0

تقول أمنا عائشة رضي الله عنها في وصف خُلق النبي : خُلقه كان القرآن.

ولعل كلام أم المؤمنين رضي الله عنها من أدق وأجمل ما عبر عن كون النبي قدم لنا سنة عملية تطبيقية في تنزيل آي القرآن على أرض الواقع، لقد أرسل الله سبحانه وتعالى نبيه وجعل لنا فيه أسوة حسنة نقتدي بها : {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا}.

يقول د. القرضاوي حفظه الله في كتابه “كيف نتعامل مع السنة النبوية”: “وبهذا نعلم أن السنة هي التفسير العملي للقرآن الكريم، والتطبيق الواقعي -والمثالي أيضا- للإسلام، فقد كان النبي هو القرآن الكريم مفسرا، والإسلام مجسما”.

ومن المقاصد الكبرى لإرسال النبي ما أفصحت عنه الآية الكريمة : {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}، وهو مقصد التبين، الذي نستقيه من أقواله وأفعاله وتقريراته.

ويظهر مدى احتياجنا للسنة بإبراز أدوارها البيانية للقرآن الكريم، والبيان الذي تكفلت به السنة للقرآن الكريم ثلاثة أنواع كما ذكر ذلك وهبة الزحيلي في “الوجيز في أصول الفقه” ص38:

  • “أن تبين مجمل القرآن: مثل السنن العملية والقولية لبيان كيفية العبادات، وضوابط المعاملات”.

وهذا الدور البياني الأول للسنة النبوية كما بين وهبة الزحيلي رحمه الله، وهو تبيين المجمل من كتاب ربنا، ونضرب في ذلك مثلا: عندما أمرنا الله سبحانه وتعالى بإقامة الصلاة في قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ}، وهو أمر مجرد عن ذكر أفعال الصلاة والهيئة التي أراد الله أن نتخذها في الصلاة، وكذا مقدار الزكاة ووقت أدائها، وأحكام الحج والصوم وغيرها من العبادات التي تكفلت السنة ببيان وتوضيح مراد الله فيها.

ثم يقول رحمه الله:

  • “أن تخصص عام القرآن الكريم: مثل حديث (لاتنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها ولا على ابنة أخيها ولا على ابنة أختها)، فإنه مخصص لقوله تعالى : {وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاءَ ذَٰلِكُمْ}”.

ومن تخصيص العموم في القرآن الكريم أيضا قول النبي : (نحن معاشر الأنبياء لا نورث ماتركناه صدقة)، ويقول الله عز وجل في القرآن الكريم: {يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين}.

ومثاله أيضا قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ} وقول النبي : (أحل لنا ميتتان ودمان: السمك والجراد، والكبد والطحال).

وقوله تعالى : {وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} فالظاهر الآية يبيح البيع بكل أنواعه فجاءت السنة تخصص بعض الأصناف غير الجائزة في البيوع، منها قوله : (لا تبع ما ليس عندك).

  • “أن تقيد مطلق القرآن: كتحديد النبي موضع قطع يد السارق من الرسغ، فهو مقيد لإطلاق قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا}”.

وقوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} وقيدت السنة مطلق الوصية، فحددتها في الثلث وأقل منه، فقال : (الثلث والثلث كثير).

وقد فسر النبي بعض آي القرآن الكريم، ففي قوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} فزع الصحابة قائلين : وأينا لم يخلط إيمانه بظلم؟ قال: (ليس الذي إليه تذهبون -أي: ظلم الناس- أما سمعتم قول العبد الصالح: {يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}.

ففسر الظلم الذي في سورة الأنعام بالذي في سورة لقمان، ومن هنا يتبين لكل ذي عقل حصيف أن لا مجال للتعامل مع القرآن بعيدا عن سياقه الزمني والبياني المتمثل في السنة النبوية.

فهذه وجوه من أوجه احتياجنا للسنة النبوية، وهي الأوجه البيانية للقرآن الكريم، ويرى الدكتور القرضاوي حفظه الله في وجه آخر من أوجه احتياجنا للسنة النبوية أنها لا تنفك عن مشروع نهضة الأمة، هذا المشروع المنشود الذي يعيد هذه الأمة إلى موقع الوسطية والشهود الحضاري من جديد، يقول:

“وحين يضيف -[العقل المسلم المعاصر]- إلى ذلك فهما للسنة وإدراكا يستوعب مرامي وغايات التطبيق النبوي للوحي الإلهي وتحويله إلى واقع حي بحياة الناس ويمارسونه، فإن حُجُب الجهل، وظلمات الأحقاد والصراع، وتبديد الطاقات، سوف تنقشع بإذن الله عن هذه الأمة ويرتقي الإنسان المسلم فوق عوامل العجز الذاتي ليكون قادرا على إقناع الإنسان المعاصر بكل تعقيداته العقلية والثقافية، والأخذ بيده نحو الهداية والفلاح من خلال إدراكات الكليات الإسلامية وتمييز الثوابت عن المتغيرات وإدراك المقاصد وتحجيج الغايات”.

ونختم هذا المقال بالقول بأن السنة النبوية هي المصدر الثاني في الإسلام بعد القرآن، وأنهما صنوان لا يفقترقان، محفوظان بحفظ الله عز وجل، وأن هذا الحفظ لا يخص القرآن دون السنة بل يشملهما معا، وقد بين الإمام الشاطبي في “الموافقات” أن حفظ القرآن الكريم يتضمن حفظ السنة، لأنها بيان له، وحفظ المُبيَّن يستلزم حفظ بيانه.

المصدر مركز يقين

إرسال تعليق

 
Top