يحدثنا البخاري رحمه الله عن عمرو بن ميمون الذي رآى قِرْدَةً في الجاهلية قد زنت فاجتمع عليها القِرَدَة فرجموها، فرجمها معهم.
أول انطباع لدى بعض القراء عندما تصل إلى أسماعهم هذه الرواية، هو السخرية ورمي البخاري بالتخريف، واتهام عقله، واعتباره من الكذابين، وأن صحيحه يحوي خرافات، وأنه أحد أسباب تخلف المسلمين الذين خدعوا به طوال التاريخ.
بينما سيعتبر آخرون أن هذا إثبات آخر إعجازي لحد رجم المحصن، حيث أن الله سبحانه وتعالى أظهر هذا الحد في أحد الأنواع الحية ”القردة”، حتى يبين لهم غيرة الحيوانات، وسعيها في الحفاظ على مسألة العِرض وحفظ النسل التي تعتبر من الضروريات الخمس التي جاءت الشريعة الإسلامية لحفظها.
وكـلا الـفـريـقـيـن مـجـانـب للـصـواب، أمـا الـفـريـق الأول، فيرون بـردّ هذه الرواية لأنها من قبيل الخرافات، مع أنها رواية صـحـيـحـة إسـنـادا ومـتـنـا، وردّ الحديث بسبب الفهم الخاطئ ليس منهجا علميا وقد حذر العلماء من هذه الآفة اللاعلمية منذ القديم، وفي هذا يقول الدكتور القرضاوي حفظه الله في كتاب “كيف نتعامل مع السنة النبوية؟”:
”بيد أن الذي ألفت النظر إليه هنا هو رد السنة وصحاح الأحاديث، بناء على فهم خاطئ لاح في ذهن امرئ غير متخصص ولا متثبت، مما يدلنا على ضرورة التأني والتحري والتدقيق في فهم السنة، والرجوع إلى مصادرها وأهلها”.[ص:53]
ثم قال:
”إن المسارعة برد كل حديث يُشكل علينا فهمه –وإن كان صحيحا ثابتا- مجازفة لا يجترئ عليها الراسخون في العلم”. [ص:59]
وهذا ما يقع فيه الكثير من الشباب اليوم، الثائرين ضد كل ما يتوهمون له معنى يخالف المعقول والمنقول.
وكان لحديث القردة التي زنت نصيبه من الفهم الخاطئ شأنه شأن الكثير من الأحاديث الأخرى، بين من يدعي العقلانية، وبين من يتشبث بالرواية مع فهم خاطئ لها، وهؤلاء هم الفريق الثاني الذين تحدثت عنهم في البداية.
أولا: هل الحيوانات مكلفة شرعا؟
قبل كل شيء نوضح أنه لما أنزل الله سبحانه وتعالى الأحكام الشرعية أنزلها مخاطبة للمكلفين، أي أن المخاطب بالشريعة هم الإنس والجن، ويخرج ويستثنى المجنون والصبي حتى يحتلم، وأن القردة لا تدخل في المكلفين، ثم لا يتصور أن يكون بين القرد والقردة زواج وعقد نكاح، وميثاق غليظ…إلخ.
ولذلك استنكر حافظ المشرق والمغرب الإمام ابن عبد البر (المتوفى سنة 463هـ) قصة عمرو بن ميمون هذه وقال: “فيها إضافة الزنا إلى غير مكلف وإقامة الحد على البهائم، وهذا منكر عند أهل العلم”. [فتح الباري7/160].
ثانيا: هل في الحديث علة متنية قادحة؟
فيحدث أن يتساءل الإنسان الآن: أليست هذه علة قادحة في متن هذا الحديث؟ كيف تدعون أنه صحيح فقط لكون سنده صحيحا هذا وأن سنده فيه هشيم بن بشير وهو أحد الثقات المدلسين.وقد روى هذا الحديث بصيغة من صيغ الاحتمال وهي ”عن” والإسناد كالتالي : ‘حَدَّثَنَا نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ، حَدَّثَنَا (هشَيْمٌ، عَنْ حُصَيْنٍ)، عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ قال :…”فقد صوب العلماء ذلك، وأخبروا أن هشيما روى هذه الرواية بصيغة حدثنا حصين، يقول ابن حجر رحمه الله : ”في رواية البخاري في ‘’التاريخ’’ في هذا الحديث ((حدثنا حصين)) فأمن بذلك ما يخشى من تدليس هشيم الراوي عنه وقرن فيه أيضا مع حصين أبا المليح” [فتح الباري 7]
أما عن العلة المتنية فلا علة فيه تذكر وسيتضح ذلك، بعد حين.
ثالثا: أين أورد البخاري رحمه الله هذا الحديث؟
أورد البخاري رحمه الله هذا الحديث في باب ”القسامة في الجاهلية” مما يعني أنه سيتحدث عن تاريخ العرب قبل الإسلام ولا علاقة للأمر بالشريعة الإسلامية، وهذا واضح عند النظر في الأحاديث الواردة في هذا الباب نذكر بعضها:- وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنَا عَمْرٌو، عَنْ بُكَيْرِ بْنِ الأَشَجِّ، أَنَّ كُرَيْبًا، مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، حَدَّثَهُ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: ” لَيْسَ السَّعْيُ بِبَطْنِ الوَادِي بَيْنَ الصَّفَا، وَالمَرْوَةِ سُنَّةً، إِنَّمَا كَانَ أَهْلُ الجَاهِلِيَّةِ يَسْعَوْنَهَا وَيَقُولُونَ: لاَ نُجِيزُ البَطْحَاءَ إِلَّا شَدًّا “
- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الجُعْفِيُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، أَخْبَرَنَا مُطَرِّفٌ، سَمِعْتُ أَبَا السَّفَرِ، يَقُولُ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، يَقُولُ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ اسْمَعُوا مِنِّي مَا أَقُولُ لَكُمْ، وَأَسْمِعُونِي مَا تَقُولُونَ، وَلاَ تَذْهَبُوا فَتَقُولُوا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ مَنْ طَافَ بِالْبَيْتِ فَلْيَطُفْ مِنْ وَرَاءِ الحِجْرِ، وَلاَ تَقُولُوا الحَطِيمُ فَإِنَّ الرَّجُلَ فِي الجَاهِلِيَّةِ كَانَ يَحْلِفُ فَيُلْقِي سَوْطَهُ أَوْ نَعْلَهُ أَوْ قَوْسَهُ.
- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: «خِلاَلٌ مِنْ خِلاَلِ الجَاهِلِيَّةِ الطَّعْنُ فِي الأَنْسَابِ وَالنِّيَاحَةُ» وَنَسِيَ الثَّالِثَةَ، قَالَ سُفْيَانُ وَيَقُولُونَ إِنَّهَا الِاسْتِسْقَاءُ بِالأَنْوَاءِ.
رابعا: ماذا يهمنا نحن من الأحاديث النبوية الشريفة؟
يهمنا ما يمس التشريع ولا تهمنا أخبار الجاهلية لكونها لا تبنى عليها أحكام شرعية، ولذلك عرف الأصوليون السنة بأنها ”أقواله صلى الله عليه وسلم وأفعاله وتقريراته في ما له علاقة بالأحكام الشرعية” أما الحديث عن ما قبل الرسالة فلا يستنبط منه التشريع، وهذا ما يزيدنا تأكيدا أن البخاري رحمه الله لم يورده من جهة التشريع، وإنما حملها محمل ذكر أخبار الجاهلية وتاريخ المعتقد السائد آنذاك مما رؤي من أفعال القرود.المصدر مركز يقين
إرسال تعليق