أستاذ بكلية العلوم جامعة عين شمس
قال الله سبحانه وتعالى:{
وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ
فَهُمْ يُوزَعُونَ (17) حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ
قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا
يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (18)
فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ
أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ
أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ
الصَّالِحِينَ } [النمل: 17-19].
· المفردات:
{ أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ}: أي
ساروا حتى إذا بلغوا وادي النمل ( أشرفوا على واد النمل)، وسمى بذلك لأن
أغلب الموجود في الوادي هو النمل، كما يقول العرب: وادي فلان، أي أغلب من
بالوادي من بني فلان، وعُدّي بعلى، إما لأن إتيانهم كان من فوق، فأتى بحرف
الاستعلاء، وإما يراد قطع الوادي وبلوغ آخره، من قولهم: أتى على الشيء، إذا
بلغ آخره.
وذكرت
بعض التفاسير أماكن لهذا الوادي، فقيل: إنه واد بالشام كثير النمل، وقال
كعب هو بالطائف، وقيل: إنه باليمن، ولكن لا يهمنا ذلك لأن العبرة بالألفاظ
لا بالمكان.
{ قَالَتْ نَمْلَةٌ }:لها صفة الإشراف والتنظيف على النمل السارح في الوادي، وسميت النملة نملة لتنملها، وهو كثرة حركتها وقلة قرارها(1).
{ النَّمْلُ }:كائنات
تنتمي إلى طائفة الحشرات، ويبلغ أنواعه حوالي تسعة آلاف نوع، وتختلف أنواع
النمل في الحجم، فمنه الصغير الذي لا يكاد يرى بالعين المجردة، ومنه أنواع
كبيرة… وكذلك يختلف النمل في الشكل واللون، كاختلافه في الحجم، ومملكة
النمل تتكون من:
ملكة النمل: وهي أنثى خصبة، دورها هو وضع البيض وإدارة الحكم في المملكة.
الشغالات (العاملات): وهي إناث عقيمة، تقوم بكل أعمال المملكة، بتوزيع دقيق، كل حسب قدرته.
العساكر (الجنود): وهم ذكور عظيمة، ويعتبر الجناح العسكري للمملكة.
الذكور: وهم ذكور خصبة، ودورها هو تلقيح الملكة فقط.
{ مَسَاكِنَكُمْ }:قريتكم، مدينتكم – عشكم – مستعمرتكم – مملكتكم.
{ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ }:لا يكسرنكم، لا يهشمنكم، لا يقتلنكم.
(والحطم):
الكسر لشيء صلب، ( والحطمة) من أسماء النار لأنها تحطم ما يلقى فيها.
(والحطام) هو ما تكسر من اليبس، وهو نهى لهن عن البروز والوقوف أمام سليمان
وجنده.
{ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ }:لا
يعملون بمكانكم، أي لو شعروا لم يفعلوا، قالت لك على وجه العذر، واصفة
سليمان وجنوده بالعدل، وهو إشارة إلى الدين والعدل والرأفة، وأيضاً إشارة
إلى فطرتها السليمة.
الإعجاز العلمي في مفردات الآية:
قالت نملة:صار جدلاً حول هذه النملة، هل كانت ذكراً أم أنثى ؟ وبماذا كانت تسمى؟
فعن
قتادة: أنه دخل الكوفة فالتف عليه الناس فقال: سلوا عما شئتم، وكان أبو
حنيفة – رحمه الله – حاضراً، وهو غلام حدث، فقاله: سلوه عن نملة سليمان،
أكانت ذكراً أم أنثى ؟ فسأل فأفحم، فقال أبو حنيفة رضي الله عنه كانت أنثى،
فقيل له: من أين عرفت ؟ فقال من كتاب الله تعالى وهو قوله:{ قَالَتْ نَمْلَةٌ…}، ولو
كان ذكراً لقال: قال نملة، وذلك لأن النملة مل الحمامة في وقوعها على
الذكر والأنثى، فيميز بينهما بعلامة نحو قولهم: حمامة ذكر، وحمامة أنثى،
وهو وهي… أ. هـ(2).
وقيل:
إن اسمها: طاخية – حرميا، لا ندري كيف يتصور للنملة اسم علم، والنمل لا
يسمي بعضهم بعضاً، ولا الآدميون يمكنهم تسمية واحدة منهم باسم علم، إنه لا
تمييز للآدميين بعضهم عن بعض، وإذا كانت أنثى، فهل هي ملكة أم شغالة عاملة (3)؟ وهكذا يحتد الجدل، لذا نحب أن نزيل هذا الشك في هذه النقطة بالذات من الوجهة التخصصية.
أقول – وبالله التوفيق – إن المقصود بالنملة هنا من الناحية العلمية هو الملكة، والدليل على ذلك ما يلي:
/1/ – كلمة
( قالت)، والتاء للتأنيث، وهذا يدل على أحد فردين، إما الملكة وإما
الشغالة، أو أن الملكة قالت وأخذت الشغالة قولتها وبلغتها للجميع قبل فوات
الأوان، والتأنيث في حق الملكة أكثر من الشغالة، لأن الملكة أنثى خصبة
والشغالة أنثى عقيمة.
/2/ – الملكة هي أم الجميع، وواجب الأمومة يفرض عليها أن تخاف على ذريتها أكثر من خوف غيرها، وذلك واضح من سياق الآية.
/3/ – الملكة هي الآمرة الناهية في المملكة، وليس لغيرها ذلك، أي لها صفة الإشراف والتنظيم والحفاظ على رغبتها.
/4/ – الكلام
في سياق سورة النمل هو عن الممالك، فكان الكلام عن مُلك سليمان على لسان
سيدنا سليمان عليه السلام، وعن ملكة سبأ على لسان ملكة سبأ، فلم لا يكون
الكلام عن مملكة النمل على لسان مليكتهم، أي ملكة النمل، ويكون الكلام على
مستوى القمة في ذكر الممالك.
/5/ – قد
يتبادر إلى الذهن تساؤل إذ أن الملكة تكون في الحجرة الملكية ولا تخرج
منها، فكيف عرفت أن سليمان وجنوده بالوادي، فهل رأتهم ؟ وللإجابة على هذا
السؤال نقول: إن النمل بصفة عامة ضعيف البصر، وكثير منه لا يرى، ولكنه
يستشعر عن بعد بواسطة أجهزة الإحساس التي زودها الخالق بها، وعلى رأس هذه
الأجهزة: قرون الاستشعار (الهوائي)(4)،
والتي يوجد بها العديد من البؤر، في كل عقلة من عقل الشمروخ، وتستطيع
بواسطتها الإحساس بالروائح ودرجة الحرارة ونسبة الرطوبة وشدة الرياح
وذبذبات الأصوات… ولعلها – وهي في حجرتها الملكية – قد أحست بجنود سليمان
قبل قدومهم عن طريق ذبذبات الصوت، ثم أصدرت أمراً إلى رعيتها، وذلك من خلال
بعض حاشيتها أو خدمها، كعادتها.
/6/ – رُبّ
سائل يسال: جاء في الأثر: إن قوماً حدث لهم جفاف شديد فطلبوا من نبيهم
الخروج للاستسقاء، فخرج بالناس يستسقون، فإذا هم بنملة رافعة رأسها إلى
السماء تدعو الله أن يسقيهم، فقال لهم: كُفيتم الدعاء، فارجعوا، فقد
استُجيب لكم من أجل نملة، ولسائل أن يسال: هل هذه النملة هي الملكة أم هي
نملة عادية من سائر النمل ؟
للإجابة
على ذلك نقول: إن هذه نملة من عامة الرعية، يقال لها الشغالة، وهي المكلفة
بالجد والاجتهاد وجمع الطعام، وهذا هو عملها، فعندما تستنفد كل طاقتها دون
فائدة، فكيف تعود إلى قريتها خالية اليدين !! عندئذ.. تدعو الله أن يرزقها
لكي تتم عملها على أكمل وجه، والملوك آخر من يتضوع جوعاً من مماليكهم، أي
إنهم آخر من يحس بالجوع والعطش.
/7/ – جاءت
كلمة نملة هنا نكرة، لأخذ العبر والعظات، فالنكرة للتفخيم، وفي نفس الوقت
ليذوب الفرد في الجماعة طالما يقوم كل منهم بعمله على أكمل وجه… إذن فكل
منهم مجهول في الآخر، وذلك من طبعها، لأنها لا تعرف الأنانية أو حب الذات،
ومجتمع النمل مجتمع تعاوني مثالي، الفرد فيه أغنى شيء في المملكة بالنسبة
للجميع، وفي نفس الوقت يضحى الفرد فيه بنفسه من أجل الجماعة.
{ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ }:لم
يقل المولى عز وجل: ادخلن، لأنه لما جعلها قائلة والنمل مقولاً لهم أجراهم
مجرى العقلاء بعد الخطاب، لأن القول إنما للعاقل، فعبّر بضمائرهم فقال: {ادْخُلُوا…} فانظر
كيف نسب لها العقل والفهم ونداء إخوانها وأمرها لهم بالفرار من الشر
ودخولها المساكن لتأويها خشية أن يحطمها سليمان وجنوده بلا شعور الحاطمين.
وفي
ذلك تنبيه ليوقظ العقول إلى ما أعطيته من الدقة وحسن النظام والسياسة، وما
أوتيت من حسن الهندسة في مساكنها ودهاليزها، فأما مساكنها فهي تتخذ القرى
تحت الأرض، ولبيوتها أروقة ودهاليز وغرفات ذوات طبقات، سوف نشرحها تفصيلاً
فيما بعد، وأما نداؤها لمن تحت إمرتها وجمعها لهم فإنما يشير إلى أسلوب
سياستها وحكمتها في تصريف أمورها.
جاءت:
(مساكن) بصيغة الجمع لتوحي بأنها لم تقتصر على فن واحد في عمارة بيوتها،
بل هناك أنواع أخرى من البيوت في أماكن مختلفة من البيئة، فهي تبني مساكن
فوق الأرض كالتي تحتها، وتتخذ من الأشجار العتيقة بيوتاً، كما يتخذ الإنسان
من الجبال بيوتاً.
ومن
يتأمل صنع قدماء المصريين في السراديب تحت الأرض والمغارات والتجاويف وما
بنوا فوقها من الأهرامات، لا ندرى من علّم الآخر، ولكننا على يقين أن النمل
هدى إليه بفطرته التي فطره الله عليها، بلا تعليم ولا مدرسة، فهو متواجد
قبل الإنسان بملايين السنين.
وتعبير
( المسكن) يوحى بالراحة والطمأنينة والأمان والاستقرار والسكينة والوقار،
وذلك بعد الجد طوال النهار، ولا يتأتى ذلك إلا إذا كان المسكن يحوي كل
مقومات الحياة مع نظام دقيق ينضبط مع منهج الفطرة السليمة.
تنبيه هام:في هذا السياق { ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ } تنبيه
على أمر هام وهو أن من يسير في الطريق لا يلزمه التحرز، وإنما يلزم من
يوجد في الطريق التحرز، ومثل ذلك نجد الرجل يمشي ليلاً في وسط الطريق
الممهد للسيارات، وقد يكون ملبسه داكن وقد لا يُرى من الأشجار التي تحف
بالطريق، ويتعذر رؤيته لراكبي السيارات فيكون حاله كمان عرض نفسه للخطر،
فيجب عليه أن يتحرز في السير تاركاً الطريق للعربات وخلافه…
{ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ }:استوقفني
هذا اللفظ كثيراً في تدبره وماذا يعني التحطيم هل هو تحطيم النفوس أم
تحطيم الأجسام، أم كليهما معاً ؟ ولماذا هذا اللفظ بالذات ؟
يقول
الفخر الرازي في تفسيره: إن تلك إنما أمرت غيرها بالدخول لأنها خافت على
قومها أنها إذا رأت سليمان في جلالته، فربما وقعت في كفران نعمة الله
تعالى، وهذا هو المراد بقوله: { لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ }، فأمرتها
بالدخول في مساكنها لئلا ترى تلك النعم فلا تقع في كفران نعمة الله تعالى،
وفي هذا تنبيه على أن مجالسة أرباب الدنيا محظورة. أ. هـ(5).
ويقول
القرطبي في تفسيره: لم ترِد ( حطم النفوس)، وإنما أرادت ( حطم القلوب)
خشية أن يتمنين مل ما أُعطي أو تفتن بالدنيا، ويشتغلن بالنظر إلى ملك
سليمان عن التسبيح والذكر.أ.هـ(6).
ولا
عجب عندما تسمع بقول كل من الفخر الرازي والقرطبي في هذا المعنى، فعندما
نتدبر ما قالته النملة، نعلم أننا بصدد مخلوق عجيب له فهم العقلاء
وبلاغتهم، وبالإضافة إلى حياته الاجتماعية المثالية، فمن الممكن أن يكون ما
قالوه عن النملة في تحطيم النفوس والقلوب فيه درجة كبيرة من الصحة.
وأما
من الوجهة العلمية، فإن هذا اللفظ بالذات له معنى علمي عميق، ولا ينفع في
هذا المكان غيره، فنحن نعرف مثلاً أن الهيكل العظم للإنسان هو عظامه، وهي
بداخل الجسم، وعند كسر عظمة منه أو أكثر لا يتحطم الجسد كله، بل من الممكن
أن يجبر هذا الكسر، وذلك عكس ما في النملة تماماً، فإن هيكلها هو الذي يحيط
بها من خارج جسمه، فالنملة حشرة، وهي كباقي الحيوانات مفصليات الأرجل (7)،
أجسامها مغطاة بهيكل كيتيني ( الجليد)، وأهم وظائف هذا الهيكل هو حماية
الأعضاء والأنسجة الداخلية من الجفاف والأضرار الميكانيكية، كما تتصل به
أيضاً العضلات وترتكز عليه، ويتأثر نموها به، ويتكيف بخواصه سلوكها، ولا
يغطي هذا الهيكل جسم الحشرة من الخارج فيحميه فحسب، ولكن يبطن أيضاً
الفجوات التي تتكون أصلاً من الإكتوديرم (8)،
كتجويف الفم، والجزء الأمامي من القناة الهضمية، وكذلك الجزء الخلفي منها،
والقصيبات الهوائية، والقنوات التناسلية الإضافية الخلفية، والغدد
المتنوعة التي تفتح على سطح الجسم…. ولجدار الجسم مرونة محدودة، ولكنه غير
قابل للتمدد إلا في فترة محدودة وقصيرة تلي الانسلاخ(9).
ويختلف هذا الجليد في سمكه وصلابته كثيراً، فهو رقيق جداً مرن الأجزاء
القابلة للحركة التي بين حلقات الجسم، وقد يكون سميك جداً صلب في الأجزاء
الأخرى القليلة أو العديمة الحركة، ومن خواصه الكيميائية أنه لا يذوب في
الماء أو في الكحول أو في المذيبات العضوية الأخرى، كما أنه لا يذوب في
الأحماض المخففة ولا في القلويات المخففة أو المركزة، ولكنه يذوب في
الأحماض المركزة…
ودون
التدخل في التفاصيل الدقيقة لتراكيب هذا الهيكل وخواصه الطبيعية
والكيميائية – والتي قد تطول ويملّها غير المتخصصين، تكفي هذه المقدمة
البسيطة التي يتضح لنا من خلالها أن الإضرار بهذا الهيكل، كالدهس تحت
الأقدام مثلاً، ينتج عنه تهشيم وتحطيم لهذه الحشرة، فعند كسر أي جزء من
الهيكل تنزف محتويات الجسم ويخرج عن آخره، ثم يصيبه الجفاف، وتنتهي حياته…
فالكسر هنا غير قابل للجبر، ولكنه يؤدي إلى تحطيم الحشرة تماماً وموتها…
لذا كان هذا اللفظ بذاته هو الذي يحمل في طياته هذا المعنى العلمي الدقيق
لتراكيب جسم الحشرة، وهي النملة.
هل هذه النملة من جند سليمان عليه السلام ؟ وكيف عرفت بأنه سليمان وجنوده؟
أغلب الظن أن النملة ليست من جند سليمان عليه السلام، لقول الله سبحانه وتعالى: { وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ } [النمل: 17]. والنملة ليست من هذه العوالم أو الطوائف أو الأقسام، وقوله: { مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ } بيان
للجنود، فهي ثلاثة أصناف: صنف الجن، وهو لتوجيه القوى الخفية والتأثير في
الأمور الروحية ؛ صنف الإنس وهو جنوده تنفيذ أوامره ومحاربة العدو وحراسة
المملكة ؛ وصنف الطير وهو من تمام الجند لتوجيه الأخبار وتلقيها وتوجيه
الرسائل إلى قواده وأمرائه، فربما يكون السؤال قد اقتصر على ذكر الجن
والطير لغرابة كونهما من الجنود، فلذلك لم يذكر الخيل، وهي من الجيش، فلم
لا يكون النمل كذلك ؟ وللإجابة على ذلك قال الله سبحانه وتعالى: {
قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا
يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ }، فقول
النملة يدل دلالة قاطعة على أنها ليست من جند سليمان وإلا كان عليها أن
تكون في الحشر مع باقي هذه الأقسام أو الطوائف، ولكنها أمرت جندها بالدخول
إلى المساكن والابتعاد عن طريق سليمان وجنده، فهي مملكة قائمة: لا سلطان
لنبي الله سليمان عليها، غير أنه تعلم لغتها بأمر ربه، وأخذ العبر من
تصرفاتها، مما جعله يبتسم… إذن، فكيف عرفت أنه سليمان نبي الله ؟
– الكون كله في انسجام تام، الكل يسبح – الكل يعبد الله – هل من هنا عرفته ؟
– هل الأجناس الأخرى على علم بما أرسل الله من الرسل، وكل الأجناس يؤمنون بكل نبي في زمانه ؟
إن
لنا في سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم مواقف كثيرة تؤيد مثل ذلك، فمن
الصحيح المسند من دلائل النبوة، قال مسلم – رحمه الله – (ج 4 ص 1782):
حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا يحيى بن أبي بكير عن إبراهيم بن طهمان،
حدثني سماك بن حرب عن جابر بن سمرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إني لأعرف حجراً بمكة كان يسلم عليّ قبل أن أبعث، إني لأعرفه الآن).
وقال ابن ماجه – رحمه الله – (ج، ص 1336): حدثنا محمد بن طريف ثنا أبو معاوية عن الأعمش عن أبي سفيان عن أنس قال: (
جاء جبريل عليه السلام ذات يوم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس
حزين قد خضب بالدماء، قد ضربه بعض أهل مكة، فقال ما لك فقال: فعل بي هؤلاء
وفعلوا، قال: أتحب أن أريك آية ؟ قال: نعم أرني، فنظر إلى شجرة من وراء
الوادي قال: ادع تلك الشجرة فدعاها، فجاءت تمشي حتى قامت بين يديه قال: قل
لها فلترجع، فقال لها، فرجعت حتى عادت إلى مكانها فقال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: حسبي ).
ومن
دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم: حنين الجذع: قال البخاري – رحمه الله –
(ج4، ص 319): حدثنا خلاد بن يحيى عبد الواحد بن أيمن عن أبيه عن جابر بن
عبد الله رضي الله عنهما ( أن امرأة من الأنصار قالت لرسول الله صلى الله
عليه وسلم: يا رسول الله ألا أجعل لك شيئاً تقعد عليه، فإن لي غلاماً
نجاراً، قال: ( إن شئت )،
فعملت له المنبر، فلما كان يوم الجمعة قعد النبي صلى الله عليه وسلم على
المنبر الذي صنع، فصاحت النخلة التي كان يخطب عندها حتى كادت أن تنشق، فنزل
النبي صلى الله عليه وسلم حتى أخذها فضمها إليه، فجعت تئن أنين الصبي حتى
استقرت).
قال
الإمام أبو حاتم محمد بن حبان – رحمه الله – كما في الموارد (ص519):
أنبأنا أبو يعلى حدثنا هدبة بن خالد القيسي، حدثنا القاسم بن الفضل
الحمداني حدثنا الجريري، حدثنا أبو نضرة، حدثنا أبو سعيد الخدري، قال: (
بينما راع يرعى بالحرة إذ عرض ذئب لشاة من شياهه، فجاءه الراعي يسعى
فانتزعها منه، فقال للراعي: ألا تتقي الله، تحول بيني وبين رزق ساقه إلي،
قال الراعي: العجب لذئب يتكلم، والذئب مقع على ذنبه يكلمني بكلام الإنس،
فقال الذئب للراعي: ألا أحدثك بأعجب من ذلك ؟ هذا رسول الله صلى الله عليه
وسلم بين الحرتين يحدث الناس بأنباء ما قد سبق، فساق الراعي شياهه إلى
المدينة فزواها في زاوية من زوايها، ثم دخل على رسول الله صلى الله عليه
وسلم، فقال له ما قاله الذئب، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال
للراعي: ( فأخبر الناس ما قاله الذئب ) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (
صدق الراعي، ألا إن من أشراط الساعة كلام السباع الإنس، والذي نفسي بيده
لا تقوم الساعة حتى تكلم السباع الإنس، ويكلم الرجل نعله وعذبة سوطه،
ويخبره فخذه بحدث أهله بعده ) حديث صحيح.
قال
الإمام أحمد – رحمه الله – (ج1، ص 204): حدثنا بهز وعفان، قالا: حدثنا
مهدي لنا محمد بن أبي يعقوب عن الحسن بن سعد ( مولى الحسن بن علي) عن عبد
الله بن جعفر قال: ( أردفني رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فأسرّ
إليّ حديثنا: لا أخبر به أحداً )،
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب ما استتر به في حاجته هدف أو حائش
نخل، فدخل يوماً حائطاً من حيطان الأنصار فإذا جمل قد أتاه يجرجر وذرفت
عيناه، قال بهز وعفان: فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم حنّ وذرفت عيناه،
فمسح رسول الله صلى الله عليه وسلم سراته وذفراه، فسكن، فقال: من صاحب
الجمل ؟ فجاء فتى من الأنصار فقال: هو لي يا رسول الله فقال: ( أما تتقي الله في هذه البهيمة التي ملكك الله ؟ إنه شكى لي أنك تجيعه وتدئبه ).
بل ترقى الجمادات إلى الشعور والعاطفة، لقول الله تبارك وتعالى: {
كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ } (25) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ
كَرِيمٍ (26) وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ (27) كَذَلِكَ
وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آَخَرِينَ (28) فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ
السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ } [الدخان: 25-29].
يقول
الشهيد سيد قطب: ذهب هؤلاء الطغاة الذين كانوا ملء الأرض والنفوس في هذه
الأرض، ذهبوا ولم يشعر بهم أحد في أرض ولا سماء، ولم يأسف عليهم أحد في أرض
ولا سماء، وذهبوا ذهاب النمال، وهم كانوا جبارين في الأرض يطأون الناس
بالنعال! وذهبوا غير مأسوف عليهم، فهذا الكون يمقتهم لانفصالهم عنه، وهو
مؤمن بربه، وهم به كافرون! وهم أرواح خبيثة شريرة منبوذة من هذا الوجود وهي
تعيش فيه! ولو أحس الجبارون في الأرض ما في هذه الكلمات من إيحاء لأدركوا
هوانهم على الله، وعلى هذا الوجود كله، ولأدركوا أنهم يعيشون في الكون
منبوذين منه، مقطوعين عنه، لا تربطهم به آصرة، وقد قطعت آصرة الإيمان(10). أ. هـ.
وفي الآخرة سوف تفك الشفرات، وكل اللغات لغة واحدة، تُفهم، ويكون العلم عندئذ علم اليقين، ولنتأمل قول الله تبارك وتعالى: {
بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ
سَعِيراً (11) إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا
تَغَيُّظاً وَزَفِيراً } [الفرقان: 11-12]... فالنار المعدة
للكافرين تراهم من أقصى مكان وتزداد غلياناً وفوراناً كالمتغيظ إذا غـلا
صدره من الغضب وزفيراً ( الذي أصله صوت يسمع من الجوف) يدل على تناهي
الغضب، ومثل ذلك في قوله تعالى: {
وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ
(6) إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ (7)
تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ
سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ } [الملك: 6-8]… فالنار ترى وتتأثر بما تراه، فتتقطع من الغيظ من رؤية الكافرين، ولها شهيق وزفير…
ونخلص
من ذلك إلى أن الجمادات في الدنيا والآخرة لها شعور وعاطفة، فمنها ما يبكي
على أولياء الله في الدنيا، ومنها ما تتقطع من الغيظ عند رؤية الكفرة
الفجرة في الآخرة متأثرة برؤياهم في شهيقها وزفيرها، نسأل الله لنا السلامة
والفوز بالجنة.
ونجد
أن أولياء الله ينسجمون في هذا الكون، فهم يتبعون ما شرعه الله تعالى، وهم
لا يسمعون ما لم يأذن الشرع لهم بسماعه، ولا يبصرون ما لم يأذن الشرع لهم
في إبصاره، ولا يمدون أيديهم إلى شيء ما لم يأذن الشرع لهم في مدها إليه،
ولا يسعون بأرجلهم إلا فيما أذن الشرع في السعي إليه، يحبون من أحب الله،
ولا يوالون من عادى الله، وهم ينصرون دين الله في كل زمان ومكان، حتى إذا
صاروا من أهل حب الله تعالى كانوا يسمعون بقدرة الله ويبصرون بنور الله،
وذلك مصداقاً لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ربه: عن أبي هريرة رضي
الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله تعالى قال: (
من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إليّ عبدي بشيء أحب مما
افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته
كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي
يمشي بها ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه ) رواه البخاري…
ومثال
ذلك كرامات صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنهم عمر بن الخطاب رضي
الله عنه، فقد صعد أمير المؤمنين عمر منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم
يوم جمعة، وبينما هو يخطب عرض في خطبته وقال: يا سارية بن حصن: الجبل الجبل، من استرعى الذئب ظلم، فتلفت
الناس بعضهم إلى بعض، فقال علي بن أبي طالب: صدق والله ليخرجن مما قال،
فلما فرغ الفاروق من صلاته سأله أبو الحسن ( يعني علي بن أبي طالب): ما شيء
سنح لك في خطبتك ؟ قال أمير المؤمنين عمر: وما هو ؟ قال علي بن أبي طالب:
قولك يا سارية الجبل الجبل، من استرعى الذئب ظلم، فتساءل أمير المؤمنين
عمر: وهل كان ذلك مني ؟ قال أبو الحسن: نعم، وجميع أهل المسجد قد سمعوه،
قال أمير المؤمنين عمر: إنه وقع في خلدي أن المشركين هزموا إخواننا فركبوا
أكتافهم، وإنهم يمرون بجبل، فإن عدلوا إليه قاتلوا من وجدوا، وقد ظفروا،
وإن جاوزوا هلكوا، فخرج مني ما تزعم أنك سمعته.
وجاء
البشير بالفتح بعد شهر، فذكر أنه سمع في ذلك اليوم (يوم الجمعة الذي خطب
فيه الفاروق ونادى يا سارية الجبل الجبل) وفي تلك الساعة. حين جاوزوا
الجبل، صوتاً يشبه صوت عمر بن الخطاب يقول: يا سارية: الجبل الجبل، قالوا:
فعدلنا إليه، ففتح الله علينا.
إن
الفاروق: الرجل الملهم، رجل نوراني طار بصره فاخترق المسافات الشاسعة
وكأنه قمر صناعي، فحذر صاحبه سارية بن حصن… فاستجاب له وكأنه على مقربة
منه، فكان النصر المبين.
فالله
سبحانه وتعالى هو الذي يُسمع، فكما أسمع الله سليمان عليه السلام قول
النملة وأفهمه إياه على بعد مسافة ما، أسمع سارية قول عمر رضي الله عنه رغم
بعد المسافات… وهكذا المؤمن الحق، يسمع ويرى بنور الله، فقد خرج رجل على
عثمان بن عفان رضي الله عنه يوماً فقال له: ما لي أرى أثر الزنا في عينيك،
فقال الرجل: أوحيٌ بعد رسول الله يا بن عفان ؟ قال: بلى، اتقوا فراسة
المؤمن فإنه يرى بنور الله…
أ. د/ رضا فضيل بكر
============
(1) تفسير القرطبي: الجامع لأحكام القرآن، دار الفكر للطباعة والنشر، ج 7، ص 158.
(2) تفسير الفخر الرازي، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، مج 12، ص 188.
(3) الملكة (Queen)
هي الأنثى اليافعة التي تميزها وظيفتها الوحيدة وهي وضع البيض لإنتاج
الذرية في مجتمعات ( مستعمرات) النمل والأرضة، وخلايا النحل أيضاً، وهي
تختلف عن غيرها، سواء من الفئات الخصيبة أم الفئات العقيمة، في الشكل
الخارجي، وتقوم على خدمتها عاملات ( معنية بالتغذية) أو الرعاية العامة،
وأما الشغالة أو العاملة (Worker)،
فهي واحدة الشغالات أو العاملات ( أو الفعلة)، وتمثل فئة من فئات المجتمع
في الحشرات الاجتماعية، كالنحل والنمل والزنابير والأرضة، والشغالات أو
العاملات ( أو الفعلة)، وتمل فئة من فئات المجتمع في الحشرات الاجتماعية،
كالنحل والنمل والزنابير والأرضة، والشغالات إناث عقم، تقوم بإنجاز جميع
الأعمال اللازمة لحياة أفراد المجتمع، ويفوق عددها عدد كل الفئات الأخرى (
المحرر العلمي).
(4) قرأ، الاستشعار ( أو الزبان أو المجس أو الهوائي antenna):
هو بنية مستطيلة متحركة حساسة، تكون عادة مكونة من وصلات ( عقل أو قطع)،
وتخرج من رأس حيوانات لا فقارية عديدة، خاصة مفصليات الأرجل التي تنتمي
إليها طائفة الحشرات (المحرر العلمي).
(5) تفسير الفخر الرازي.
(6) تفسير القرطبي.
(7) مفصليات الأرجل (Arthropoda):
هي شعبة من الحيوانات، تضم طوائف الحشرات والعنكبوتيات والقشريات وكثيرات
الأرجل، وهي أكثر شعب عالم الحيوان عدداً، يتميز جسم الحيوان فيها بتقسيم
واضح إلى حلقات، أي شدة، ويحيط به عامة جُليد متصلب، وله عدد من الزوائد في
الرأس والصدر والبطن، وهي ذات قطع متمفصلة في الجسم ( المحرر العلمي).
(8) الإكتودرم (Ectoderm)
ترجمتها الأدمة ( أو الوريقة) الخارجية، وهو الطبقة الجنينية الخارجية ضمن
ثلاث طبقات خلوية أولية في الجنين الحيواني، أو هي الطبقة الخارجية لحيوان
لا فقاري ثنائي الأصل أما الطبقتان الأخريان فهما، الوريقة الوسطى (
ميزودرم)، والوريقة الداخلية ( إندودرم)، أثناء النمو الجنيني، تنتج
الوريقة الخارجية ( الإكتوردم)، البشرة والنسيج العصبي، وينتج من الوريقة
الوسطى: العضلات والأوعية الدموية وغيرها، وينتج من الوريقة الداخلية بطانة
الأمعاء ( المحرر العلمي).
(9) الانسلاخ (Moulting)
هو عملية حيوية يضطر إليها الحيوان اللافقاري ( ومنه الحشرات) لطرح الجليد
القديم واستبداله بجليد جديد، يحدث عدة مرات في دورة الحياة، من أجل النمو
والتحول من طور إلى طور حتى تكتمل دورة الحياة ويعاد الجبل مرة أخرى… وفي
الطيور يحدث للريش سقوط يسمى ( تحسير) (المحرر العلمي).
(10) سيد قطب: في ظلال القرآن.
إرسال تعليق