0

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وآله وصحبه.


كان علماؤنا قديما يحذرون من التعرض للشبهات قبل التأهل العلمي والتحصين القلبي، وكانوا يشبهون ذلك بركوب البحر لمن لا قدرة له على العَوم!


لم يتغير شيء اليوم من حيث المبدأ، فما تزال الفكرة صحيحة، وما يزال التحذير قائما ..


لم يتغير شيء .. سوى أن البحر عمَّ اليابسة، وأن أمواجه داهمتْنا في عقر دارنا، بل وصلت إلى غرف نومنا ..


موجة شبهة ..


تليها موجة شهوة ..


في مدٍّ لا ينقطع، حتى يغرق كل شيء في طريقه!


وقد كان القدماء يتمثلون بقول الشاعر:


ألقاه في البحر مكتوفا وقال له = إيّاك إياك أن تبتلّ بالماء


فصرنا اليوم نحتاج إلى تعديل في البيت، يضيف إلى التكتيفِ والتكبيل، الجهلَ بفن السباحة!


فالمسكين مكبّل اليدين والرجلين، وهو فوق ذلك لا يُحسن العَوم. وتزيد الصورة كآبة، حين تعلم أنه يركب قاربا هشا تلعب الرياح به في خضم البحر، فلا يهدأ له بال حتى يزيد على حالته التعيسة، أن يلقي نفسه في لجة الماء واثقا مختارا!


فهذه صورة الكثير من شبابنا اليوم:


قلب مكبل بالأمراض والشهوات، لا يستطيع التحليق نحو آفاق الوحي الواسعة ..


وعقل لا يعرف السباحة في لجج الشبهات، لضحالة تكوينه العقدي والشرعي، وضعف حصانته البرهانية ..


وهو خائض في موج البحر مضطرا، لأن البحر أدركه في عقر داره -كما أسلفنا-، فهو يركب قاربا متهالكا من بقايا الحصانة الإيمانية الموروثة، تقلّبه رياح الشبهات ذات اليمين وذات الشمال ..


ثم -لشدة ثقته في نفسه وجهله بخطورة ما هو فيه- يلقي نفسه في مزيد من الشبهات، بخوض غمار النقاشات والمناظرات، بدلا من أن يعمل على: “إصلاح القارب، وتعلم العوم، وفك الوثاق”!


وهذه الثلاثة سبيل النجاة -بعد توفيق الله تعالى-:


إصلاح الإيمان الموروث وتقويته؛


وتعلم البراهين الإيمانية العقلية والنقلية؛


وتزكية النفس، وعلاج القلب من علله، وسقي غرس اليقين الإيماني فيه بالعمل الصالح ..


وإنني لأعجب، فأطيل العجب، ممن يتصدى لمناقشة الملاحدة واللادينيين وهو مقصّر في هذه الثلاثة أو في بعضها ..


وليس لدى القوم شيء سوى هدم ما لديك ..


فبضاعتهم الهدم، ورأس مالهم التشكيك ..


ولا تزال -أيها المسكين- داخلا في لعبتهم، حتى تجد نفسك وقد احتوَشَتْك الفتن من كل جانب، وتهدّم في قلبك أعز ما تملكه: إيمانك!


***


وقد تبين مما سبق أن تعزيز اليقين لا يكون بالاستدلال فقط، ولا ينبني على أساس من البراهين العقلية فحسب؛ وإنما يحتاج أيضا إلى تزكية إيمانية ..


بل لا أظنني مبالغا إن زعمت أن أكثر الناس لا يحتاجون إلى البراهين العقلية، بقدر حاجتهم إلى المثبتات الإيمانية؛ وأن أكثر انحراف الملاحدة عندنا، سببه ضعف اليقين بسبب أمراض القلوب ومطارق الشهوات، لا بسبب التفكر العقلي الفلسفي، الذي إنما يأتي بعد ذلك -إن أتى- ليكون شماعة تسويغية يعلق الإلحاد عليها ..


إذا عُلم هذا -وهو معلوم بإذن الله- فإن من طبيعة الإنسان العجز عن المداومة على العمل في مرتبة عالية، وإنما ديدنه الصعود تارة والهبوط تارة أخرى.


وما أبلغ الوصف النبوي حين اشتكى حنظلة رضي الله عنه قائلا: “نكون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكِّرنا بالنار والجنة حتى كأنا رأي عين، فإذا خرجنا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عافَسْنا الأزواج والأولاد والضَّيْعات، فنسينا كثيرا” فأجاب -عليه الصلاة والسلام-: “والذي نفسي بيده، إنكم لو تدومون على ما تكونون عندي وفي الذِّكر، لصافحَتْكم الملائكة على فُرشكم وفي طرقكم، ولكن يا حنظلة ساعة وساعة” (رواه مسلم).


ولأجل هذا العجز الفطري عن الاستمرار في أعلى مراتب العمل، جعل الشارع للمكلفين مواسم زمنية، هي فرصٌ يزيد فيها العامل من عمله، كأنها محطات يتزود المسافر منها قبل أن يتم سفره.


وإن من أعظم ما يصرف عن الاستفادة من المواسم: “الاعتياد” ..


ومعنى ذلك أن يتحول الموسم إلى عادة مقرّرة، ترجع كل سنة، يمارس فيها المسلم طقوسا معينة، دون حضور قلب، ولا استجماع همة!


إن سلطان العادة يحوّل العمل الصالح المؤثر في القلب، إلى عمل آلي لا روح فيه، فكيف يبعث الروحَ في قلب عامله؟!


فليس الطريق إذن في كثرة الحديث عن الموسم، والتذكير الآلي بما جاء في فضله، ولكن السبيل حقا في إحياء موات الموسم في القلوب، بتخليصه من سطوة الاعتياد.


***


وإن من أعظم المواسم وأجلها قدرا: هذه العشر من ذي الحجة، التي قال فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ما من أيام العملُ الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام”. قالوا: يا رسول الله، ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: “ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك بشيء” (رواه البخاري).


ولعل السر في تفضيلها -كما نبه على ذلك ابن حجر في الفتح- أن أمهات العبادة، وهي الصلاة والصيام والصدقة والحج، تجتمع فيها، ولا تجتمع في غيرها من الأيام.


وفي التوجيه النبوي السابق ذكره، فتح لباب عظيم من أبواب الخير، طوبى لمن سارع إلى ولوجه، ولم يضيق على نفسه أو غيره من الناس فيه.


فقد تكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عموم العمل الصالح، ولم يخص من ذلك شيئا؛ فانفتح الباب بذلك أمام العلماء في استنباط أصناف الأعمال، وأمام العاملين في العمل بها.


فالفائز من شغل نفسه في هذه العشر بالعمل، وترك المِراءات التي يتفنن بعض البطالين في إثارتها في كل موسم طاعة، إلى ما سواها من الأيام. على أن تركَها مطلقا أَوْلى ..


فاحذر أن تنشغل عن العمل بالجدل ..


ومن تأمل الأعمال الصالحة التي يحسن بالمسلم الحرص عليها في هذه الأيام، ظهر له عظيم أثرها في تعزيز اليقين:


فالصيام فيها -وخاصة في اليوم التاسع حين يقف الحجاج في أرض عرفة، فتفيض سكينةُ الخشوع من موقفهم على أهل الأرض جميعِهم-: سدٌّ لمنافذ الشهوة، وإضعاف لدواعي الجسد؛ وأعظِم بذلك مسلكا لتكثير مداخل اليقين، وتقوية دواعي الروح!


والصدقةُ غلق لأبواب الشح الذي لا يجتمع مع الإيمان، واجتثاثٌ لجذور الأنانية من القلب، حتى يتمحض لقبول أنوار الوحي السماوي، ويرتفع بها عن حضيض الفردانية الأرضية.


والاعتناءُ بالقرآن، قراءة وتعلما وتعليما وحفظا وتدبرا وتفسيرا، قطبُ رحى اليقين، وجماع أسباب تجذر الإيمان في القلوب، وطارد وساوس الشكوك منها – علم ذلك من علمه فالتمس الهدى من كتاب ربه، وجهله من جهله فتطلّب الرشاد من كلام الخلق مستدبرا كلام الخالق!


والصلاةُ حبل ممدود بين العبد الذليل الضعيف الحائر، وربِّه الذي يملك توجيه بوصلته في الاتجاه الذي هو خير وصلاح ونجاة. فمن تمسك بهذا الحبل نجا، ومن فرّط فيه فما الذي يعصمه من الضياع؟!


والذكرُ -في حده الأدنى- شغلٌ للسانِ عن منكر القول أو مفضوله؛ وفي حده الأعلى -وهو اجتماع الذكر بالقلب واللسان- إضاءة لردهات الروح بالأنوار التي تفيض عليها من الله سبحانه. فكيف يخطر ببال الذاكرِ وسواسٌ من التشكّك في المذكور سبحانه وتعالى؟!


والدعاءُ طلب لخير الدنيا والآخرة. وأعظَمُ ما يطلبه الداعي من ذلك، إن كان ممتثلا لهدي النبي صلى الله عليه وسلم في الدعاء: الهداية. ومن ألح على ربه في طلب الهداية إيجادا وتثبيتا، أوشك أن ينالها، فإن الله لا يرد يدي الداعي صفرا ..


وأما الحج -لمن اصطفاه الله فيسر له أسبابه- فمن لم يزد يقينُه ويرتقِ إيمانُه، عند أدائه مناسكَه، فلينصب سرادقا للعزاء، فقد مات قلبه من حيث لا يدري!


ويشبه الحجَّ -من بعض الأوجه- ما يكون من أعمال يوم العيد، خاصة الصلاة في الجو المَهيب للمُصلّيات الجامعة، وشعيرة الأضحية.


ولنا مع الأضحية وقفة يسيرة ..


لقد كادت هذه الشعيرة العظيمة تموت تحت سلطان العادة، فقد صارت عند أغلب الناس مظاهر اجتماعية مفرغة من مضمونها، منقطعة عن روحها. وصار من أوجب الواجبات بعث الروح فيها من جديد، وتخليصها من هذه المظاهر الجوفاء، التي جرّأت أعداء الدين عليها بالنقد والاستهزاء ..


لا بد من استحضار المقصود الأعظم بها، وهو: التقرب إلى الله بذبحها. وجميع الأحكام الفقهية المتعلقة بالأضحية، تدور في فلك هذا المعنى؛ ولكن أكثر الناس يتعلقون بظواهر الأمور، ويغفلون عن المعاني الباطنة.


ولا بأس أيضا باستحضار قصة إبراهيم وإسماعيل -عليهما السلام-. وأي يقين هذا الذي وقر في قلب الخليل -عليه الصلاة والسلام- حتى جعله يُضجِع فلذة كبده للذبح، غير متردد ولا متشكك؟! وأي يقين هذا الذي أفعم فؤاد الذبيح -عليه السلام- حتى جعله يخاطب أباه، غير وجِل ولا متهيب: “افعل ما تؤمر، ستجدني إن شاء الله من الصابرين”؟! وأي دروس في اليقين يضيعها الناس حين يغفلون عن تدبر هذه القصة الجليلة، ويكتفون من الأضحية بظاهرها المادي الخالص؟!


فهذه بعض الأعمال الصالحة التي تُشرع في هذه العشر، ويمكن استنباط معنى تعزيز اليقين منها، ويمكن -باليسير من التفكر- إيجاد نظائر لها كثيرة.


وفقنا الله لاستثمار مواسم الخير، وجنّبنا سبلَ الغفلة عنها.

المصدر مركز يقين

إرسال تعليق

 
Top