0
في هذا المقال سنسلط الضوء على حديث في ”الصحيح الجامع” للإمام البخاري رحمه الله تعالى، حديث قد يثير استغراب الجميع، إلا أن طريقة تلقي الناس له قد تختلف من واحد إلى آخر، فيسلّم البعض له مهابة لصحيح البخاري، ويُنكره البعض معتبرا إياه من الخرافات، خصوصا أنه يخالف المعقول ويباين المنقول ويقشعر منه جلد طالب العلم الذي خَبُر التعامل مع المرويات، فهذه العلامات جعلها ابن الجوزي رحمه الله علامة على الوضع والكذب في الحديث، وهذا الحديث الذي سنناقشه اليوم فيه أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتل ”الوزغ” وفي الحديث ذكر سبب قتله وهو نفخه النار على ابراهيم عليه السلام حين ألقي فيها : (إِنَّهُ كَانَ يَنْفُخُ عَلَى إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ)
وهنا تنفذ إلى الأذهان بعض الأفكار من قبيل :
  • هل الحيوانات مكلّفة شرعا؟
  • هل علينا أن ننتقم منه ومن ذريته؟ كيف وفي شرعنا أنه ”لا تزر وازرة وزر أخرى”؟ وهذه قاعدة قرآنية كبيرة في ديننا لا يمكن أن نغض عنها الطرف، ومعناها أن المذنب وحده مسؤول عن ذنبه ولا علاقة لأقربائه وأبنائه بما يفعله، وهذا من تمام عدل ربنا.

هذه الاعتراضات العقلية التي مرت معنا قد نرد بها الحديث ونعتبره كذبا على النبي صلى الله عليه وسلم، إلا أن هذا هو التسرّع الذي يقع فيه الكثير من الشباب المتحمس للدفاع عن هذا الدين والذي يعتبر أن هذا الحديث مثلا يسيء إلى سمعة ديننا، فيعمد إلى رده وإنكاره، إلا أننا نقول له تمهل، فعلماء الحديث تنبهوا لهذه الأمور وهذا ليس غريبا عنهم، ومنهجهم النقدي شمل نقد المتون ونقد الأسانيد معا، مما يجعله منهجا عقليا متكاملا لا يمكن أن يغفل مثل هذه الجزئيات.

وكذا الأمر مع هذا الحديث الذي لا يمكن أن ننظر إليه فقط من الناحية المتنية، بل علينا النظر في سلسلة رواته أيضا، وعند البدء في النظر في هذا الحديث سنجد له طرقا كثيرة، والمعنى أنه وصلنا من سلاسل إسنادية كثيرة، ومنهج علماء الحديث هو أنهم لا يحكمون على الحديث قبل النظر في جميع الطرق التي أتى منها.

  • يقول شيخي عبد الفتاح الزنيفي في كتابه ”اللفظ النبوي التشريعي بين الرواية والدراية” ص 64 : ”فالدراية ينبغي أن تكون في جمع روايات الحديث الواحد وتنقيحها، وتخريجها لتكتمل صورة الخبر، وتتضح معالمه، فهذه هي الدراية الحقيقية التي تخدم الرواية خدمة جليلة”
  • يقول د. إبراهيم اللاحم في مقدمة كتابه : ”مهارات جمع طرق الحديث” : ”مرحلة جمع طرق الحديث، وهي مرحلة بالغة الأهمية في هذا السبيل، وعليها الاعتماد الأكبر في ما يليها من خطوات، فلا نظر أصلا في حديث إلا بعد جمع طرقه، وإذا زلت قدم الباحث فيها ترتب على ذلك أخطاء لاحقة، قد تؤثر على حكمه النهائي على الحديث
  • وقد قال الإمام أحمد بن حنبل : ”الحديث إذا لم تجمع طرقه لم تفهمه، والحديث يفسر بعضه بعضا”.

ومن هنا يتضح أنه لا مندوحة لمن رام فهم الحديث الشريف من جمع طرقه، إذا لا عذر له في إطلاق لسانه ورمي الأحاديث بالخرافات وهو لا يجيد أبجديات هذا العلم.

لنرى الآن الطرق التي جاءنا منها الحديث :

روى هذا الحديث عن ابن جريج : ابن وهب، يحيى بن سعيد، روح بن عبادة،  محمد بن بكر، حجاج بن محمد،  محمد بن عمر، الأزرقي، الضحاك بن مخلد، وعبيد الله بن موسى.

كل واحد فيهم أخذ الحديث عن ابن جريج وروى لنا رواية مستقلة عن روايات الآخرين، وكلّهم يتفقون في رواية هذا الحديث على أن النبي صل الله عليه وسلم أمر بقتل الوزغ، لكن لماذا؟ ألأنه كان ينفخ النار على إبراهيم عليه السلام؟ لا ليس لهذا السبب فحديث أم شريك والروايات التي جاءت عن ابن جريج كلها لم تذكر السبب إلا رواية واحدة جاءتنا من طريق فيها ضعف، وهي عن عبيد الله بن موسى عن ابن جريج ووحدها التي فيها (إِنَّهُ كَانَ يَنْفُخُ عَلَى إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ)، وهي في صحيح البخاري.

و عبيد الله بن موسى عند الرجوع إلى كتب الرجال و كتب الجرح والتعديل  نجد من يرميه بالتشيّع، والبعض برواية الطوام، والبعض الآخر نهى عن التحديث عنه :

  • قال الذهبي رحمه الله : شيخ البخاري. ثقة في نفسه، لكنه شيعي متحرّق. وثّقه أبو حاتم وابن معين.
  • قال أبو داود : كان شيعيا متحرقا.
  • قال أحمد : كان عبيد الله صاحب تخليط، حدث بأحاديث سوء، وأخرج تلك البلايا، وقد رأيته بمكة فما عرضت له.
  • وقد استشار محدث أحمد بن حنبل في الأخذ عنه فنهاه.
وهنا قد يتساءل الإنسان كيف يروي البخاري عن شيخه هذا، وهذا حاله؟
فيجب أن نعلم منهج البخاري أولا في صحيحه، من روايته عن أهل البدع أولا ثم المختلطين من الرواة :
  • أما عن أهل البدع : فقد سلك الإمامان البخاري ومسلم منهجا عدلا وسطا في التعامل مع أهل البدع عكس الإمام مالك الذي كان لا يرى بالرواية عن أهل البدع نهائيا، فقام الإمامان رحمهما الله في صحيحيهما بالرواية عن بعض أهل البدع الذين وثقوهما ووثقهم العلماء من الذين لا يدعون إلى بدعهم، ولا يرون بالكذب لنصرة مذهبهم، كالخوارج مثلا الذين يرون أن الكاذب صاحب كبيرة مخلد في النار.
  • أما عن أصحاب التخليط، فهما يسلكان أيضا فيه مسلكا معتدلا، فهم يروون عن المختلط قبل أن يختلط بعد كبر سنه أو ذهاب ضبطه أو حتى عقله، وقد يروون عن المختلط وهو مختلط إذا وافقت روايته روايات الثقات الحفاظ.
  • ومن منهجهما رحمهما الله أنهما إذا رويا حديثا عن أحد المجروحين يرويان الحديث من طرق أخرى صحيحة وهذا ما فعله البخاري رحمه الله مع هذا الحديث الذي رواه من غير طريق عبيد الله، وبدون قصة نفخ النار.

وعبيد الله بن موسى ثقة صاحب بدعة وليس فيه ما يمنع كونه من رجال ”صحيح البخاري”، لكن علينا أن نفهم ما الذي حدث، الذي حدث أن عبيد الله روى لنا هذه الرواية قائلا : عن أم شريك رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الوزغ .

و((قال)) : كان ينفخ على إبراهيم عليه السلام .

لقد فصل الحديث بقوله : ((وقال))، وهذه الزيادة كما يقول د.أسامة نمر أتى بها عبيد الله من حديث أخر ضعيف و ألصقها بهذا الحديث الصحيح وفصل بينهما بقوله ((وقال)).

وقد يكون المعنى أن ((وقال)) يرجع إلى عبيد الله بن موسى، فيكون هو القائل الذي فهم أن المقصد من قتله هو ذاك، ويكون فهمه هذا ناتجا عن ما سمعه من رواية أخرى ضعيفة.

وخلاصة الأمر أن الحديث صحيح بدون ذكر سبب نفخ النار على إبراهيم، وأنه يقتل لكونه من الكائنات الضارة للإنسان فهو يأكل الحشرات، الذباب و البعوض ثم يحمل سمومه إلى طعام الناس في بيوتهم.

فلهذا السبب وغيره أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتل الوزغ.

المصدر مركز يقين

إرسال تعليق

 
Top