لقد حظي صحيحا البخاري ومسلم عبر تاريخ هذه الأمة بعناية خاصة من طرف
علمائها، فشرحوهما، وألّفوا الحواشي والتعليقات عليهما، وألّفوا في
رجالهما، وتناولوا ما أشكل فيهما بالتأليف، وكان هذا نابعا من إيمانهم
بأنهما أصح كتابين بعد كتاب الله، وأنهما احتويا أكثر عدد
من الروايات الصحيحة الممحَّصة تمحيصا دقيقا زائدا على ما سواهما من
المؤلفات الحديثية، وما نالا هذه المرتبة عند العلماء إلا لكونهما أَلّفا
ديوانين من أصح دواوين السنة النبوية، فقد لاحظ العلماء رحمهم الله التفاوت
الحاصل بين كتب السنة الستة من ناحية الإثبات، فكان البخاري رحمه الله
أكثرهم دقة وتحريا للصدق وضبطا له، وقد علم المحققون بعد الاستقراء – على
رأسهم الإسماعيلي – أن البخاري رحمه الله له منهج خاص في التعامل مع أسانيد
المرويات، فهو يشترط شرطين زائدين عن شروط الحديث الصحيح، وهي أنه لا
يكتفي بمعاصرة الراوي لمن روى عنه بل يتحرى أيضا لقاءهما، بينما يكتفي مسلم
رحمه الله بالمعاصرة، إضافة إلى منهجه البديع في اختصار الأسانيد و المتون
وترتيب الأحاديث في الأبواب، هذه الأبواب ذات الفوائد الفقهية البخارية
التي يشير فيها إلى فقهه، وغيرها من الفوائد المنهجية فيه، فقيمة كتابي
البخاري ومسلم مستمدة من إجمالي صحيح ما احتوياه، ومن منهجهما في الصنعة
الحديثة الذي لا يمكن أن نغمطهما حقهما فيه، ولا ينكر فضلهما إلا جاهل أو
مكابر، وسآتي بالتفصيل لإجابة سؤال “هل قدس علماء المسمين البخاري ومسلم؟”.
أما ما يعطي الكتابين قيمة كبيرة فهو جمعهما لسنن النبي صلى الله عليه
وسلم وأموره وأيامه وأقواله التي نعتبر شقا كبيرا منها من الوحي الإلهي،
هذه السنة التي نقدسها نحن المسلمين كونها الوحي الثاني في جانبها الذي يمس
التشريع إذ فيها أيضا ما لا يمسه كصفات النبي صلى الله عليه وسلم، وأخباره
في ما قبل الرسالة، إلا أن الإشكال يحصل في ذهن السامع لهذا الكلام –
الكلام عن كونهما أصح كتابين بعد كتاب الله – حين يقرأ أن البخاري ضعّف
حديثا في مسلم، أو أن مسلم ضعّف حديثا عند البخاري، وأن الإمام الدارقطني
انتقد على البخاري مخالفة منهجه في بعض الأحاديث وتضعيفه للبعض الآخر، يقول
الإمام النووي رحمه الله في شرحه لمسلم ص 27: ”قد استدرك جماعة على
البخاري ومسلم أحاديث أخلّا بشرطهما فيها ونزلت عن درجة ما التزماه”،
والنووي رحمه الله هنا لا يتكلم عن ضعف الأحاديث ولكن يتكلم عن نزول الحديث
درجة عن المستوى العالي الذي التزم به البخاري ومسلم في صحيحيهما.
وقد يصدم القارئ وهو يرى أن ابن حزم حكم بالوضع على حديث في مسلم، وكذا
ابن القيم وابن الجوزي والقاضي عياض رحمهم الله استشكلوا نفس الحديث الذي
حكم عليه ابن حزم بالوضع، وأن ابن العثيمين حكم بشذوذ حديث في البخاري، أو
أن الألباني انتقد ستة أحاديث عند مسلم… إلى غيرها من انتقادات العلماء
التي توحي إلى المتأمل، أن دعوى التقديس هذه موجودة فقط في رؤوس المشككين،
وأن العلماء مع اهتمامهم بالصحيحين والإقرار بفضلهما، لم يخرجا مجهود
الشيخين عن إطار المجهود البشري الذي يمكن أن يناله الخطأ، مقرين أن
الغالبية العظمى فيهما صحيحة.
ولنفهم من أين جاء هذا الإشكال سنورد كلام بعض العلماء الذي فُهم على
غير الوجه الذي أراده قائلوه، مما دفع بالبعض إلى ادعاء الإجماع بقطعية كل
ما في الصحيحين:
يقول الإمام ابن الصلاح رحمه الله (المتوفى سنة 643 هـ) في كتابه
”صيانة صحيح مسلم” ص85: ”جميع ما حكم مسلم بصحته في هذا الكتاب فهو مقطوع
بصحته” ثم قال رحمه الله: ”فإذا عرفت هذا فما أخذ عليهما -[أي البخاري ومسلم]- من ذلك وقدح فيه معتمد من الحفاظ فهو مستثنى مما ذكرناه لعدم الإجماع على تلقيه بالقبول”.
وبهذا يظهر للقارئ الكريم قصد ابن الصلاح رحمه الله في حديثه عن القطع
بما في الصحيحين، فهذا القطع من ناحية الإجمال أما عند التفصيل فإن هنالك
أحاديث انتقدها الحفاظ وهي خارجة عن هذا الإجماع الذي يطال الأحاديث
الصحيحة فقط.
وقال ابن حجر رحمه الله (المتوفى سنة 852 هـ) في كتابه: ”النكت على ابن
الصلاح” ص377: “قال الأستاذ أبو إسحاق الإسفرائيني: أهل الصنعة مجمعون على
أن الأخبار التي اشتمل عليها الصحيحان مقطوع بها عن صاحب الشرع، وإن حصل الخلاف في بعضها فذلك خلاف في طرقها ورواتها”.
قال ابن تيمية رحمه الله (المتوفى سنة 728 هـ) في مجموع الفتاوى
(18/17): ”من الصحيح ما تلقاه بالقبول والتصديق أهل العلم بالحديث كجمهور
أحاديث البخاري ومسلم، فإن جميع أهل العلم بالحديث يجزمون بصحة جمهور أحاديث الكتابين”.
وحتى إذا وقع بعضهم في تحسين الظن بهما في بعض الأمور المستشكل فيهما
وأخذ يدافع بلا دليل، فإن العلماء لا يسلّمون له في ذلك، بل يردون عليه وهم
مع ذلك يقرون بالفضل للبخاري ومسلم رحمهم الله، فأين التقديس إذن؟
وقد وقع الإمام النووي رحمه الله في هذا عندما قال في شرحه لصحيح مسلم
(1/33) أن ما في الصحيحين من رواية المدلسين بـ”عن” ونحوهما، فمحمول على
الثبوت من جهة أخرى.
قال الحافظ بن حجر رحمه الله تعالى في النكت (2/635): توقف في ذلك من
المتأخرين صدر الدين ابن المرحل، وقال في كتاب الإنصاف: إن في النفس من هذا
الاستثناء غصة، لأنها دعوى لا دليل عليها، ولا سيما أنا قد وجدنا كثيرا من
الحفاظ يعللون أحاديث وجدت في الصحيحين أو أحدهما بتدليس رواتها.
وقال: وكذلك استشكل ذلك قبله العلامة ابن دقيق العيد.
وقال تقي الدين السبكي في أسئلته للحافظ المزي رحمه الله:
وسألته عما وقع في الصحيحين من حديث المدلسين معنعنا، هل نقول أنهما اطلعا على اتصالهما؟
فقال: كذا يقولون، وما فيه إلا تحسين الظن بهما، وإلا ففيهما أحاديث من رواية المدلسين ما توجد من غير تلك الطريق التي في الصحيح”.
فكلام الإمام النووي رحمه الله في ذلك دعوى مجردة عن الدليل، والله
أعلم. [انظر الموقظة للإمام الذهبي ص: 45 بشرح وتعليق عمرو عبد المنعم
سليم].
فهذا كلام علماء الحديث فيما بينهم، وكيف تعاملوا مع من أحسن الظن فكيف إذا وصل إلى التقديس الذي يتوهمه هؤلاء.
إلا أنه ليس دائما يكون نقد العلماء للصحيحين صائبا، فقد يخطئ العالم
الناقد إذا خفي عليه منهجهما في كتابيهما فلا يغتر القارئ بانتقاد فلان
لحديث أو حديثين، ومن ذلك ما حدث لأبي زرعة الرازي رحمه الله، فيروي لنا
الخطيب البغدادي عن سعيد بن عمرو البرذعي:
وأتاه ذات يوم -وأنا شاهد- [يقصد أبا زرعة] رجل بكتاب الصحيح من رواية
مسلم، فجعل ينظر فيه، فإذا حديث عن أسباط بن نصر، فقال أبو زرعة: ما أبعد
هذا من الصحيح، يدخل في كتابه أسباط بن نصر!
ثم رآى في كتابه قطن بن نسير، فقال لي: وهذا أطم من الأول، قطن بن نسير
وصل أحاديث عن ثابت جعلها عن أنس، ثم نظر فقال: يروي عن أحمد بن عيسى –
وأشار أبو زرعة إلى لسانه – كأنه يقول الكذب…
فلما رجعت إلى نيسابور في المرة الثانية ذكرت لمسلم بن الحجاج إنكار أبي
زرعة عليه، وروايته في الصحيح عن أسباط بن نصر، وقطن بن نسير، وأحمد بن
عيسى، فقال لي مسلم:
”إنما قلت صحيح، وإنما أدخلت من حديث أسباط وقطن وأحمد ما قد رواه
الثقات عن شيوخهم، إلا أنه ربما وقع إلي عنهم بارتفاع، ويكون عندي من رواية
من هو أوثق منهم بنزول فأقتصر على أولئك، وأصْلُ الحديث معروف من رواية
الثقات”. [المصدر السابق]
فكلام أبي زرعة ناتج عن عدم علمه بمنهج الإمام مسلم رحمهما الله، ومعنى
كلام الإمام مسلم أنه ضمّن روايات أولئك الرواة في صحيحه، لأن الطريق التي
جاءت منه الرواية عالية، بينما نفس الرواية من طريق الثقات نازلة، ومعنى
النزول والعلو يوضحه الإمام البيقوني :
وكل ما قلت رجاله علا****وضده ذاك الذي قد نزلا
فيكون الإسناد الطويل نازلا باصطلاح المحدثين، وعاليا إذا قصر، ومعلوم
أن الإمامين البخاري ومسلم التزما في صحيحهما الاختصار وأخص بالذكر هنا
السند، فإذا كان للحديث طرق كثيرة يجمعون كل تلك الطرق في حديث واحد
باختصار أسانيدها ويضعون على ذلك علامة التحويل (ح) أو واو العطف فيعلم
بذلك أن الأسانيد مختصرة في إسناد واحد، ولما كان الاختصار منهجهما، فعل
مسلم رحمه الله ما فعله لما علم أن تلك الروايات التي رواها أولئك المتهمون
صحيحة من طرق أخرى لكن طويلة الإسناد، فيكون بذلك الطعن في أحاديثهما على
هذا الأساس جهلا بمنهجهما وهو ما يقع فيه كثير من المتسرعين.
وختاما فإن كون بعض الأحاديث المنتقدة على البخاري ومسلم في صحيحيهما لا
يقدح أبدا فيهما، ذلك أن الأغلبية الساحقة فيهما صحيحة وكما يقول ابن
القيم رحمه الله (المتوفى سنة 751 هـ) : العلماء بحار وأخطاؤهم أكدار، وإذا
بلغ الماء قلّتين لم يحمل الخبث.
إرسال تعليق