0
د. مهران ماهر عثمان


بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمةً للعالمين، سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ..
المستمعون  الأكارم .. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأسعد الله أوقاتكم بكل خير .
هذا هو اللقاء الحادي عشر نلتقي فيه وإياكم بالصحابي الجليل أبي هريرة رضي الله عنه ليحدثنا عن قصة غابرةٍ رواها عن سيد الأنام رسولِنا عليه الصلاة والسلام يقول فيها :« كَانَ رَجُلَانِ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ مُتَوَاخِيَيْنِ ، فَكَانَ أَحَدُهُمَا يُذْنِبُ وَالْآخَرُ مُجْتَهِدٌ فِي الْعِبَادَةِ ، فَكَانَ لَا يَزَالُ الْمُجْتَهِدُ يَرَى الْآخَرَ عَلَى الذَّنْبِ فَيَقُولُ : أَقْصِرْ . فَوَجَدَهُ يَوْمًا عَلَى ذَنْبٍ فَقَالَ لَهُ : أَقْصِرْ . فَقَالَ : خَلِّنِي وَرَبِّي ، أَبُعِثْتَ عَلَيَّ رَقِيبًا ؟ فَقَالَ : وَاللَّهِ لَا يَغْفِرُ اللَّهُ لَكَ ، أَوْ لَا يُدْخِلُكَ اللَّهُ الْجَنَّةَ . فَقَبَضَ أَرْوَاحَهُمَا ، فَاجْتَمَعَا عِنْدَ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، فَقَالَ لِهَذَا : الْمُجْتَهِدِ أَكُنْتَ بِي عَالِمًا ؟ أَوْ كُنْتَ عَلَى مَا فِي يَدِي قَادِرًا  ؟ وَقَالَ لِلْمُذْنِبِ : اذْهَبْ فَادْخُلْ الْجَنَّةَ بِرَحْمَتِي . وَقَالَ لِلْآخَرِ : اذْهَبُوا بِهِ إِلَى النَّارِ » .
قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ أَوْبَقَتْ دُنْيَاهُ وَآخِرَتَهُ .
حديث صحيح أخرجه أحمد في مسنده وأبو دود في سننه .
قول رسولنا صلى الله عليه وسلم :« مُتَوَاخِيَيْنِ» : أَيْ مُتَقَابِلَيْنِ فِي الْقَصْد وَالسَّعْي ، فَهَذَا كَانَ قَاصِدًا وَسَاعِيًا فِي الْخَيْر ، وَهَذَا كَانَ قَاصِدًا وَسَاعِيًا فِي الشَّرّ .
من فوائد هذه القصة :
أنّ الناس قسمان ، منهم من يسلك طريق عبادة الله ، ومنهم من يؤثر جانب الغفلة ، قال سبحانه :} إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا{ [الإنسان3] .
ومما أوضحته القصة : سوءُ عاقبة الغضب .. فإن المجتهد لم يقل  ما قاله إلا بالغضب ، ولذا حذر منه رسول الله صلى الله عليه وسلم تحذيراً مؤكَّداً ، فلقد جاء إليه رجل فقال : َ أَوْصِنِي . قَالَ : «لَا تَغْضَبْ» .  فَرَدَّدَ مِرَارًا ، قَالَ :«لَا تَغْضَبْ» ، لم يزد رسول الله صلى الله عليه وسلم على قوله : لا تغضب . ولم يغضب النبي صلى الله عليه وسلم لنفسه ، إلا إذا انتهكت حرمات لله غضب لله ، وكان من دعائه :« اللهم إني أسألك كَلِمَة الحقِّ في الغضب والرِّضا» . قال ابن رجب في جامع العلوم والحكم معلقاً على هذه الدعوة :" وهذا عزيز جداً ، وهو أنَّ الإنسان لا يقول سوى الحقِّ سواءٌ غَضِبَ أو رضي ، فإنَّ أكثرَ الناس إذا غَضِبَ لا يَتوقَّفُ فيما يقول ". وهذه القصة مما تؤكد قوله ولذا جاء بها بعد كلامه هذا .
وتشبه هذه القصة ما حدث به رسول الله صلى الله عليه وسلم في صحيح الإمام مسلم :« أَنَّ رَجُلًا قَالَ: وَاللَّهِ لَا يَغْفِرُ اللَّهُ لِفُلَانٍ . وَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : مَنْ ذَا الَّذِي يَتَأَلَّى عَلَيَّ أَنْ لَا أَغْفِرَ لِفُلَانٍ ، فَإِنِّي قَدْ غَفَرْتُ لِفُلَانٍ وَأَحْبَطْتُ عَمَلَكَ» .
وفي القصة أنّ الله غفر للمقصر بدون توبة ، قال الإمام النووي رحمه الله :" وَفِيهِ دَلَالَة لِمَذْهَبِ أَهْل السُّنَّة فِي غُفْرَان الذُّنُوب بِلَا تَوْبَة إِذَا شَاءَ اللَّه غُفْرَانهَا ". فعقيدتنا : أنّ كل ذنب سوى الشرك فهو تحت المشيئة ، إن شاء الله عفا عنه ، وإن شاء أخذ به ، أما الشرك فقد سبقت فيه كلمة الله :} إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء{ .
ولو نظرنا إلى القصة بعين التأمل لوجدنا أنّ كثرة العبادة تورث تعظيم الله ، كما سبقت الإشارة إليه في قصة من قتل مائة نفس .
ولعلّ كلام المقصر للعابد : خَلِّنِي وَرَبِّي ، أَبُعِثْتَ عَلَيَّ رَقِيبًا . يدل على أنّ الإنكار كان بنوع من الشدة ، ومما يقوي هذا الاحتمال حدتُه التي فاحت رائحتها لما قال : وَاللَّهِ لَا يَغْفِرُ اللَّهُ لَكَ .
ومما لا ريب فيه أنّ مما يمنع من هذا التألي على الله أن يمتلأ القلب حال إنكار المنكر بالشفقة على المذنبين ، وأن ينظر المرء إليهم بعين الرحمة كما هو حال سيد المرسلين ، فلقد قال له رب العالمين : }لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ{ [الشعراء: 3] ، وتكرر هذا المعنى في القرآن في مواضع: قال تعالى : }وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ{ [الحجر: 88] وفي الكهف: }فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الحَدِيثِ أَسَفاً{ [الكهف: 6]. وفي فاطر: }فَلاتَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ{ [فاطر: 8]. وفي النحل: }إن تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَن يُضِلّ{ [النحل: 37]. إلى غير ذلك من الآيات التي تدل على كمال شفقته صلى الله عليه وسلم على الأمة ، ومحبته لإسلامهم ، وشدة حرصه على هدايتهم .
فمتى ما امتلأ قلب المنكِر بذلك كان مانعاً من التلفظ بهذه العبارات التي تُسخِطُ الله تعالى .
إنّ القصة كما دلت على سعة رحمة الله وعظيم مغفرته دلت على أنّه قد يأخذ بالذنب ولو لم يكن شركاً ، فلقد غفر للمقصر ، وعاقب المجتهد بكلمة دون الشرك به ، ولذا نعت سبحانه نفسه بقوله :} نَبِّىءْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمَ{ .. ألا .. فلا ينبغي لأحد أن يتكل على رحمة الله ويدعَ العمل ، سدِّد ، وقارب ، واستقم ، ثم أحسن الظن بربك ، فإن المؤمن قد جمع خوفاً وإحساناً ، والمنافق قد جمع أمناً وإساءةً .
إنّ هذه القصة لتحذرنا من أن نقحم أنفسنا بين الله وعباده ، وأن ننصبها حكماً على عباد الله ، فالله هو الذي يحكم بين عباده ، وهذا من رحمته بنا ، فلو وكل الله أمرنا إلى غيره لهو الهلاك بعينه .
إنّ من أجل الدروس في هذه القصة أنْ يحذرَ الإنسان من لسانه ، قال أبو هريرة رضي الله عنه : وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ أَوْبَقَتْ دُنْيَاهُ وَآخِرَتَهُ .
وقد كثرت النصوص التي تأمر بحفظ هذه الجارحة ..
قال تعالى :} مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتيدٌ {[ ق : 18 ] .
وفي الحديث المتفق على صحته يقول نبينا صلى الله عليه وسلم :« مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْراً أَوْ لِيَصْمُتْ » . وقال :«منْ يَضْمَنْ لِي مَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ وَمَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ أَضْمَنْ لَهُ الجَنَّةَ» ، وقال لمعاذ :«كُفَّ عَلَيْكَ هَذَا» . وأمسك بلسان نفسه ، فقال معاذ : يَا رسولَ الله وإنَّا لَمُؤاخَذُونَ بما نَتَكَلَّمُ بِهِ ؟ فقالَ : «ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ – وهي كلمة كانت العرب تقولها ولا تريد معناها- !قال :«وَهَلْ يَكُبُّ الناسَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلاَّ حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ» [رواه الترمذي] .
وفي البخاري قال صلى الله عليه وسلم :«إنَّ العَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ الله تَعَالَى مَا يُلْقِي لَهَا بَالاً يَرْفَعُهُ اللهُ بِهَا دَرَجاتٍ ، وإنَّ العَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالكَلَمَةِ مِنْ سَخَطِ اللهِ تَعَالَى لا يُلْقِي لَهَا بَالاً يَهْوِي بِهَا في جَهَنَّمَ » . وعن أَبي سعيد الخدري رضي الله عنه ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : « إِذَا أصْبَحَ ابْنُ آدَمَ ، فَإنَّ الأعْضَاءَ كُلَّهَا تَكْفُرُ اللِّسانَ ، تَقُولُ : اتَّقِ اللهَ فِينَا ، فَإنَّما نَحنُ بِكَ ؛ فَإنِ اسْتَقَمْتَ اسْتَقَمْنَا ، وإنِ اعْوَجَجْتَ اعْوَجَجْنَا )) [رواه الترمذي]. تكفر اللسان : أيْ تَذِلُّ وَتَخْضَعُ لَهُ.
قال النووي رحمه الله في رياض الصالحين :" اعْلَمْ أنَّهُ يَنْبَغِي لِكُلِّ مُكَلَّفٍ أنْ يَحْفَظَ لِسَانَهُ عَنْ جَميعِ الكَلامِ إِلاَّ كَلاَماً ظَهَرَتْ فِيهِ المَصْلَحَةُ ، ومَتَى اسْتَوَى الكَلاَمُ وَتَرْكُهُ فِي المَصْلَحَةِ ، فالسُّنَّةُ الإمْسَاكُ عَنْهُ ، لأَنَّهُ قَدْ يَنْجَرُّ الكَلاَمُ المُبَاحُ إِلَى حَرَامٍ أَوْ مَكْرُوهٍ ، وذَلِكَ كَثِيرٌ في العَادَةِ ، والسَّلاَمَةُ لا يَعْدِلُهَا شَيْءٌ".
وفي القصة أنّ الأعمال بالخواتيم ، وفيها معنى ما قاله سيد النبيين صلى الله عليه وسلم :« إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلَّا ذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فَيَدْخُلُهَا ، وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلَّا ذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيَدْخُلُهَا» .
اللهم أحسن خاتمة أمرنا ، وأجرنا من خزي الدنيا ومن عذاب الآخرة .
أكتفي بهذا القدر ، وأستودعكم الله ، على أمل اللقاء بكم مجدداً ، وصلى الله وسلم وبارك وأنعم على نبينا وسيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين ، والسلام عليكم ورحمة الله .
 

إرسال تعليق

 
Top