0

إذا كان الله خلقنا وكتب في اللوح المحفوظ ما كان وما سيكون إلى يوم القيامة، وكتب على كل فرد أَشَقِيٌّ هو أم سعيد، فلماذا يحاسبنا على شيء كتبه علينا؟

هذا من الأسئلة المنطقية التي ما من أحد – غالبا – إلا وساءَلَتْه نفسُه به، وغالبا ما يستشكل الأمر على الناس فيَرتَبِكون ويظنون بالله الظنون، ويتصورون الظلم في أفعال الله تعالى – تعالى عن ذلك علوا كبيرا -، ولقد سأل الصحابةُ النبيَّ نفسَ السؤال، كما في صحيح مسلم أن سُرَاقَة بن مالك قال: يا رسول الله، بَيِّنْ لَنَا دِينَنَا كَأَنَّا خُلِقْنَا الْآنَ، فِيمَا الْعَمَلُ الْيَوْمَ؟ أَفِيمَا جَفَّتْ بِهِ الْأَقْلَامُ وَجَرَتْ بِهِ الْمَقَادِيرُ؟ أَمْ فِيمَا نَسْتَقْبِلُ؟ قَالَ: ” لَا، بَلْ فِيمَا جَفَّتْ بِهِ الْأَقْلَامُ وَجَرَتْ بِهِ الْمَقَادِيرُ”، قَالَ: فَفِيمَ الْعَمَلُ؟ قال: “اِعْمَلُوا، فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ”، وفي رواية: “كُلٌّ عَامِلٌ مُيَسَّرٌ لِعَمَلِهِ” [1].

لكن، هل لك عزيزي القارئ أن تقف هنيهة نفكك فيها الإشكال وننظر فيه؟..فهذا الإشكال واسع الجوانب، كتب فيه العلماء كتابات شتى، لذا سنحاول الإجابة فقط عن أساسياته وأهم نقاطه.

ما الذي نعنيه بالتسيير والتخيير؟

نعني بذلك أفعال وسلوكات الإنسان العادية، سواءً كانت حسنة أم قبيحة، كالمشي والأكل والدراسة والسرقة والنوم والعياء وغيرها، هل هو مُسَيَّرٌ فيها أم مُخَيَّرٌ؟ يعني هل يفعلها بمحض إرادته واختياره أم أن الله كتبها عليه ويُسَيِّرُهُ من أجل أن يفعلها رغما عنه؟

والحقيقة التي نعتقدها والتي يُقِرُّها العقل بسهولة أن الإنسان مُسيَّر ومخير، فالتسيير كامن في التصرفات والحركات التي تَصدر من الإنسان خارجَ قصدِه وإرادتِه، كالتثاؤب، وحركة الارتعاش، والولادة، والموت، والمرض، والسقوط بغير قصد… [2].

أما التخيير فهي الأفعال التي تأتي كثمرةٍ لإرادة الإنسان المحضة، كالذهاب والأكل والبيع والقراءة والسفر…، فهذه لا يمكن أن نقول أن الإنسان مجبَرٌ عليها، فإذا اقتنيتُ كتابا وهيَّأتُ ظروفا مناسبة لقراءته فهل أُسَمَّى حينها مجبَرا، أم أنني إنسان له نفس وفكر وعقل استخدمه من أجل أن يفعل فعلا بمحض إرادته؟! فحتى الطفل الصغير لا يأكل الطعام إن رفضه حتى تراوغه وتترضاه، فإذا خدعته ونِلت رضاه فتح فمه حينها وأكل، فكيف بالبالغ الكبير..! وكذلك السفر، لا تجد شخصا يذهب رغما عنه ليحجز مقعده ويعود ليحزم حقائبه ثم يذهب من جديد لينتقل إلى بلد آخر دون إرادة منه وعزم وتخطيط..!!

يقول ابن القيم: “فإن الله فطر عباده على التفريق بين حركة مَن رُمي به مِن شاهق فهو يتحرك إلى أسفلَ وبين حركةِ من يرقى الجبلَ إلى عُلُوِّه، وبين حركة المرتعش وبين حركة المُصَفِّق، وبين حركة الزاني والسارق والمجاهد والمصلي، وحركة المكتوف الذي أُوثِقَ رِباطاً وجُرَّ على الأرض، فمن سوَّى بين الحركتين فقد خَلع رِبقة العقل والفطرة والشرعة من عنقه” [3].

فالفعل البشري منقسم لاعتبارين، اعتبار إضافته إلى الله فهو خالقه سبحانه، بمشيئته وقدرته. واعتبار إضافته إلى العبد فهو الفاعل له حقيقة، بمشيئته، وقدرته [4].

يقول ابن تيمية: “الأعمال والأقوال والطاعات والمعاصي من العبد، بمعنى أنها قائمة به، وحاصلة بمشيئته وقدرته، وهو المتصف بها المتحرك بها، الذي يعود حكمها عليه” [5].

نقطة فارقة..!! العلم والجبر

ننطلق من نقطة مهمة، إذا تم فهمها جيدا جفت مستنقعات الحيرة، وهي اللَّاتلَازُم وعدم الترابط بين العلم والجَبْر، وهنا يجدر التفريق بين علم الله وبين إجباره لخلقه، فالذي يقع غالبا في عقول الناس، أنهم يظنون أن الله تعالى لمَّا أخبرهم أنه يعلم بشقائهم وسعادتهم فإنه يُجبرهم على النتيجة التي سبقت في علمه، وهذا خطأ في فهم خطاب الله تعالى وتقصير في فهم صفات رب العالمين، إذ أن الله تعالى ذَكَرَ فيما ذَكَرَ، أنه يعلم ما تفعلون ولم يَقُلْ أنه مُجبِرُكم على ما فعلتم وما سوف تفعلون.

يقول ابن تيمية رحمه الله: “واللهُ لا يُجبِر أحدا على فعلٍ، إذ لو جَبَر لكانوا عن التكليف خارجين، كما جُبِرت الملائكة على الطاعة” [6].

وعليه فالخلط بين العلم والجبر هو مكمن الإشكال، وهنا يلزمنا الحديث أولا عن صفة العلم الإلهي، لننتقل بعدها إلى قضية كتابة الأقدار. فالعلم الإلهي علم مطلق لا تصح تسويته بالعلم البشري النسبي، “فعلم الله تعالى كامل شامل لكل صغير وكبير، وقريب وبعيد، لم يسبقه جهل، ولا يلحقه نسيان، كما قال الله تعالى عن موسى حين سأله فرعون: ما بال القرون الأولى: {قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ ۖ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى} وقال: {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}” [7]. فكلمة شيء في هذه الآية جاءت نكرة لتفيد الاستغراق والعموم، فتدخل فيها حتى أعمال العباد المستقبلية، ولذلك نقول سَبَقَ في علم الله أنه سيقع كذا وكذا، ثم إن الله تعالى لم يجعل الشقي شقيا لأنه كتب عليه ذلك، ولكن العكس هو الصحيح، إذ إنه كتب أنه شقي لأنه عَلِمَ مُسْبقا أنه سيكون شقيا، ولأن الله إله، فيجب لزوما أن يكون علمه شاملا للماضي والحاضر والمستقبل، فإذا كان الله لا يعلم المستقبل فإنه سيكون إلها جاهلا، ناقصَ العلم، وهذا مُنتَفٍ عن الله تعالى، لأنه يسلبه صفةً ذاتية له وهي العلم.

ماذا عن القدر المكتوب؟

يقول قائل إن الله قال: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} فإذاً ليست لي مشيئة مطلقة، بل أفعالي خاضعة لمشيئة الله، قدرها علينا ونحن نعيش مجبرين على تنفيذها.

فهنا أيضا لدينا خلل آخر في فهم الآية، إذ أن الفهم الخاطئ يؤدي إلى هذا المعنى (وما تفعلون إلا أن يشاء الله) وهذا لم يقله الله تعالى، وإنما أثبت لنا مشيئة، وأثبت له مشيئة، “ومعنى الآية أنه لولا أن مشيئة الله شاءت أن تشاؤوا لما شئتم، أنت الآن مخير، وهذا الاختيار سبب سعادتك في الدنيا والآخرة، هذه المشيئة التي تتمتع بها أيها الإنسان لولا أن الله شاء لك أن تكون ذا مشيئة، لما كنت ذا مشيئة..” [8]. إذا فهذه المشيئة ليست مسلوبة منك، بل هي فقط منحة من الله لو لم يشأ أن يمنحك إياها ما نِلتها، وبالتالي لا تظُنَّنَّ أن الله يُسَيِّرُك بمشيئته مطلقا، فهذا مخالف لقوله تعالى في مطلع نفس الآية {وَمَا تَشَاءُونَ}.

كما أن قول الله تعالى هذا شقي وهذا سعيد يُعتبر حكماً يوجدُه العلم بما سيكون، وليس حكما تُلزم به القدرةُ أن يكون، لأن علم الشيء يكون بصفة العلم، أما الإجبار عليه فيكون بصفة القدرة، ولذلك ختم الله الآية بذكر العلم لا القدرة في قوله {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا}.

ولا يجب أيضا إغفال جانب الحكمة، فهي من الأمور الواسعة التي أظهر الله بعضها لعباده وأخفى بعضها، يقول ويليام هاسكر: “إن الحكمة البشرية أضأل من أن تحيط بجميع فعل الله، وذاك هو الفرق بين حكمة المحدود، ضيِّق الآفاق، وحكمة من لا يحده زمان ولا جهة نظر” [9].

تساؤلات

نطرح سؤالا هنا، شخص ظلم شخصا ثانيا ظلما شنيعا، واعتذر للقاضي بأنه مجبور وأن الله قدَّر عليه هذا الفعل، هل اعتذاره هذا مقبول يرفع عنه استحقاق العقاب؟

ثم لنفرض أن الشخص الثاني بدوره ظلم الشخص الأول، فهل سيقبل منه العذر الذي اعتذر به سالفا؟ أم أنه سيجره إلى القضاء..!!

سؤال آخر: شخص خُيِّرَ من أجل قضاء العطلة الصيفية بين بلدين أحدهما آمنٌ مطمئن فيه أنواع من المآكل والمشارب والنِّعَم، والثاني بلد خائف قلق، فيه أنواع من البؤس والشقاء، فبَدَهِيٌّ أنه سيختار البلد الأول دون الثاني، فلماذا إذا لا يختار الثاني ثم يحتج بالقدر، أم أنه يسعى ويتحرى لاختيار الأفضل في الدنيا، ولا يتحرى ذلك فيما يتعلق بالآخرة..؟!! بحجة القدر..!! [10].

سؤال آخر يطرحه د. أحمد إبراهيم في كتابه “اختراق عقل”: في حياتنا نحن البشر وبعلمنا القاصر يمكننا أن نتوقع ونعلم أشياء في المستقبل وتقع رغم أننا لم نجبرها على الوقوع، فإذا كان هذا بالنسبة لتقديراتنا وعلمنا نحن كبشر مخلوقين ومحدودين، فما بالنا بتقدير وعلم الله تعالى المحيط؟ [11].

إن كل محاكم الدنيا والتاريخ تثبت الأحكام القضائية وتصدرها في حق من يستحقها بناء على الحرية التي يملكها، والتي بها ارتكب ما ارتكب، ولذلك تجد القاضي قد يحكم على القاتل بالبراءة إذا ثبت بالدليل القطعي أنه لم يفعلها عمدا بل خطأ، وبالتالي فالحكم على أنَّ الإنسان كائن مُسَيَّرٌ حكمٌ على البشرية جمعاء بالعبث، وحكم على القوانين بالسخافة والظلم، ودعوةٌ ضِمنيةٌ وغيرُ مباشرة إلى إلغاء القوانين والعقوبات، فالحكم بالسجن أو الإعدام على قاتل مسكين خاضع للحتمية يعتبر ظلما، فما ذنبه إذاً إذَا كان مسيرا..؟!!

أخيرا

ثم لتعلم يا أخي الإنسان، أن هذه الأسئلة وغيرها ليس لأحد الحق في ردعك عن طرحها، لكن، لتعلم – حتى لا تقع في الخلط – أن الأمور العقدية خاصة المتعلقة بأفعال الله وتصرفاته لا تناقش منعزلة عن بقية المعطيات، فالإشكال الذي نصادفه غالبا هو مناقشة الصفة الإلهية بمعزل عن الصفات الأخرى، كمناقشة صفة القدرة منعزلة عن الحكمة والعلم، فهذا مما لا يستقيم، كما أن فهم كلام الله – خاصة المتشابه منه – لا تجب فيه العجلة، بل تجب فيه الأناة والتريث، ولذلك قال الشاطبي رحمه الله: “لكن يعلم الراسخون المرادَ من أوله، أو آخره، أو فحواه، أو بساط حاله، أو قرائنه. فمن لا يعتبره من أوله إلى آخره ويعتبر ما ابْتُنِيَ عليه زَلَّ في فهمه. وهو شأن من يأخذ الأدلة من أطراف العبارة الشرعية ولا ينظر بعضها ببعض، فيوشك أن يزل. وليس هذا من شأن الراسخين، وإنما هو شأن من استعجل طلبا للمخرج في دعواه” [12].

ثم لتعلم أخي الإنسان مسألة مركزية أخرى تحل الإشكال، وهي أن الله تعالى لم يُرتِّب جزاءً ولا عقابا، ولم يُلزِمنا بفعلِ واجبٍ أو تركِ حرامٍ إلا بمقتضى العقل، فمتى كان العقل كان هناك تكليف فثواب أو عقاب، وإن لم يكن هناك عقل سقط التكليف، لذلك اشترط الأصوليون لوقوع التكليف على الإنسان شرطين أولهما: “أن يكون المكلف قادرا على فهم دليل التكليف من الكتاب والسنة وما يلتحق بهما من الأدلة، سواء فهم بنفسه أم بواسطة، لأن مَن لم يستطع فهم دليل التكليف لا يمكنه أن يمتثل ما كُلِّف به، والقدرة على فهم أدلة التكليف إنما تتحقق بالعقل، وتكون النصوص التي يُكلَّف بها العقلاءُ في متناول عقولهم فهمُها، لأن العقل هو أداة الفهم والإدراك” [13].

أخي، عش حياتك بحريتك التي منحك الله إياها، واضبطها بالأخلاق والضوابط التي قيدك الله بها، واعلم أن الله سائلُك عمَّا فعلتَ أنتَ بمحض إرادتك لا بما أكرهكَ عليه غيرك..

{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ۚ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ۗ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ۚ}

والله أعلم..

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] : رواه مسلم، 2648.
[2] : محمد سعيد رمضان البوطي، الإنسان، مسير أم مخير؟ ص: 27.
[3] : شفاء العليل. ص: 201.
[4] : مهنا سالم سعيد مرعي، الرسائل والمسائل العقدية المنسوبة إلى الإمام الشافعي رحمه الله، ص: 507.
[5] : منهاج السنة النبوية، 3\146.
[6] : درء التعارض، ج:8، ص:498.
[7] : محمد بن صالح العثيمين، تقريب التدمرية، ص: 39.
[8] : محمد راتب النابلسي. مقتطفات من سور القرآن، بتاريخ 21-02-1994.
[9] : William Hasker, ” D. Z. Phillips, problems with Evil and with god” in International journal for Philosophy of Religion, Vol. 61, No. 3 ( Jun. 2007), p.: 156
[10] : تقريب التدمرية، ص: 89، بتصرف يسير.
[11] : اختراق عقل – دلائل الإيمان في مواجهة شبهات الملحدين والمشككين، ص: 300.
[12] : الاعتصام. 2\9.
[13] : علي عثمان جرادي، باب الوصول إلى علم الأصول، ص: 156.
المصدر مركز اليقين

إرسال تعليق

 
Top