يحتدم الجدل بين المسيحيين وغيرهم سواء كانوا مسلمين أو غيرهم من أرباب الديانات الأخرى، كما يحتدم الجدل بين المسيحيين أنفسهم حول قضايا التوحيد والتثليث. وعلى الرغم من أن عقيدة التثليث أصبحت عقيدة مسيحية سائدة في يومنا هذا وأصبح المسيحيون الموحدون أقلية بين الطوائف المسيحية الأخرى، إلا أن التاريخ يخبرنا أن عقيدة التثليث لم تكن العقيدة السائدة لدى المسيحيين في العصور السابقة، ولكنها كانت العقيدة التي لاقت تأييدا واستحسانا لدى الدولة الرومانية الوثنية حديثة العهد بالمسيحية.
ولقد كان التوحيد الخالص أساس العقيدة المسيحية إلى أن طغى عليه التثليث المدعوم من السلطة الوثنية. ومع ذلك، ظلت عقيدة التوحيد قائمة ولها أنصارها إلى أن جاء النبي محمد برسالة الإسلام الخاتمة فأيدها، كونها العقيدة التي دعا إليها السيد المسيح صراحة، ونبذ كل أشكال التثليث والشرك والوثنية التي طرأت على المعتقد المسيحي. ولذلك، فقد دخل المسيحيون الموحدون في الإسلام، لأنهم لمسوا فيه تطابقا شديدا مع رسالة عيسى وموسى عليهما السلام وما أنزله الله تعالى عليهما.
التوحيد خلال بعثة السيد المسيح
كثيرا ما يتلاقى القرآن الكريم مع الكتاب المقدس لاسيما العهد الجديد منه حول ما أُثر من أقوال وأفعال السيد المسيح والأحداث التي وقعت والمقولات والمأثورات التي سجلت والجدل الذي دار خلال الحقبة التاريخية التي بعث فيها السيد المسيح عليه السلام.
فيخبرنا القرآن الكريم أن حواريي المسيح قد آمنوا بالله تعالى رباً كما آمنوا بما أنزل سبحانه وتعالى وآمنوا بالسيد المسيح نبيا ورسولا. فعلى سبيل المثال، يقول الله تعالى:
فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ. رَبَّنَا آَمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (آل عمران 3: 52-53)
كما يقول تعالى:
وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آَمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آَمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ (المائدة 111:5)
وتتفق نصوص العهد الجديد مع نصوص القرآن الكريم في هذا الصدد. فلقد ورد وصف يسوع بـ”الرسول” صريحا في العهد الجديد. فنحن نقرأ: “إِذَنْ، أَيُّهَا الإِخْوَةُ الْقِدِّيسُونَ الَّذِينَ اشْتَرَكْتُمْ فِي الدَّعْوَةِ السَّمَاوِيَّةِ، تَأَمَّلُوا يَسُوعَ: الرَّسُولَ وَرَئِيسَ الْكَهَنَةِ فِي الإِيمَانِ الَّذِي نَتَمَسَّكُ بِهِ. فَهُوَ أَمِينٌ لِلهِ فِي الْمُهِمَّةِ الَّتِي عَيَّنَهُ لَهَا، كَمَا كَانَ مُوسَى أَمِيناً فِي الْقِيَامِ بِخِدْمَتِهِ فِي بَيْتِ اللهِ كُلِّهِ” (العبرانيين 3 :1-2) وتجدر الإشارة إلى أن وصف “يسوع رسول الله” يرد كاملا بهذا الموضع في النسخ غير العربية من الكتاب المقدس. (انقر هنا للاطلاع على نسخ الكتاب المقدس باللغة الإنجليزية)
وينقل القرآن الكريم عن السيد المسيح تأكيده أن الله ربه وإلهه كما ينقل عنه أمره بعبادة الله وحده. فنحن نقرأ على سبيل المثال:
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (المائدة 72:5)
وتتفق نصوص العهد الجديد مع نصوص القرآن الكريم في هذا الصدد أيضا. فلقد وردت مواضع عديدة في العهد الجديد تنقل عن السيد المسيح تأكيده أن الله إلهه وأمره بعبادة الله وحده. فعلى سبيل المثال، نقرأ في العهد الجديد: قَالَ لَهَا يَسُوعُ:«لاَ تَلْمِسِينِي لأَنِّي لَمْ أَصْعَدْ بَعْدُ إِلَى أَبِي. وَلكِنِ اذْهَبِي إِلَى إِخْوَتِي وَقُولِي لَهُمْ:إِنِّي أَصْعَدُ إِلَى أَبِي وَأَبِيكُمْ وَإِلهِي وَإِلهِكُمْ». (يوحنا 17:20)
ونقرأ: وَنَحْوَ السَّاعَةِ التَّاسِعَةِ صَرَخَ يَسُوعُ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ قَائِلاً: «إِيلِي، إِيلِي، لِمَا شَبَقْتَنِي؟» أَيْ: إِلهِي، إِلهِي، لِمَاذَا تَرَكْتَنِي؟ (متى 46:27)
كما نقرأ: حِينَئِذٍ قَالَ لَهُ يَسُوعُ:«اذْهَبْ يَا شَيْطَانُ! لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ: لِلرَّبِّ إِلهِكَ تَسْجُدُ وَإِيَّاهُ وَحْدَهُ تَعْبُدُ». (متى 10:4)
ومما سبق من نصوص القرآن الكريم والكتاب المقدس، يتبين أن السيد المسيح أقر بأن الله إلهه وأمر بعبادته وأن أتباع السيد المسيح آمنوا بالله ربا وإلها وبه نبيا ورسولا، وهذا هو التوحيد الخالص الذي عليه المسلمون حتى يومنا هذا، أي أن رسالة السيد المسيح كانت الدعوة إلى التوحيد شأنها شأن جميع الرسالات التي جاء بها جميع أنبياء الله ورسله.
رفع المسيح وأثره في التوحيد
لكن للمرء أن يتساءل: من أين أتى تأليه المسيح وعبادته مع الله؟ ومن أين أتى التثليث المزعوم وما هي جذوره التاريخية؟
ولنا أن نقول أن رفع السيد المسيح من هذا العالم لم يكن أقل إثارة للخلاف والجدل من ميلاده المعجز. فكما اختلف الناس على ميلاده عليه السلام، اختلفوا أيضا على رفعه. وتنقل لنا نصوص القرآن الكريم والكتاب المقدس مدى عمق وخطورة هذا الخلاف.
فعلى سبيل المثال، نقرأ في القرآن الكريم:
ذَلِكَ عيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ. مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ. وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ. فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (مريم 19: 34-37)
وينقل لنا الكتاب المقدس مدى الخلاف على
رفع السيد المسيح وحالة الشك وعدم التصديق التي سادت بعد رفعه. فنحن نقرأ
في إنجيل مرقس: “أَخِيرًا ظَهَرَ لِلأَحَدَ عَشَرَ وَهُمْ مُتَّكِئُونَ،
وَوَبَّخَ عَدَمَ إِيمَانِهِمْ وَقَسَاوَةَ قُلُوبِهِمْ، لأَنَّهُمْ لَمْ
يُصَدِّقُوا الَّذِينَ نَظَرُوهُ قَدْ قَامَ” (مرقس 14:16)

لم يكن لعقيدة التثليث وجود حال حياة السيد المسيح

إرسال تعليق
Click to see the code!
To insert emoticon you must added at least one space before the code.