0

إن التأمل في حياة المفكرين والفلاسفة والأدباء والعلماء، والوقوف على أسباب تحولاتهم الفكرية، وتقلباتهم الحياتية، يعطينا انطباعا مغايرا عما يروج عنهم سواء في وسائل الإعلام أو في غيرها، لأنه في كثير من الأحيان ينهار صرح العقلانية والتجرد في البحث، باعتراف صادق منه في لحظة فارة من ضغط الأضواء وبريقها.


سنحاول في هذا المقال السير مع رجل شغل عصره، ولا زالت دوحة فكره تظلنا إلى اليوم، رجل فقد الله، وبحث عنه بصدق في رحلة مزجت بين حب العلم التجريبي المادي، والإصغاء لأنين الروح في الخلوات.


إنه الدكتور مصطفى محمود ضيفنا في هذه المقالة.


في البداية كان السؤال والتمرد

يقول الدكتور: “كان ذلك منذ زمن بعيد لست أذكره… ربما كنت أدرج من الثالثة عشرة إلى الرابعة عشرة وربما قبل … بدأت في مطالع المراهقة أتساءل و أسائل أقراني في تمرد: تقولون أن الله خلق الدنيا، لأنه لابد لكل مخلوق من خالق، ولكل صنعة من صانع ولابد لكل موجود من موجد، صدقنا وآمنا … فلتقولوا لي إذن من خلق الله؟ أم أنه جاء بذاته؟ وإذا كان قد جاء بذاته وصح في تصوركم أن يتم هذا الأمر، فلماذا لا يصح في تصوركم أن الدنيا بذاتها بلا خالق وينتهي الإشكال؟
كان وراء ذلك الجدل زهوي بعقلي الذي بدأ يتفتح، وإعجابي بموهبة الكلام، ومقارعة الحجج التي انفردت بها … وليس البحث عن الحقيقة ولا كشف الصواب”.


“لقد رفضت عبادة الله لأني استغرقت في عبادة ذاتي…”.


إن هذه الكلمات تجذبنا إلى عمق المسألة، وكما رأينا مع “أنتوني فلو“، أن الإشكال الذي صادفه في الفترة المراهقة ظل يؤرقه،و هذا ما أكده الدكتور مصطفى بقوله: “لقد احتاج الأمر ثلاثين سنة من الغرق في الكتب و آلاف الليالي من الخلوة والتأمل والحوار مع النفس وإعادة النظر ثم إعادة النظر في إعادة النظر”.


لماذا طال المسير؟

إنها رحلة الثلاثين سنة، رحلة البحث الدؤوب في الطريق الشائكة إلى الله، والتي عرقل صوتَ الفطرة فيها حسب ما قال انبهاره بالحضارة الغربية المادية، وسلطة العلم التجريبي. يقول: “لو أني أصغيت لصوت الفطرة … لقادتني إلى الله، ولكن جئت في عصر تعقد فيه كل شيء، وضعف صوت الفطرة حتى صار همسا، وارتفع صوت العقل حتى صار لجاجة وغرورا واعتدادا”.


و كأني بالدكتور مصطفى يكتب هذه الآن، في خضم هذه الموجة الإلحادية الجديدة، التي تتلبس بلبوس العلم الطبيعي، واستأسدت، وطغت، وعلا ضجيجها، فباتت تحاول اختراق حياتنا المعاصرة لتمحق بقايا الروح فيها و تسلب منا الإله، باسم العلم والمذهب الطبيعي، ونستحضر قول ألفن بلانتجا: “من المفارقات المؤلمة أن بعض رجال الدين في نهاية العصور الوسطى، وقفوا في وجه العلم، لأنه يهدد إيمانهم بالإله، وفي القرن العشرين يقاوم البعض ما توصل إليه العلم، لأنه يمهد للإيمان بالله”.


إن هذا الانبهار بالعلم الطبيعي الذي أخذ بلب دكتورنا، هو الذي ينخر عقول شبابنا اليوم، ويفتح أبواب الأسئلة أمامهم، ويكرس صورة “أن الغرب هو التقدم… وكأن الشرق العربي هو التخلف والضعف والتخاذل والانهيار تحت أقدام الاستعمار، وكان طبيعيا أن نتصور أن كل ما سيأتينا من الغرب هو النور والحق”.


لقد سار الدكتور على الدرب، والتحق بكلية الطب، وغاص في البحث العلمي، وتقلب في التصورات حول الألوهية، فأَسَرَته فكرة وحدة الوجود الهندية، لكن سرعان ما انقشع ضباب هذه “الماريجوانا الصوفية”، لكن في رحلته للوصول إلى الله عز وجل، ظلت عيناه تتلمح مظاهر الاتساق في الكون والنظام وانهيار الصدفة والعشوائية، حيث يقول: “إن القول بأن كل هذا الاتساق حدث بعشوائية وصدفة هو السذاجة بعينها، كقولنا إن انفجارا في مطبعة أدى إلى تراص الحروف على هيئة قاموس محكم”، ويضيف: “أن التوازن العظيم و الاتساق المذهل و التوافق و التلاحم و الانسجام الذي يتألف منه ملايين الدقائق والتفاصيل، يصرخ بأن هناك مبدعا لهذه البدائع، وأنه إله قادر جامع لكل الكمالات، إنه الإله الذي وصفته الأديان، وليس القانون الأصم الذي تقول به العلوم المادية البكماء”.


الإنسان كائن متجاوز للمادة

إن محاولة فهم الإنسان في قالب مادي لا تنتهي إلا باختزاله في مكونات كيميائية وإشارات كهربية أو “حثالة كيمائية” بتعبير هوكينغ، تعد نظرة قاصرة في تفسير هذا الكائن المتعالي و المتجاوز، باني الحضارات وصاحب العقل المتفلسف، يقول الدكتور مصطفى: “أثناء دراستي للتشريح، كنت أتصور أني يمكن أن أفهم الروح إذا شرحت الجسد ولا فرق بين الاثنين… الروح هو البدن، العقل هو المخ … والشخصية هي ردود الفعل ومجموع الأفعال المنعكسة، والعاطفة في نهاية الأمر جوع إنساني”.


لكن ما الذي حصل لتنقلب هذه النظرة المادية لنقيضها، وتنهار هذه النظرة المادية ليؤمن بثنائية الجسد/الروح؟ من خلال تتبع كتابات الدكتور مصطفى محمود المختلفة، يثبت امتلاكه ملكة نقدية وذهنية متسائلة يقظة إذ يقول: “تنبهت أن الإنسان يضحي بلقمته وبيته وفراشه الدافئ في سبيل أهداف ومثل وغايات شديدة التجريد كالعدل والخير والحق، فأين حوافز الجوع والجنس هنا؟ والمحارب في الميدان يضحي بنفسه على مدفعه في سبيل غد لغيره، لم يأت بعد… أين هذا التفسير المادي؟”.


لقد ظل الدكتور مصطفى يعالج طوال ثلاثين سنة قلقه الوجودي، مسافرا في بحثه للعثور على الأجوبة في قلب الفلسفات الأرضية والأديان الوضعية والانجازات العلمية، متجاوزا فطرته، بسبب سؤال أقلقه في مراهقته صاحبه عتو و اعتداد بالنفس، لكنه حافظ على السؤال و الخلوة مع النفس بصدق، ووصلا بالمقال السابق، لقد قاد العلم أنتوني فلو إلى الله كما قاد الدكتور مصطفى محمود، إلا أن الملاحظ أن القناعة تتولد أوليا، ثم يستتبعها البرهان، والجدال الفلسفي والعلمي، لقد ضيعا-السِّير فلو و الدكتور مصطفى- الله في فترة مبكرة من عمريهما، ليعودا إليه في فترات لاحقة و متقدمة.


إن هذه الرحلات الفكرية تعلم التواضع، وتدفع الكثير من القناعات حول هؤلاء الذي شغلوا الدنيا في زمن من أزمنتها، لنكتشف بحذر أننا لا يقودنا الدليل دوما، فكثيرا ما نقوده.


ملاحظة:

جميع النقولات في هذا المقال من كتاب الدكتور مصطفى محمود “رحلتي من الشك إلى اليقين”، ومن أراد التوسع في الأدلة فقد صاغها في كتابه “حوار مع صديقي الملحد”.

المصدر مركز يقين

إرسال تعليق

 
Top