Latest News

0

“نتبع البرهان إلى حيث يقودنا” هذه الكلمات السقراطية ظلت ترن في أذن الطالب أنتوني فلو، بعدما سمعها من أستاذه جلبرت رايل في أكسفورد، لترافقه طوال ستين سنة من إلحاده، وفي لحظة فارقة، يعتلي السير أنتوني فلو المسرح في الثمانين من عمره، ليعلنها مدوية “لقد صرت أقبل فكرة الوجود الإلهي”، في مناظرة علنية له بجامعة نيويورك سنة 2004، مما جعل وكالات الأنباء تتناقل الخبر، فالملحد الذي قاد قاطرة الإلحاد في النصف الثاني من القرن العشرين، وحوّل دفة النقاش مع المؤمنين – حيث ألقى الكرة في ملعبهم، وحمّلهم مسؤولية إثبات وجود الإله، بعدما ألبس الإلحاد ثوبا فلسفيا رائقا – يعود إلى بيت الإيمان بعد أن غادره في فترة مبكرة من حياته.

نحاول في هذا المقال الوقوف على أهم المحطات في سيرة الرجل، ورحلته البحثية الماتعة، التي أجاد الدكتور عمرو شريف بتسميتها رحلة عقل، و هو يترجم كتاب السير أنتوني فلو هناك إله، الصادر سنة 2007.

“ولد أنتوني فلو سنة 1923، ﻷسرة مسيحية ملتزمة بلندن، كان والده كاهنا من أكبر نشطاء الكنيسة، ومحاضرا في كامبريدج، ورغم هذا لم يشعر الطفل أنتوني بأي ميل لممارسة الشعائر الدينية، مما ولّد في نفسه استغرابا لازمه إلى حدود كتابة مذكراته.
على مستوى آخر أثرت الروح النقدية البحثية التي تحلى بها والده فيه، كما شجعته دعوة مدير مدرسته لزيارة المكتبة وضرورة القراءة على الانفتاح على المعارف ومساءلتها وعدم التسليم إلا للبرهان”.

لقد اكتسب السير أنتوني فلو ملامح شخصية الباحث مبكرا، إلا أن العامل الذي سرّع بدفعه نحو الإلحاد هو معضلة الشر التي يعتبرها البعض صخرة الإيمان التي تتحطم عليها أدلة المؤمنين، فلم ينسلك في ذهنه التوفيق والتناغم، بين الإقرار بأن الله محبة، كلي القدرة، كلي العلم والخيرية، وبين أن يسمح بوجود هذه الكمية من الشرور في العالم، فتهاوى أمامه التصور المسيحي للإله، وأعلن إلحاده في سن الخامسة عشرة أمام أقرانه، ليعلنه رسميا و يغادر منزل العائلة في سن الثالثة والعشرين، وقد أكد في سيرته أن “اﻷفكار التي كونها في صباه قد ظلت معه حتى بلغ الثمانين من عمره وشارف على الموت”.

يبدو أن بذور الإلحاد قد زرعت مبكرا في عقله ووجدانه، لينخرط في نقد اللاهوت بعد اختياره لدارسة الفلسفة، وذلك بعدما استحكمت الرؤية الإلحادية في عقله، وصوبت أفكاره، وقادت بوصلته، فأصدر كتابه زيف اللاهوت، ثم أتبعه سنة 1966 بكتاب الإله والفلسفة، وبلور طرحه الإلحادي في كتابه فرضية الإلحاد سنة 1976، هذه الإصدارات المتوالية التي نازلت الطرح الإيماني بقوة، جعلت السير أنتوني فلو يُعدّ من المسؤولين عن الفكر الإلحادي، إلا أن هذا الموقع لم يسلبه الاستمرار في مناظرة المؤمنين، وعرض حججه الخاصة، مما ساعده في تعديل رؤيته في معالجة موضوع الإيمان، إلى جانب اعترافه أن بعض الردود سبّبت شرخا وصدعا في جدار الصد عنده.

لقد تميز السير أنطوني بعقلية فلسفية نقدية، جعلته يقارب اﻷدلة الإيمانية التي تنطلق مقدماتها من معطيات علمية، كبرهان التصميم، والبرهان الإنتروبي، وبرهان الضبط الدقيق، معتبرا أن التقدم العلمي كشف عن إشارات واضحة تدل على الإله الخالق حددها في:


● خروج الكون من عدم، وانهيار نظريات أزلية الكون، أمام نظرية الانفجار العظيم التي تعد أفضل التفسيرات لسيناريو البداية.
● انتظام الطبيعة وفق قانون يستدعي وجود مقنن.
● نشأة الخلية بما فيه من دقة، وغائية، وذكاء.
● تهيئة الكون لاستقبال البشر.
● معجزة العقل.

لقد اشتغل أنتوني فلو في هذه المرحلة بتحليل هذه المعطيات العلمية الحديثة، لأن الفيلسوف في نظره “هو الذي يخرج من المعلومات العلمية باستنتاجات معرفية، ربما لا يعرف الكثير من البيولوجيين عنها أكثر مما يعرفه بائع المثلجات عن القواعد التي تحكم البورصة”، هذا التحليل قاده إلى القول بوجود إله واحد واجب الوجود، غير مادي، مطلق القدرة، مطلق العلم، كامل الخيرية، واعتبر أن معضلة الشر رغم قوتها إلا أن فهمها بشكل أعمق لا يجعلها تنفي الخالق بقدر ما تشكك في بعض صفاته، كما أن الشر بنوعيه الطبيعي والمكتسب يمكن تلمس الحكمة فيه بالنظر في اﻷول إلى أن الطبيعة محكومة بقوانين مما يسمح بحدوث الزلازل والكوارث، وهذا خير من الفوضى والعشوائية، أما الشق الثاني فيرتبط بالإرادة الإنسانية وكل هذه الشرور تعود بالخير سواء بالترقي الروحي أو الحضاري، إلى جانب ما يعتري الفلاسفة من صعوبة في تعريف قيم الخير والجمال والحق، مما يجعل معضلة الخير لا تقل صعوبة عن نقيضتها.

لقد انتهى إلى الإيمان بوجود الإله تطبيقا لمبدأ سقراط، مع فتحه الباب لإمكانية تواصل الإله مع البشر، ورحّب بالفكرة إن وَجَدَ لها دليلا، قائلا : “لا مانع عندي من تقبل فكرة أن يكشف الإله عن نفسه لمخلوقاته من خلال الوحي وإرسال الرسل إذا وجدتُ دليلا على ذلك”، لكن المنية قد وافته قبل إتمام مشواره فانتهى ربوبيا .
نخلص في نهاية المقال إلى نقاط ثلاث :

أولا: مسألة الإيمان والإلحاد مسألة تناقش على أرضية فلسفية يشكل العلم فيها مقدمات يبنى عليها فقط، فاﻷسئلة التي انتزعت الإيمان من السير أنتوني فلو تركزت في معضلة الشر واﻷلم وفي فترة مبكرة من حياته.


ثانيا: جدية مسألة الإيمان و الإلحاد تتطلب رصانة فكرية، وصرامة منهجية، تُبحث فيها القضايا بحياد، وهذا ما حاول السير أنتوني فلو فعله طوال ستين سنة، ليدفع شبهة علقت بذهنه وشكلت مساره.


ثالثا: البحث عن الحقيقة يتطلب الحوار الجاد، وهذا ما أسس له القرآن العظيم بقول الله عز وجل: “هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين”.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ملاحظة: اعتمدت في المقال على سيرة السير أنتوني فلو بترجمة الدكتور عمرو شريف في كتابه رحلة عقل.

إرسال تعليق

Emoticon
:) :)) ;(( :-) =)) ;( ;-( :d :-d @-) :p :o :>) (o) [-( :-? (p) :-s (m) 8-) :-t :-b b-( :-# =p~ $-) (b) (f) x-) (k) (h) (c) cheer
Click to see the code!
To insert emoticon you must added at least one space before the code.

 
Top