أحاطت
العناية الربانية بالنبي صلى الله عليه وسلم منذ نعومة أظفاره ، فنشأ على
سلامة الفطرة ، ونقاء القلب ، حنيفاً مائلاً عن الشرك ، وتكفي إطلالة سريعة
على سيرته الكريمة قبل البعثة وبعدها ، لتعرف كيف حماه ربّه من الوقوع في
براثن الشرك ، وكيف صانه من هيمنة المنهج الجاهلي المنحرف .
ويأتي
في مقدم ذلك ، استنكافه صلى الله عليه وسلم عن وثنيات قومه ، وتعظيمهم
لآلهتهم التي كانوا يعبدونها ، ويتوجّهون إليها بالدعاء ، ويجعلون لها
النذور ، ويقدّمون لها القرابين المختلفة ، ويذبحون لها الأنعام .
ومن الروايات التي تؤكّد هذه العصمة ، ما جاء في صحيح البخاري عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما ، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث أنه لقي زيد بن عمرو بن نفيل
بأسفل " بلدح " ، وذلك قبل أن ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم
الوحي ، فقُدِّمت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم سفرة فيها لحم ، فأبى
أن يأكل منها ثم قال : ( إني لا آكل ما تذبحون على أنصابكم ، ولا آكل إلا مما ذكر اسم الله عليه ) .
وفي
هذا الصدد ، لجأ أعداء الإسلام إلى روايات تعارض الحادثة السابقة ،
فاتخذوها سلّما للطعن في رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ونقض ما تقرّر من
هذه العصمة الإلهية .
وكان
مستندهم في ذلك ، روايات توهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أكل مما
ذُبح على تلك الأنصاب ، وأخرى نسبت إلى النبي صلى الله عليه وسلّم الأمر
بالذبح لغير الله تعالى .
ومن
المعلوم أن روايات التاريخ فيها الصحيح والضعيف ، وفيها الثابت عن رسول
الله صلى الله عليه وسلم ، وأخرى وقع فيها الوهم أو الخلط من راويها ،
الأمر الذي جعل علماء الحديث يفنون أعمارهم في تمييز الحق وإثباته ، والكشف
عن الباطل والتحذير منه ، ولا سبيل إلى معرفة ذلك إلا بالنظر في أسانيد
الروايات ومراجعة متونها .
فأما ما يتعلّق بأكله مما ذُبح على النصب ، فقد روى الإمام أحمد في مسنده و الطبراني في معجمه ، و البزار في مسنده ، وذكر الرواية الإمام الهيثمي في مجمع الزوائد ، كل ذلك من طريق المسعودي حيث قال : حدثنا نفيل بن هشام عن أبيه ، عن سعيد بن زيد رضي الله عنه قال: " مر زيد بن عمرو بن نفيل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه زيد بن حارثة
، فدعواه إلى سفرة لهما فقال : يا ابن أخي إني لا آكل مما ذبح على النصب ،
قال : فما رؤي رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك اليوم أكل مما ذبح
على النصب .
إن
الزيادة الموهمة في الرواية السابقة : " فما رؤي رسول الله صلى الله عليه
وسلم بعد ذلك اليوم أكل مما ذبح على النصب " معلولة لا تصحّ عند أهل الحديث
، وآفتها المسعودي ، واسمه عبد الرحمن بن عبد الله المسعودي ، فهذا الراوي قد اختلط في آخر حياته ، حتى إن الإمام أبو حاتم البستي قال عنه في كتاب " المجروحين " : " وكان المسعودي
صدوقاً ، إلا أنه اختلط في آخر عمره اختلاطا شديدا حتى ذهب عقله ، وكان
يحدث بما يجيئه فحمل ، فاختلط حديثه القديم بحديثه الأخير ولم يتميز ،
فاستحق الترك " .
ثم إن الحديث عن المسعودي قد رُوي بلفظين مختلفين ، فقد جاء في رواية أبي قطن
بلفظ : " وما رؤي رسول الله صلى الله عليه وسلم آكلا مما ذبح على النصب " ،
فهذه الرواية تنفي عن النبي صلى الله عليه وسلم هذا الفعل مطلقا ، سواء
أكان قبل لقائه ب زيد أم بعدها ، يقول الإمام الذهبي : " فهذا اللفظ مليح يفسر ما قبله ،وما زال المصطفى محفوظا محروسا قبل الوحي وبعده " .
ولئن سلمنا من هذه العلّة ، فلن نسلم من العلة التي تليها ، وهي جهالة حال نفيل بن هشام بن سعيد وأبيه ، : قال صاحب " تعجيل المنفعة " : نفيل بن هشام : روى عنه وكيع ، وقال يحي بن معين : لا أعرفه ) ، وأبوه لم يوثّقه غير ابن حبان كعادته في توثيق المجاهيل ، والحاصل أن هاتين العلتين مما توجبان ردّ هذه الرواية وعدم قبولها .
وننتقل إلى الكلام عن الرواية الثانية ، وهي التي رواها البزار في مسنده ، و النسائي في سننه الكبرى ، وذكرها الإمام الذهبي في السير ، من طريق محمد بن عمرو عن أبي سلمة بن عبد الرحمن و يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب عن أسامة بن زيد عن زيد بن حارثة
رضي الله عنه قال : " خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مردفي إلى نصب
من الأنصاب ، فذبحنا له شاة ثم صنعناها له ، حتى إذا نضجت جعلناها في
سفرتنا .....- إلى أن قال - وأناخ رسول الله صلى الله عليه وسلم البعير
الذي تحته ، ثم قدمنا إليه – يعني إلى زيد بن عمرو بن نفيل - السفرة التي كان فيه الشواء ، فقال : ما هذا ؟ ، قلنا : هذه الشاة ذبحناها لنصب كذا وكذا ، فقال زيد بن عمرو
: إني لا آكل شيئا ذُبح لغير الله . ثم تفرقنا ، وكان صنمان من نحاس يقال
لهما "إساف ونائلة " ، فطاف رسول الله صلى الله عليه وسلم وطفت معه ، فلما
مررت مسحت به ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (لا تمسه ) - وفي مسند أبي يعلى : ( لا تمسحهما فإنهما رجس ) - وطفنا ، فقلت في نفسي : لأمسنه أنظر ما يقول ، فمسحته ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا تمسه ؛ ألم تنه ؟ ) . قال : فوالذي أكرمه وأنزل عليه الكتاب ، ما استلم صنما حتى أكرمه الله بالذي أكرمه وأنزل عليه الكتاب " .
ونلحظ في الرواية السابقة ما يلي
أولا : أن في سند هذه الرواية محمد بن عمرو بن واقصة الليثي ،وقد قال فيه الحافظ : " صدوق له أوهام " ، وقال الجوزجاني وغيره :" ليس بقوي " ، بل قال الإمام الذهبي عنه في معرض كلامه عن هذه الرواية بعينها : " لا يحتج به " .
ثانياً : أن الزيادات التي وردت في هذا الحديث هي زيادات منكرة ، ويدلّ على ذلك الأوجه التالية :
الوجه الأول : كيف يصحّ أن يُنسب إلى النبي صلى الله عليه وسلّم الأمر بالذبح لهذا النصب ، وفي الحديث ذاته ينهى مولاه زيد عن فعل أدنى درجات التعظيم للنصب ، وهو مسّ النصب ، ثم تعليله لذلك بأنها رجس ؟ ، ولذلك يقول الإمام الذهبي : " وكيف يجوز ذلك وهو عليه السلام قد منع زيدا أن يمس صنماً ؟ ، وما مسه هو قبل نبوته ، فكيف يرضى أن يذبح للصنم ؟ ، هذا محال " .
الوجه الثاني : جاء في مسند الإمام أحمد عن جار ل خديجة رضي الله عنهما ، أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول ل خديجة : ( أي خديجة ، والله لا أعبد اللات أبدا ، والله لا أعبد العزى أبدا ) ، قال : فتقول خديجة : " خلّ العزى " ، فهذا يدل على أنه صلى الله عليه وسلم ما عُرف من حاله ولا مقاله تعظيمه للنصب على أي وجهٍ كان .
الوجه الثالث : هذه الزيادات التي وردت في هذه الرواية تخالف سرد القصة عند الإمام البخاري ، فقد جاءت رواية الإمام البخاري
لتفيد أن النبي صلى الله عليه وسلّم هو الذي أبى أن يأكل مما ذُبح على
النصب ، كما تقدّم في بداية البحث ، وهذه الرواية هي التي ينبغي أن نعوّل
عليها ؛ لأننا نعلم أن الأمة قد أجمعت على تلقّي هذا الكتاب بالقبول ، كما
ذكر ذلك غير واحد من الأئمة ، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية : " فليس تحت أديم السماء كتاب أصح من البخاري و مسلم بعد القرآن " ، ولأننا نعلم مدى عناية الإمام البخاري
في اختياره لأحاديث كتابه ، فقد انتقى تلك الأحاديث من حوالي ستمائة ألف
حديث يحفظها ، وكان يصلّي ركعتين عند كتابة كل حديث ، حتى أتم كتابه خلال
ستة عشر سنة ، يقول الإمام البخاري في ذلك :
" صنفت الصحيح في ست عشرة سنة ، وجعلته حجة فيما بيني وبين الله تعالى " ،
ولم يكتف بذلك ، بل عرض كتابه على كبار الأئمة في زمانه ، فاستحسنوه
وأشادوا به ، والكلام في البخاري وكتابه يطول ، وحسبنا أن نشير إلى بحث تم بسط المقال فيه عن ذلك بعنوان : " الدفاع عن الصحيحين دفاع عن الإسلام " ،
والمقصود أن وجود مثل هذا الاختلاف مع اتحاد القصة يفيد نكارة مثل هذه الزيادات .
فالثابت
قطعاً أن النبي صلى الله عليه وسلم ما ذبح لصنم قط ، وما أكل مما ذُبح
تعظيماً لآلهة باطلة ، وبذلك تكون هذه الحادثة شاهداً جديداً على الكمال
الذي وصل إليه النبي صلى الله عليه وسلم ، والعصمة التي جعلته بمعزل عن كل
ما يُستقبح ، والله الموفق .
المصدر اسلام ويب
إرسال تعليق