أنا إنسان، وأنت كذلك، ولا شك أنك مِثلي تجد في نفسك وازعا من الفضول، يدفعك لمعرفة الأسباب، لمعرفة كيف نجح هذا، وكيف فشل ذاك، وكيف حصل هذا، ولماذا لم يحصل ذلك؟! ولعلك مثلي أيضا ساءَلْتَ نفسَكَ يوما عن سبب عدم رؤية الله تعالى.. إذ بما أنه رب وخالق، وبما أنه خلقنا لعبادته، فلماذا إذا لا يكشف لنا الحُجُبَ فنراه فنؤمن به فنعبده؟!
هذا السؤال غير جديد وغير مفاجئ، لكنه تاريخيا برز في سياقين مختلفين، أحدهما ظلم، والآخر به جانب من الحق، فالأول ما كان من بنِي إسرائيل ونبيُّ الله موسى عليه السلام بين أظهرهم، فتخَطَّوْوا الآياتِ البَيِّنات والمعجزات الحادثات، وسألوا ظُلماً نبيَّ الله أنْ أَرِنا الله جَهرةً، وذلك بعد أن نجَّاهم الله من فرعون وظلمه: {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ ۚ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَىٰ أَكْبَرَ مِنْ ذَٰلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ۚ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَٰلِكَ ۚ وَآتَيْنَا مُوسَىٰ سُلْطَانًا مُبِينًا} [النساء: 153].
لكنَّ سياقَ زمانِنا وحالَه، وبُعدَه عن فترة النبوة والمعجزات، يمنح السؤالَ نصيبا من التسويغ في الطرح، فكثيرا ما نصادف مَن يطرح هذا السؤال، في نفسه، أو على غيره، أو يَمِيدُ به الحال إلى أن يُنَظِّرَ له باعتباره دليلا على عدم وجود الله، وهذا لا شك اختزال غير مقبول، إذ أن عدم العلم ليس علما بالعدم، وجهل الشيء لا يعني انعدامه، فكيف بِنَفي من تواترت آثار خلقه وحكمته؟!
بداية نشير من جديد إلى أن هذا الموضوع لا يُناقَش إلا بعد الإقرار بوجود الخالق، وكون الله تعالى هو الرب ونحن العباد، وأنَّ القرآنَ كلامُه المنزَّلُ على محمد ﷺ، ثم بعد ذلك يمكننا القول بأن هذا الموضوع يُنظَر فيه وِفق قسمين، أولهما إمكان الرؤية واستحالتها، وثانيهما علة عدم رؤية الله في الدنيا.
هل رؤية الله تعالى ممكنة أم ممتنعة؟
إمكانية رؤية الله تعالى في الدنيا تُعالَجُ من زاويتين وَوِفق اعتبارين، زاوية رؤيته مُطلَقا باعتبار الإمكان والاستحالة، وزاوية رؤيته باعتبار الحقيقة الحاصلة والإرادة الإلهية، فهذه الأخيرة عند جمهور علماء المسلمين ممتنعة، لقوله : “تعَلَّموا أنه لن يَرى أحدٌ منكم ربَّه -عز وجل- حتى يموت” [1]، ولقوله ﷺ لمَّا سُئل: هل رأيتَ ربك؟ -يعني ليلة المعراج-، فقال: “نور أنَّى أراه؟” [2]. ولِمَا جاء أيضا في نفي الله تعالى إمكانية رؤيته في الدنيا عن موسى عليه السلام، وذلك في قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَىٰ لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ ۚ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَٰكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي ۚ فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَىٰ صَعِقًا ۚ فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف: 143].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: “وقد ثبت بنص القرآن أن موسى قيل له: لن تراني، وأن رؤية الله أعظم من إنزال كتابٍ من السماء، فمَن قال: إن أحداً من الناس يراه فقد زعم أنه أعظم من موسى بنِ عمران، ودعواه أعظم من دعوى من ادعى أن الله أنزل عليه كتاباً من السماء” [3].
أما من جهة إمكانية رؤية الله تعالى بغير اعتبار الإرادة بل باعتبار الرؤية مطلقا، فهي ممكنة عند جمهور العلماء، ممكنة عقلا وممتنعة شرعا، يعني أنها غير مستحيلة لكنها غير حاصلة لعدم إرادة الله تعالى ذلك، ودليلهم أن موسى عليه السلام سأل الله تعالى قائلا: “قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ ۚ “، فلو كانت رؤيته تعالى غير ممكنة عقلا لما سأل موسى ربه هذا الطلب، وأيضا جواب رب العالمين كان بقوله: “قَالَ لَنْ تَرَانِي”، ولم يقل لا أُرى، أو أجابه كما أجاب نوحا عليه السلام: { وَنَادَىٰ نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ * قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ ۖ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ ۖ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۖ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [هود: 45-46]، فالله سبحانه وتعالى ههنا استنكر على نوح سؤالَه بينما لم يستنكره على موسى، ما جعل رؤية الله تعالى ممكنة.
يقول ابن أبي العز الحنفي: “وهذا القول الذي قاله القاضي عياض -رحمه الله- هو الحق، فإن الرؤية في الدنيا ممكنة، إذ لو لم تكن ممكنة لما سألها موسى -عليه السلام-” [4].
وقال النووي -رحمه الله- مبيناً هذا المعنى: “أما رؤية الله في الدنيا فقد قدمنا أنها ممكنة، ولكن الجمهور من السلف والخلف من المتكلمين وغيرهم أنها لا تقع في الدنيا” [5].
لماذا إذا لا نراه مادامت رؤيته ممكنة عقلا؟
جواب هذا السؤال يكون من وجهين، أولهمها شرعي وثانيهما فيزيولوجي متعلق بذات الإنسان..
فالشرعي متعلق بكون الدنيا دارَ اختبار، ودارَ امتحان، والله تعالى غيَّب الجزاء والعقاب، من جنة ونار، ثم نَثَرَ في الكون ما يدل عليه وعلى حكمته، وأرسل رسلا، بل أعظم من هذا، منح الإنسان أداةً مَيَّزه بها عن غيره، وأناطَ تكليفَه بها وجودا وعدما، وهي العقل، فالله تعالى يحاسبنا بمقتضى عقولنا، وبمقدار العلم الذي لدينا، ولذلك تجد أن غير العاقل مرفوع عنه قلم التكليف، وأنه غير محاسب على أفعاله شرعا وعُرفا، كما أن مؤاخذة الصبي العاقل لا تكون بنفس مقدار مؤاخذة الكبير العاقل، وهنا تظهر مركزية العقل في الدين الإسلامي.
كما أن الله تعالى جعل ذاتَه غيبا، وليس تغييبُ الجنة والنار بأولى من تغييب الذات الإلهية، إذ لو كشف الله تعالى لنا ذاتَه لكان كشفُ الجنةِ والنار أولى وأولى، ولذهبت آنئذٍ غاية الامتحان الذي يَعْقُبُه الجزاء.
كما أن رؤية الله عز وجل من نعيم أهل الجنة خاصةً، ولا تكون لأهل الدنيا، فالمؤمنون يوم القيامة يتنعمون برؤية الله [6]. بل إن رؤية الله تعالى هي أعظم نعيم يُعطاه أهل الجنة، قال الله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22-23]، وقال الله تعالى عن أهل الجنة: {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} [ق: 35] وقال تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَىٰ وَزِيَادَةٌ ۖ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ ۚ أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [يونس: 26].
قال ابن كثير: “وقوله: {وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} كقوله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَىٰ وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26]. وقد تقدم في صحيح مسلم عن صهيب بن سنان الرومي: أنها النظر إلى وجه الله الكريم” [7].
وحتى لا نطيل، نذكر شق الجواب المتعلق بذات الإنسان، فالإنسان له قدرات محدودة (سواء البصرية أو السمعية)، فإذا كانت العين البشرية لا تستطيع رؤية الأشعة فوق البنفسجية (وغيرها من أطوال الموجات الخارجة عن المجال المرئي) [8]، فكيف إذا بخالق هذه الأشعة؟ فالله تعالى لَمَّا ذكر عَدم إمكان رؤية موسى له، أشار له إشارة جعلها شرطا لرؤيته، وهي رؤية الجبل لله تعالى، فلما لم يصمد الجبل وصار دكّاً كان موسى أولى بعدم الصمود.
وفي هذا الصدد يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه منهاج السنة: “وإنما لم نَرَهُ في الدنيا لعجز أبصارنا، لا لامتناع الرؤيا، فهذه الشمس إذا حدق الرائي البصرَ في شُعاعِها ضَعُفَ عن رؤيتها لا لامتناعٍ في ذات المرئي -الشمس-، بل لعجز الرائي -الإنسان-، فإذا كان في الدار الآخرة أكمل الله قِوى الآدميين حتى أطاقهم رؤيته، ولهذا لما تجلى الله للجبل خرَّ موسى صعقاً، قال: سبحانك تُبْتُ إليك، وأنا أول المؤمنين بأنه لا يراك حي إلا مات، ولا يابس إلا تَدَهْدَهَ، ولهذا كان البشر يعجَزون عن رؤية المَلَكِ في صورته إلا مَن أيَّده الله كما أيَّد نبينا ﷺ” [9].
{قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ ۚ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا ۚ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَىٰ وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ ۗ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ ۚ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [الرعد: 16].
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] : أخرجه مسلم في كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب ذكر ابن صياد.
[2] : أخرجه مسلم في كتاب الإيمان.
[3] : مجموع الفتاوى (2/336).
[4] : شرح الطحاوية في العقيدة السلفية (ج1/ص434).
[5] : شرح النووي على مسلم (ج1/ص320).
[6] : انظر شرح مسلم للنووي (1/ 35)، ومجموع الفتاوى لابن تيمية (6/ 465).
[7] : تفسير ابن كثير – تفسير سورة ق.
[8] : انظر هنا.
[9] : منهاج السنة النبوية (2/332). ما بين العوارض زيادة مني للتوضيح.
المصدر مركز اليقين
إرسال تعليق