا للرزق، وهناك من يعاني من حقيقة أن الدين المسيحي بحرفيته لا يطابق المنطق أو العقل في كثير من الأحيان، وهناك من عانى تجربة سيئة من شخص متدين كان مسؤولا عن تربيته. من خلال تجارب هؤلاء الشخصيات التي تقابل بطل القصة، يتمكن القارئ من فهم وجهات النظر المختلفة والأسباب التي أدت إلى تبني الشخص لوجهة النظر تلك. فالقارئ يرى كل شيء من خلال “عيني” البطل.

تتعامل الرواية مع الإيمان على أنه شيء حتمي في نفوسنا نحن البشر وعلى أنه أمر لا بد منه، حيث أن انعدام الإيمان هو إيمان بحد ذاته، بل هو مجرد نوع من التمرد الغاضب الذي إن دل على شيء فهو يدل على الإيمان نفسه. حيث أنه من لا يؤمن بالله فليس من المنطق أن يكون غاضبا منه ومتمردا عليه (والعياذ بالله). بل إن الرواية تصور الإيمان على أنه شيء لا مهرب منه وأنه شيء يلاحق البطل ولا يستطيع الإفلات منه. ومن هنا تطرح الكاتبة معضلة البطل ومشكلته مع الإيمان وهي معضلة الاحساس بالذنب والرغبة في التكفير عن الذنوب، وكيف أن هذا الموضوع هو أمر يتحكم بتصرفات الناس أحيانا دون أن يشعروا. فالرغبة في التكفير عن الذنوب قد تتحول إلى تصرفات لا يستطيع الناس تبريرها أو حتى مصارحة أنفسهم بها ولكنها ببساطة تشعرهم بالقليل من راحة البال.

“مال نحوها وهو يحدق بها: أنا أؤمن بيسوع جديد، يسوع لا يستطيع إهدار دمه ليتوب على الناس؛ لأنه مجرد إنسان لا ألوهية له. كنيستي هي كنيسة اللايسوع!”

يبدو لي أن هدف الكاتبة هو نقض التزمت والتعصب للرأي الديني. فبعض الناس يرى تفسيره وفهمه للدين هو الفهم السليم. ويظهر اختلاف مفهوم الإيمان من خلال طرح تعريفاته المختلفة عبر شخصيات القصة. ومن الدلالات الرمزية المرتبطة بهذه النقطة والتي تستوجب الوقوف عندها هي العيون ودلالة الإبصار والعمى لدى الشخصيات. فالبطل يلتقي قسيسا يدعي أنه أصاب نفسه بالعمى دلالة على إيمانه المطلق ويتضح فيما بعد أنه كذاب وأنه يستطيع الرؤية. وفي النهاية ينتهي الأمر بالبطل إلى أن يصيب نفسه فعلا بالعمى.

في رأيي تطرح الرواية الكثير من المشكلات المنطقية فيما يخص الدين المسيحي. فانعدام الصلة المباشرة بين الناس والوحي أدى إلى وجود قائمين على الإيمان وعلى تفسير الإنجيل، وأدى ذلك إلى أن الناس على اختلاف طبائعها واستيعابها اصبحت تتلقى الدين عبر طريق واحد، وأدى ذلك إلى ردات فعل مختلفة. فأصبح البعض لا يبالي بهذا الدين لعدم موافقتهم على تصرفات هؤلاء القائمين عليه. وقد نرى ذلك في مجتمعاتنا العربية من خلال تصرفات بعض زعماء المذاهب الفكرية والعقائدية، فتوفر مصادر المعرفة والرأي عبر الانترنت أدى ببعض الشباب المنتسبين إلى تلك الطوائف إلى ردة فعل عنيفة قادت بعضهم إلى الخروج من الملة نهائيا.

ناقشت الرواية أيضا أمرا مهما نرى تبعاته اليوم في مجتمعاتنا العربية وهو فكرة تمييع الدين والاجتزاء منه، فالنظرة العامة عند الغرب أن الروحانيات والدين أمر جميل ولكن بحدود. فهو عندهم مثل الملح في الطعام الذي لا يجب أن يزيد عن حده ولا يجب أن يؤخذ حرفيا ولا يؤثر في قراراتنا أو تصرفاتنا إلا بقدر قليل. وهذا قد يكون تفسيرا منطقيا بسبب انعدام المنطق في كثير من تعاليم الكتاب المقدس الذي تم تحرييفه عبر القرون ولكنه رأي بدأ بالانتشار تحديدا بين المتأثرين بسلطة الثقافة الغربية الغالبة المنتشرة بيننا في مجتمعاتنا. ففي اتباع الحل السحري الغربي “المتحضر” جاذبية تأسر الكثير من الناس. وللأسف ضاعت عن الناس جهود الآلاف من العلماء عبر 1400 سنة، والذين أوضحوا للناس بطرق متعددة كيفية الوصول إلى حياة ذات معنى (ولا أقول السعادة لأنها هدف لا يمكن تحقيقه) يستطيع فيها الإنسان أن يعيش في ظل هذا الكتاب وأن لا يكون إيمانه عائقا أمام ممارسة حياته بل معينا له على ابتلاءات هذه الحياة.

على الطرف الآخر، يتحدث الكتاب عن معضلة الإلحاد، وأن أحد الأسباب القوية التي تؤدي للإلحاد هي التربية الدينية غير السوية التي تؤدي بالشخص إلى كره الدين نفسه، أو بالأحرى كره النسخة المشوهة من الدين التي وصلت إليه واعتقد أنها هي الدين الصحيح. هذه المشكلة هي نتاج ضيق النظرة لدى المربين الذي يعتقد بعضهم أن القسوة والصرامة هي السبيل لضمان عدم الانحراف، ولكن هذا الأمر يؤدي عند تغير البيئة المحيطة بالمتلقي إلى تكسر المفاهيم ووصوله إلى الاحساس بأنه كان مغسول الدماغ، وباقتران ذلك مع تأييد المجتمع وكثرة المغريات وسهولة الوصول إليها يرى المتلقي رادعه الإيماني على أنه مجرد وجهة نظر فرضت عليه، وأنها إذا كانت قد لاءمت مربيه في العصر الذي عاش فيه فإنها لا تناسب الواقع الحالي. فيؤدي هذا الصراع الداخلي في النهاية إلى أن يعتقد المرء بعدم وجود شيء يؤمن به أصلا وإلى أن يقنع نفسه بأن كل هذه الأفكار ما هي إلا أشياء زُرعت في رأسه. وأن عليه أن لا يختار جانب الخير ولا جانب الشر بل أن يتوقف عن لعب هذه اللعبة من الأساس، لأن الاعتقاد بالخير والشر أمر نسبي بالنسبة للبشر ولا يمكن الوصول إلى حد فاصل بينهما عبر التفكير المنطقي، حسب ظنه.

بالإضافة إلى ذلك، تظهر معالم هذا الصراع في القصة من خلال إصرار البطل على أن يرتدي قبعة تشبه قبعة المبشرين كأنه يرجومن الناس أن ينتبهوا وأن يسألوه ما إذا كان مبشرا أم لا حتى يجيبهم بأنه لا يؤمن بأي شيء. وكأنه يريد أن يقنع الناس بمعتقده كي يصدقه هو وينهي هذا الصراع في داخله. وفي هذا دلالة على أهمية الانتماء عند كل الناس وأن كل إنسان يحب أن ينتمي إلى جماعة أو قضية أو فكرة تشعره بأهمية وجوده وتمنحه الإحساس بالقبول.

المصدر مواقع السبيل

إرسال تعليق

 
Top